وجهة نظر

حزب العدالة والتنمية بين سياسة التوافقات وانتظارات المواطنين

باستحضار التاريخ السياسي للمغرب منذ فجر الاستقلال حتى وقتنا الراهن، يمكننا القول إن حزب العدالة والتنمية شكل ظاهرة حزبية وسياسية فريدة. على الصعيد الحزبي عرف البيجيدي كيف يحقق شعبية مكنته من حصد أكثر من 120 مقعدا برلمانيا في آخر انتخابات، وعلى الصعيد السياسي خلق الحزب رواجا سياسيا وصل إلى المواطن البسيط الذي أصبح يهتم بالشأن الحزبي ويتابع جلسات البرلمان خاصة في عهد رئيس الحكومة السابق السيد بنكيران، كما أن الاهتمام بالشأن الحزبي وصل إلى المناطق النائية وإلى المغرب العميق. وبعد عقدين من التسيير، يمكننا الآن إعطاء بعض الأحكام عن تجربة حزب بصم السياسة في المغرب بأطروحاته وخرجات قيادييه، حتى أصبح الإعلام لا يكاد يخلو من تتبع أخبار الحزب في كل جريدة ورقية أو إلكترونية وبشكل يومي. هذه الأحكام اختلف حولها المغاربة وتعددت آرائهم.

الفترة التي قضاها حزب العدالة والتنمية في تسيير الشأن العام منذ 2011، لا يمكن فصلها عن تاريخه كحزب انبثق من حركة إسلامية قامت بمراجعات مستمرة، حتى وصلت إلى القناعات الحالية التي يُصرفها الحزب في ممارسته السياسية وخاصة في علاقته مع الدولة ومع المؤسسة الملكية. المراجعات الفكرية التي قام بها أعضاء الجماعة الإسلامية التي تحولت إلى حركة الإصلاح والتجديد ثم حركة التوحيد والإصلاح فحزب البيجيدي، أفضت إلى اعتبار الحزب جزء من مكونات المجتمع المغربي وليس هو المكون الأوحد، وأن التعايش المشترك هو أساس الوطن المنشود، واحترام اختيارات الآخر أساس من أسس الحزب “لا إكراه في الدين”، وأن الممارسة السياسية الجادة هي تلك التي تخدم الصالح العام وتطور المعيش اليومي للمواطن البسيط، وليست هي تلك الممارسة التي تناقش الناس في لباسهم وعبادتهم ومعتقداتهم. من هنا أتى مفهوم التمايز في ثقافة الحزب وخاصة التمييز بين المؤسسة المدنية والمؤسسة الدينية واعتبار أن لكل مؤسسة منطق خاص وتدبير مختلف ويجب تفادي الخلط في كيفية تدبير المؤسستين. لكن المراجعة الفكرية التي يمكننا اعتبارها العمود الفقري لمنهجية الحزب في ممارسته للسياسة، هي الموقف من الدولة والمؤسسة الملكية. فالحزب يؤمن إيمانا قاطعا بأن المؤسسة الملكية هي الجامع والضامن لوحدة المغرب والمغاربة، واستقرار البلد السياسي وتحقيق أمنه الروحي. أما بخصوص الدولة فتقوم المراجعات الفكرية على أساس التعامل معها بتغليب منطق التفاهم “نتعاون مع الغير في سبيل الخير”، وإذا تعذر ذلك فالسبيل هو النضال الديمقراطي في إطار ما يسمح به القانون ومؤسسات الدولة.

هذه هي أهم المراجعات التي قام بها حزب العدالة والتنمية قبل دخوله معترك تدبير الشأن العام. وهي مراجعات مبنية على قناعات مُنظري الحزب وأعضائه، ومستحضرة لتاريخ الصراع بين الدولة والمعارضة منذ فجر الاستقلال. هذا الصراع السياسي فَوَّت على المغرب عدة فرص لتحقيق التقدم والإقلاع الاقتصادي، وأوصل البلاد إلى اعتماد برنامج التقويم الهيكلي الذي أدى فيه المواطن البسيط الثمن غاليا، وتضرر فيه قطاع التعليم وقطاع الصحة والتشغيل بشكل كبير. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أوصل البلاد إلى ما يُعرف بالسكتة القلبية التي أفرزت حكومة التناوب.

دخل حزب العدالة والتنمية انتخابات 2011 بسقف مرتفع من الأهداف وطموح عال في البرامج. لكن المحدد في ممارسته السياسية ليس هذه الأهداف والبرامج، ولكن كذلك المراجعات الفكرية السالفة الذكر والتي يمكن اعتبارها بوصلة الحزب في تعامله مع الفرقاء السياسيين وكذلك الدولة والمؤسسة الملكية، لأن الحزب يعي جيدا أن هناك توازنات يجب ضبطها مع المؤسسة الملكية والدولة والحلفاء السياسيين، وتلك هي العناوين الرئيسية للنظام السياسي المغربي. دخل الحزب معترك التدبير العمومي وبدأت تظهر العديد من وجهات النظر المختلفة مع دولة لها منهجيتها الخاصة وطريقتها في التدبير العمومي وهي نتيجة تراكمات عدة عقود من العمل مع مختلف الأحزاب السياسية. نكتفي بهذا الصدد ذكر حادثة منع تجمع جماهيري لرئيس الحكومة الأسبق السيد عبد الإله بنكيران في طنجة من قبل والي المدينة، وهي سابقة في التاريخ السياسي للبلد، وحادثة تجاوز بعض الوزراء مؤسسة رئاسة الدولة كما وقع مع وزير التعليم في حكومة السيد بنكيران ووزير الخارجية في حكومة د. سعد الدين العثماني. تعامُل الحزب مع الخلاف الذي قد يحصل سواء مع الدولة أو المؤسسة الملكية، كان دائما وفق المرجعيات الفكرية التي قام بها الحزب قبل دخوله معترك التدبير العام، لدرجة يمكننا القول إنه ظل وفيا لخطه السياسي الناتج عن هذه المراجعات وقناعته الراسخة في تغليب التوافق والصبر على بعض القرارات التي قد تعتبر مؤلمة بالنسبة للحزب ولخطه السياسي. في هذا المجال نذكر مقولة بنكيران “إلى بغاوا المغاربة رئيس حكومة يختلف مع ملك البلاد فليبحثوا عن رئيس آخر، فلستُ أنا من سيقوم بذلك”.

نخلص إذا إلى أن كل القرارات التي اتخذها حزب العدالة والتنمية، كانت منسجمة مع أطروحته الفكرية المنبثقة عن المراجعات التي قام بها أعضاء الحركة الإسلامية قبل دخولهم معترك العمل الحزبي. كما أنها قرارات وإن كانت مؤلمة، فهي تستحضر خلاصات الصراعات التي عرفها التاريخ السياسي للبلد والتي لم ينتج عنها أي خير يستفيد منه المواطن البسيط، بل ساءت أحواله بسبب برنامج التقويم الهيكلي والسكتة القلبية التي أصابت البلد.

إذا كان حزب العدالة والتنمية قد دبَّر فترة الحكومتين على أساس المبادئ والرؤى التي تمخضت عن المراجعات الفكرية، فهل الناخب والمواطن البسيط فهم أو تفهم هذا الاختيار؟ وكيف تعاطى المواطن المغربي مع السقف العالي لبرامج الحزب والتوافقات التي اضطر للقيام بها مع الفرقاء في الأغلبية؟ وهل استشرفت النخب السياسية أوضاع البلد لو سار حزب العدالة والتنمية في تغليب الصراع على التوافق؟ الجواب عن هذه الأسئلة يمكننا تناوله من جانبين: أولا نتائج تدبير الشأن العام وفق منظور الحزب القاضي بتغليب سياسة التوافق على سياسة التصارع مع باقي الفرقاء السياسيين، هي بين أيدينا ونعرف مُخرجاتها جيدا، وكل مواطن يمكنه تكوين قناعته حولها حسب الزاوية التي تهمه. فالفئات التي استفادة من الدعم المباشر والتي ستستفيد من تعميم التغطية الاجتماعية سترى أن وضعها أفضل مما سبق. أما الطبقات الوسطى التي تضررت وإن بشكل متفاوت، قد يكون لها رأي أخر لكنها تملك من الثقافة والفهم ما يجعلها تقارن بين وضعيتها الحالية ووضعيتها المفترضة لو سار الحزب في خلق الصراعات كما كان سائدا في مراحل سابقة، والكل يعلم النتائج الوخيمة لتلك الصراعات على المعيش اليومي للمواطن وعلى اقتصاد البلد. الجانب الثاني في تناولنا للجواب حول مدى تفهم المواطن لاختيارات الحزب يقوم على أساس فرضية أن البيجيدي ابتعد عن بعض مراجعاته الفكرية وسار في طريق الصدام مع الدولة والصراع مع الفرقاء السياسيين من أجل تسريع وتيرة الإصلاح ونذكر هنا قوانين الاغتناء الغير مشروع والضريبة على الثروة التي لم يحصل فيها توافقا مع باقي الفرقاء في الأغلبية الحكومية. الأكيد أن الحزب لم يسلك هذا الطريق، وبالتالي لا تتوفر لنا معطيات لكي نتطرق للنتائج. لكن بالرجوع إلى فترة الصراعات السياسية التي شهدها المغرب والتي أوصلت البلاد إلى برنامج التقويم الهيكلي وبعده السكتة القلبية، أكيد أننا سنجد الجواب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *