وجهة نظر

حديث في عيد العمال

يحل عيد الشغل أو العيد العالمي للعمال على غير العادة في طقوس باردة ذاب فيها جليد الاحتفالات الجماهيرية والمهرجانات الخطابية، في ظل ظرفية خاصة واستثنائية مرتبطة بجائحة كورونا التي لازالت تفرض سلطتها وقبضتها على العالم بمشارقه ومغاربه منذ ما يزيد عن السنة، مصرة على ممارسة المزيد من الارباك والفتك والألم، وهي جائحة غير مسبوقة في تاريخ العالم، كانت لها آثارا وتداعيات مباشرة على عدد من القطاعات والأنشطة التجارية والخدماتية، كان لها عميق الأثر على عالم المقاولة والأعمال وخاصة على الأجراء الذين يحركون عجلة الحياة الاقتصادية بكل أبعادها ومستوياتها، مما فرض على الدول استعجال حزمة من التدابير والإجراءات التي تحكمت فيها الرغبة في إنقاذ النسيج الاقتصادي من الانكماش والإفلاس، وفي ذات الآن حماية الشغيلة من شبح البطالة والفقر والبؤس خاصة في ظل تضرر الكثير من الأنشطة عن العمل وتوقف أو إفلاس بعضها.

لم يخرج المغرب عن الاستثناء أو القاعدة، وبدا واضحا عمق الضرر الاقتصادي والاجتماعي بسبب فرض حالة الطوارئ الصحية وما ارتبط بها من حجر صحي ومن تقييد للحريات والتحركات، كما بدا واضحا الفراغات الشاسعة التي تعتري مجال الحماية الاجتماعية ومدى تعمق بؤر القطاع غير المهيكل وما يرتبط به من فقر وبطالة وهشاشة وإقصـاء، فكان لابد من استعجال تقديم الدعم الاجتماعي للفئات الاجتماعية المتضررة بشكل مباشر من الجائحة وسن عدة تدابير لدعم المقاولة بما يضمن منحها جرعات تساعد على الصمود والاستمرارية، وهو دعم مادي كان يصعب تدبيره قياسا لحجم الضرر، لولا صندوق محاربة جائحة كورونا الذي أعلن عنه الملك محمد السادس، مما خفف من حجم الأزمة وحجم الضرر، ومكن بالتالي من الحفاظ على التماسك الاجتماعي والاستقرار الأمني، لكن ورغم ما بـذل من جهد، فالجائحة لم تكن رحيمة بالنسبة للكثير من الشغيلة في ظل الحالة العامة للانكماش الاقتصادي الوطني، التي أرخت بكل تداعياتها على الكثير من المقاولات وعلى الكثير من الأنشطة التجارية والسياحية والخدماتية من قبيل قطاع الفنادق والمطاعم والمقاهي والنقل السياحي والطيران ونقل المسافرين وتموين الحفلات والسينما والمسرح والفنون والمطابع والصحافة الورقية والحمامات والرشاشات العمومية وغيرها من القطاعات والمهن التي لايسع المجال لاستعراضها، بكل ما لذلك من آثار اجتماعية ونفسية.

يحل العيد العمالي في ظل سنة حملت المعاناة للشغيلة بكل فئاتها ومستوياتها، وهي سنة يمكن إدخالها في خانة النسيان في ظل تعطل أو تعطيل عجلة الحوار الاجتماعي، مما أجج نيران الاحتجاج والاحتقان في عدد من القطاعات، لعل أبرزها ما جرى ويجري في قطاع التعليم من أشكال نضالية متعددة المستويات لازال جمرها متوهجا في “مجمر الاحتقان”، وفي غياب لغة الحوار والتواصل والرغبة المشتركة في معالجة القضايا الشائكة، كانت الشوارع قبلة للمحتجين والغاضبين في مشهد نضالي تعليمي تحضر فيه مفردات التشرذم والشتات والأنانية والعبث، التي تحول دون تقديم ملف مطلبي عملي مشترك يستحضر مشاكل المهنة في أبعادها الشمولية بعيدا عن جائحة الفئوية المزعجة، التي تضيع معها تلك الرؤية الإصلاحية الشمولية التي من شأنها أن تؤسس لنظام أساسي جديد يعيد الاعتبار والكرامة والتحفيز المفقود، وإذا كان من الصعب تعليق الكثير من الأمل حول ما سيتحقق بعد فتح الوزارة الوصية لبوابة الحوار القطاعي ونحن نعيش آخر أنفاس عمر الحكومة، فما هو مؤكد وباد للعيان، أن الاحتقان في قطاع استراتيجي من قبيل التعليم، له تكلفة تتجاوز حدود المساس بحقوق المتعلمات والمتعلمين والتشويش على سيرورة السنة الدراسية، إلى مستوى هدر زمن الإصلاح واستنزاف المال العام والإسهام بقصد أو بدونه في ضرب قيمة ورمزية قطاع حيوي واستراتيجي، يعد طريقا للمواطنة الحقة والتنمية والاستقرار والنجاح والرقي والازدهار.

عيد عمالي استثنائي في زمن استثنائي، كان يمكن أن نضعه في خانة النسيان بعدما أقفلت نوافذ وأبواب الحوار والتواصل، لكن ومن باب حسنات جائحة كورونا، واعتبارا للرؤية المتبصرة للملك محمد السادس، دخل المغرب بجرأة وشجاعة في صلب ثورة اجتماعية حقيقية مرتبطة بالحماية الاجتماعية التي ستدخل الملايين من المغاربة في دائرة الحماية الاجتماعية والصحية، بكل ما لذلك من آثار اجتماعية ونفسية مرتبطة في مجملها بالكرامة والعدالة الاجتماعية في أبعادها الشاملة، وهي ثــورة لايمكن فصلها عن الإجراءات والتدابير الرائدة التي اتخذها الملك في إطار معالجة الآثار الاقتصادية والاجتماعية للجائحة، وعلى رأسها إحداث صندوق محمد السادس للاستثمار الذي يعول عليه للنهوض بمستوى الاقتصاد الوطني ومواصلة المشاريع التنموية الكبرى من بنيات تحتية قوية ومنصات صناعية، ومن رهانات على الرفع من قدرات المجال الفلاحي في إطار مخطط الجيل الأخضر واستراتيجية غابات المغرب، في أفق تنزيل ما سيحمله النموذج التنموي المرتقب من مشاريع إصلاحية كبــرى.

عموما، فبقدر ما كانت الجائحة قاسية خاصة على المقاولة والأجراء، بقدر ما كشفت عن سوءة ما يعتري ممارساتنا من ضعف ومحدودية وتواضع، مما فرض تصويب الرؤية وتصحيح المسار، باستعجال سد الفراغات والفجوات التي تعتري واقع التنمية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، عبر ما تم اتخاذه من تدابير وإجراءات، في طليعتها مشروع الحماية الاجتماعية والتحرك من أجل إدماج القطاع غير المهيكل في النسيج الاقتصادي الوطني، وهي أوراش مفتوحة من ضمن أخــرى، تفرض التعبئة الجماعية والتحلي بما يلزم من قيم المواطنة الحقة والالتزام والتضحية والنزاهة والانضباط، كما تفرض الانخراط في ثورة موازية ضد كل من يعيق حركية الوطن من الفاسدين والعابثين عبر تفعيل أمثل لمبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، والرهان على الرفع من قدرات القضاء، بما يضمن تحقيق العدالة والمساواة وحقوق الإنسان وإعطاء نفس جديد لدولة الحق والقانون، مع الحرص على تفعيل قنوات الحوار الاجتماعي بشكل مؤسساتي ومستدام لمعالجة المشاكل الاجتماعية القائمة، بما يتطلب ذلك من مسؤولية وواقعية والتزام وبعد نظر، في إطار الحرص على الأمن والسلم الاجتماعيين، وتقوية الجبهة الداخلية استحضارا لما يواجه الوحدة الترابية من تحديات، ونختم بأن نبارك للشغيلة عيدها العمالي العالمي في المغرب كما في العالم، وبأن نتمنى الالتفات إلى واقــع الشغيلة التعليمية، فمن غير المقبول، أن يظل الاحتقان جمرة متوهجة في زمن الإصلاح، ومن غير الممكن أن نتطلع إلى مغرب ما بعد كورونا وإلى النموذج التنموي المرتقب، بتعليم بات بيته الداخلي كبيت العنكبوت، كله ضعف ووهن وعبث وانحطاط …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *