وجهة نظر

مملكة العسكر…

من مسلمات علم السياسة، أن المصطلحات السياسية لها حقلها المعرفي الذي يرتبط بها، لكنها قد تخضع للتغيير بناء على السياق والمفهوم الذي فرض نفسه تداولا وعرفا، لذا قد تكون في ظاهر عبارتها ذات مدلول واحد، وفي باطن ممارستها ذات مفهوم مغاير، قد يبنى على القياس وقد يبنى على الواقع الذي فرض عليه.

ومصطلح ” مملكة ” في واضح عبارته ومدلوله،هو تعبير عن النظام الملكي الذي هو تداول السلطة بالوراثة عبر سلالة عائلية تكتسب شرعيتها بإجماع الشعب، فيكون الملك هو الحاكم الفعلي للدولة، ولا خلاف على شرعيته ورمزيته قانونا وعرفا ودينا. ومقابل النظام الملكي يأتي النظام الجمهوري، حيث يحمل في عبارته معنى تداول السلطة، وفقا لمجموعة من المعايير تخضع للمتغير السياسي وحراكه داخل الدولة، ليكتسب من توافقت معه هذه المتغيرات، أن يمسك زمام حكم الدولة وعلامته الأبرز أنه إفرازشعبي لكسب السلطة ديمقراطيا. إلى هنا نكون مع مسلمات بديهية في أوليات ومبادىء المفهومين في علم السياسة، لكن أن يضرب المفهوم في صلب ديمقراطيته، بأن نرى عكس المصطلح في ممارسته، هو ما نراه واقعا ملموسا بدولة الجزائر، باعتبارها جمهورية في عنوانها ملكية في ممارستها، ولكن هذه المرة ملكية ليس في شرعية الشخص، بل في هيئة المؤسسة، وهي مؤسسة العسكر، ما يفرض استثناء على العلوم السياسية مصطلح ( المؤسسة الملك ) ومن تم يكون هذا المعنى عاملا للوقوف على مجموعة من التهديدات التي تقسم الاستقرار داخل الدولة سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. لأن ( المؤسسة الملك ) تختلف جملة وتفصيلا في أدبياتها عن ( مؤسسةالملك) فليس الفرق مقترن بأل التعريف كما هو معلوم عند اللغويين والنحويين، بل هو مقترن بدلالة المعنى من حيث روح النص ومعقوله، فإذا كانت ( مؤسسة الملك) من حيث الشكل تعنى بفردية الرمز ف(المؤسسة الملك) من حيث الشكل تعنى بتعددية الرمز، وهذا يفضي إلى الانعكاسات التالية:

في رمزية الفرد، تعنى بوحدة القرار ، وشرعية الممارسة، وفي تعددية الأفراد تعنى بتشعب القرارات والبحث عن نزعة السيادة، وهي ما تحيل عند التساوي على البرغماتية والنفعية المقيتة عند أصحابها.

في رمزية الفرد، تكون الشعوب في توجهها السيادي محاطة بسياج من الأمان السياسي الذي يضمن الاستمرارية ورهانات التنمية، أما في تعددية الأفراد، فتكون الشعوب مختلفة في ولاءاتها مبعثرة في انتمائها مشتتة في أفكارها.

في رمزية الفرد يكون للمؤسسة ضمانات في بقائها، وهو ما ينعكس على استقرار الشعوب من حيث زاوية الحكم والسيادة، وفي تعددية الأفراد يخلق نوع من التوهان السياسي الذي يفضي إلى طريقين لا ثالث لهما، إما الانقسام القبلي المبني على الولاء، ومبناه التعصب، وإما الانكسار الديمقراطي، و كذا القهر الديكتاتوري المبني على الإرغام.

وللأسف الشديد هذا حال دولة الملايين من الشهداء الكرام من الرجال والنساء الذين طردوا المستعمر بأرواحهم ودمائهم وأموالهم ليعلنوا تحرر بلادهم، دولة الشعب الجزائري ( الجزائر ).

فالجزائر خرجت من وطأة الاستعمار الفرنسي لتقع في زمرة الاستعمار الجنرالاتي، هذا الاستعمار الشرس الذي فرض ( المؤسسة الملك ) بسياسته النفعية النخبوية التي تستحوذ على جل الخيرات التي حبا الله تعالى بها الجزائر، وهي المؤسسة التي تعددت فيها رغبات الملوك في الاستحواذ على بحرها وجوها وبرها، فالجزائر من أكبر الدول العربية من حيث المساحة، وهي من الدول الغنية من حيث مصادرالثروة الطبيعية ( الغاز والبترول ) حيث تصنف من الدول الغازية المنتجة للغاز ( تحتل المرتبة الخامسة عالميا )، ومن الدول النفطية المنتجة للنفط ( تحتل المرتبة الخامسة عشر في الاحتياط العالمي). والجزائر تحتوي على الكثير من المعادن والثروات ،أهمّها (الفوسفات الذي يتركز في منطقة الكويف وجبل العنق، والرصاص والزنك اللذان يتركزان في منطقة “عين البربر” قرب منطقة عنابة، بالإضافة إلى الزئبق الموجود في منطقة عزابة، والرخام في منطقة سكيكدة). وغيرها من الثروات والتي جعلتها تصنف من الدول الغنية في العالم، وهو ما يستفهم المرء عن بشاعة ( المؤسسة الملك ) في نهب هذه الثروات حتى جعلت بلد الملايين من الشهداء، أن يصنفوامن أفقر الشعوب، وأن يكون شبابها علامة دولية للهجرة.

فواقع إخوتنا ( الشعب الجزائري ) وفي دراسة نشرتها صحيفة الجزائر في سبتمبر سنة 2017 أن الأوضاع المعيشية للجزائريين، أصبحت مقبورة تحت الكرامة الإنسانية، حيث ارتفعت نسبة البطالة إلى 12.3%، مقارنة بـ10.5% بالعام2016، ومن المتوقع أن ترتفع النسبة لتصل إلى 13.02% في أفق 2020.

وبسبب هذه النسبة المرتفعة من البطالة وصل معدل الفقر في البلاد إلى 7%، بحسب الإحصاءات الرسمية، أو 20% وفق تقديرات خبراء اقتصاديين.
ويتوقع تقرير للبنك الدولي، صدر في سبتمبر الماضي، اتساع رقعة الفقر في الجزائر ، ونزول 10% من الجزائريين تحت خط الفقر.

وطبقاً لتقديرات البنك فإن كل فرد يقل دخله اليومي عن دولار ونصف دولار يعد من هذه الفئة (تحت خط الفقر)، ويبلغ عددالجزائريين حالياً الذين يقل دخلهم اليومي عن 1.5 دولار خمسة ملايين شخص، من بين أكثر من 40 مليوناً هو عدد سكان البلاد.

وتنبأ التقرير بأن ينضم 4 ملايين آخرون إلى العدد الإجمالي، ما يعني أن ربع سكان الجزائر تقريباً سيعيشون تحت عتبة الفقر حتى العام الماضي.وأشار تقرير البنك العالمي إلى توقع انكماش نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد بالجزائر إلى مستوى سلبي، في حدود0.6%.

وزيادة على ذلك عرفت الأسعار أرقاما قياسية أيضاً نجدها محط معالجة حتى في إعلام الجزائر، فقد تضمنت موازنة البلاد للعام الجاري رفع قيمة ضرائب محلية، وفرض
ضرائب جديدة على بعض المنتجات المستوردة والمحلية، في محاولة لتنويع مصادر الدخل بعيداً عن صادرات المشتقات النفطية,

ومع بدء تطبيق الموازنة ارتفعت أسعار الوقود بنسبة تقترب من 17%، في حين زادت أسعار اللحوم بنسبة 4.2%،وارتفعت أسعار الفاكهة إلى 20%.وتوقع البنك الدولي في تقريره السابق قبل جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية التي هزت العالم. أن الافاق الاقتصادية للجزائر تراجعت بشدة.

وقدم صندوق النقد الدولي توقعات سوداء للاقتصاد الجزائري خلال العام الحالي، بتراجع نموه لـ0.8%،مقارنة بـ2% في 2017، و3% في 2016.

وذكر صندوق النقد، في تقريره حول آفاق الاقتصاد العالمي لسنة 2018، أن الاقتصاد الجزائري سيكون الأضعف من بين كل بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك بسبب الارتفاع في نسب البطالة في البلاد.وإلى جانب ضعف توقعات نمو الاقتصاد الجزائري للسنة الجارية، فإن احتياطي النقد الأجنبي للبلاد هبط خلال 2017 بما يقارب الـ17 مليار دولار، ليصل إلى 97 مليار دولار، وذلك بسبب تراجع عائدات النفط التي تشكل 97% من مصادرالعملة الأجنبية.

ولن يتوقف نزيف احتياطي النقد الأجنبي في الأعوام المقبلة، فقد توقعت وزارة المالية الجزائرية تراجع هذا الاحتياطي إلى 85.2 مليار دولار بنهاية العام الحالي، ثم 79.7 مليار دولار في 2019، وقرابة 76.2 مليار دولار أواخر 2020.

فأين هي ثروة شعب الشهداء الملايين؟.

إن الجواب مقترن بسياسة ( المؤسسة الملك ) التي تسعى إلى نفخ أوداج الممارسة السياسية الخارجية ذات الفلسفة الدونكيشوتية، صاحبة نظرية الإلهاء والتمويه، بتبني قضايا العصابات وسذاجتها الاستراتيجية في ضرب بلدانالجوار وعلى رأسها المغرب، الذي يسجل بفخر تاريخي الانضمام الروحي والتفاعل الجهادي بين الشعب المغربي والشعب الجزائري في الثورة الجزائرية، هذه العصابة والمسماة (بالبوليساريو) هي جزء من استنزاف ميزانية مهولة من مستحقات الشعب الجزائري وعلى رأسه فئة الشباب، عصابة ليس لها شرعية لا بلغة القانون ولا بلغة التاريخ، مع العلم أن الصحراء المغربية التي يتيه بعض جرذان البوليساريو في رمالها، من مسلمات الوطن في دماء المغاربة، ولامجال للمقايضة فيها أو المساومة عليها. وهذا كان السبب الرئيس في أخذ هذه الواقعة كمظلة أولى ل(المؤسسة الملك) في إباحة استنزاف ونهب الثروات الداخلية للشعب الجزائري.

بل تخطى واقع الحال إلى ضرب كل بنود القانون الدولي في تبني علاج بعض المتوهمين لمبدأ القيادة داخلالبوليساريو بالدول الأوروبية على حساب الشباب الجزائري الذي يهاجر إلى نفس الدول عن طريق ركوب أمواج الموت للوصول إلى الفردوس الأوروبي، والمعني بهذا العلاج هوالمسمى إبراهيم غالي،وعملية نقل إبراهيم غالي للاستشفاء باسبانيا عرفت ( جواز ديبلوماسي مزور) ، و بعيدا أنه يعاقب عليه القانون الاسباني و كذا قوانين الإتحاد الأوروبي، فإنه وثيقة حقيقية على ضرب الكيان الوهمي في هويته،وإلا، لماذا لم يستعمل أوراق هويته الوهمية لجمهورية المخيم.وغالي هذامطلوب للعدالة الاسبانية و صدرت في حقه قرارات قضائية، بحيث أنه اقترف جرائم ضد الإنسانية من تعذيب و اغتصاب و إبادة جماعية و إختفاء تعسفي و غيرها…

وليس فقط هو مسألة إلهاء للشعب الجزائري عن واقعه، بل هناك قراءة مفادها، أن ( المؤسسة الملك) جنرالات الجزائر، قد بدؤا يبحثون عن البديل لإبراهيم غالي بسبب المنجزات الدبلوماسية التي جاءت بها السياسة الخارجية المغربية.

وللتوضيح ومما لا يدع مجالا للشك، أن خيرات الجزائريين يستعمل جزء منها لرعاية مثل غالي لتبتعد أنظار المتابعة والمحاسبة، على منابع الثروة الجزائرية وخيراتها أين ذهبت.

إن ( المؤسسة الملك ) ستعود لا محالة إلى وظيفتها، وظيفة حماية مقدرات وخيرات الجزائريين عندما تنظف من خونة دماء الشهداء، الذين تركوا كرامة أحفاد الشهداء توغل في وحل العصابات، وذلك بحكمة مدرسة عبدالقادر الجزائري وعبدالحميد بن باديس وغيرهم من صناع حرية الجزائر.

* عبدالله أبوعوض أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة عبد المالك السعدي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *