منتدى العمق

لماذا التطبيع مع كيان غير طبيعي؟

لايزال الكثيرون يتساءلون عن السبب، أو الأسباب، الكامنة وراء تطبيع المغرب مع كيان استُنبت في أرض فلسطين وطرد أهلها بقوة السلاح في ظل الانتداب البريطاني الذي تبنّاه لأسباب ثقافية واستراتيجية واقتصادية، واستهدف به الأمة العربية في أفق تجزيئها وتقسيمها. تم هذا بانحياز المعسكرين الغربي والشرقي “للتطلعات” الصهيونية في فلسطين. انحياز تُرجم في رفض الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1947 إدراج إنهاء الانتداب البريطاني وإعلان استقلال فلسطين، وذلك تمهيدا للتمكين لعصابات بن غوريون.

كيان يمارس العداء للأمة ودين الأمة وشعوبها، بل وينتشي بإعلانه على الملأ جهارا مستسيغا، وبدم بارد، ممارسة القتل حتى!، “لقد قـتَـلْتُ الكثير من العرب في حياتي، ولا توجد مشكلة في ذلك” كما جاء على لسان المسمى ‘نافتالي بينيت’ المكلف برئاسة حكومة الكيان، والذي أكد في تصريحه مؤخرًا لمن يريد أن يعلم أن “بوصلته في أمن ‘إسرائيل’ ” غير مكترث بما سيقوله العالم كما نقل عنه. وهي نفس أفكار “صَيَّاد” المطبِّعين العرب المهزوم نتنياهو حين نطق بأهم ما يسكن العقل الصهيوني وهو “التصدي بحزم للمجتمع الدولي بشأن ملفات حاسمة حول مصيرنا” و”كيف سنحارب إقامة دولة فلسطينية”.

كيان تصفه المنظمات الدولية بأنه عنصري أبارتهايدي، وإن كان لا يبالي بهذه الأوصاف، فهو على سبيل المثال لا الحصر رفض الامتثال لأكثر من خمسين قرارا دوليا منذ 1948 وكلها تقضي بوجوب عودة اللاجئين إلى ديارهم. كيان يعلن أن مشروعه ينبثق من ادعائه العقدي الذي تلخصه عبارة “إسرائيل الكبرى” التي تعكس أحلاما توسعية ليس فقط بقضم الأراضي الفلسطينية، وإنما تتعداها إلى أحلام إمبراطورية !

هذه الاعتبارات المؤسِّسة لهذا الكيان الغريب في جسم الأمة، تجعل منه كيانا غير طبيعي بمنظور القانون الدولي بفروعه الثلاثة، سواء العام أو لحقوق الإنسان بل وحتى الإنساني أو ما يطلق عليه قانون الحرب، وبالتالي فإن التعامل معه لا يمكن إلا أن يكون هو أيضا غير طبيعي.

فما الذي جعل المغرب يتورط في التوقيع على اتفاقية تطبيع وربطها بالقضية الوطنية مع كيان تِلكُم جملةٌ من أوصافه؟

أهو تأزم الوضع في مناطقنا الجنوبية؟

الجواب بالنفي ما دام الشعار المعلن رسميا هو: “الصحراء في مغربها والمغرب في صحرائه”، والحالات الاستثنائية لا يبنى عليها.

أهو تغير في المواقف الدولية من القضية؟

أيضا لا، فإذا كانت الدول الأوروبية لم تغير سياساتها الخارجية من القضية، فإن ما وقع، حسب الإعلام الرسمي، من انفتاح على أفريقيا يعتبر “انتصارا” للدبلوماسية المغربية. هذا ولابد من التذكير بأن ثقل القرار الفردي لثمانينيات القرن الماضي لا تزال تنوء بحمله الجبال، كما أن أي خلل في استراتيجية الانفتاح الحالية أو في تدبير الملفات أمام لاعبين أفارقة متمرسين، وقوى دولية كبرى متنافسة، قد يأتي بما لا تحمد عقباه لا قدر الله. وطبعا لا نتحدث عن فراغ، ولكن المقال لا يحتمل التفاصيل، كما لا يسمح بتقييم عملية الانفتاح نفسها.

أهو تراجع شعبية القضية؟

على المستوى المبدئي ليس هناك من هو وطني أكثر من الآخر، إنما وككل قضية نجد تعددا في الرؤى سواء تعلق الأمر بالتشخيص أو بالمقاربة العلاجية. ومن المعلوم أن هناك هيئات وشخصيات وطنية تنتقد الاستفراد المخزني بقضية الصحراء على كل المستويات، وبالتالي فهي تدعو إلى إشراك ممثلي المجتمع المغربي دون إقصاء، والإصغاء إلى كافة المقترحات ومناقشتها بشكل جماعي وبدون مزايدات، مع جعل المعالجة في إطارها الشمولي وربطها بسائر قضايا الوطن وخاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والحقوقية. بهذه المعالجة وحدها يصبح الجميع مسؤولا، وتتقوى الجبهة الداخلية، ويصبح للنموذج المغربي جاذبية.

وبطبيعة الحال فإن نجاح السياسة الداخلية تقوي الاعتماد على الذات وتنعكس إيجابا على السياسة الخارجية فلا تستجدي حلا من أحد كان من كان. وإلا فكلما تم التغافل عن بناء العامل الذاتي عنادا أو جهلا، وعن رَصِّ الجبهة الداخلية، فإن الحلول المنفوثة من القوى الخارجية لا تعدوا أن تكون، بالنسبة لها، الفرصة التي لا تعوَّض، فتأتي مصحوبة بالشروط الثقيلة بحكم قاعدة الاستقواء.

وبالعودة إلى تاريخ القضية، وبالضبط في بداية ثمانينيات القرن الماضي، فقد سبق للأستاذ عبد الرحيم بوعبيد ومكتبه السياسي أن رفض مبادرة الملك الحسن الثاني في قمة نيروبي “التي لم تجر حولها أي استشارة وطنية” يقول الأستاذ اليازغي. تم التعبير عن هذا الرفض في “تصريح سياسي، وزع على وكالات الأنباء والصحف الوطنية والأجنبية وتم فيه الإعراب عن المخاوف والمخاطر التي قد تهدد الوحدة الترابية”. فكان جزاؤهم سجن “ميسور”، وهي “القرية التي قامت السلطات الاستعمارية الفرنسية بنفي الوطنيين إليها، وعلى رأسهم شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي”. ومع تطورات القضية يضيف اليازغي “أعاد الحسن الثاني حساباته وأدرك أن وقوف الرأي العام الداخلي ضده سيكون له أكبر الأثر، إذ كان سيكون الخاسر على كل الأصعدة.. سيخسر المغرب في معركته الوطنية خارجيا ولأسباب داخلية.

وأدرك أن قضية الصحراء ستدخل في المجهول وسراديب العلاقات الدولية وأنه بأمس الحاجة إلى الوحدة الوطنية”.

أهو نقص في الميزانية الخاصة بالإنفاق العسكري؟

أفاد معهد ستوكهولم للسلام، في تقريره السنوي حول “اتجاهات الإنفاق العسكري في العالم”، الصادر أخيرا، بأن حجم الإنفاق العسكري للمغرب خلال 2020، ارتفع بنسبة 54 في المائة مقارنة مع ما أنفقه سنة 2011. ما يعني أن برنامج التسلح في تصاعد.

وطبعا، إذا كنا نرفض الانسياق وراء أية مغامرة عسكرية، فإننا ندعو إلى الحلول الدبلوماسية الحقيقية المباشرة وغير المباشرة، والمتعددة الواجهات والفاعلين: حكومية وبرلمانية وحزبية وغيرها. وللتذكير فقد سبق لنا في مقال سابق أن اقترحنا على دول الاتحاد المغاربي سلوك “دبلوماسية الباب الخَلفي” لما تقدمه من مداخل حلول حفاظا على المصالح المشتركة لهذا الإقليم الذي لا يزال يئن تحت وطأة بؤر التوتر التي خلّفتها الفترة الاستعمارية.

هذا ومن المعلوم أن نجاح أي حراك دبلوماسي يقتضي تحقق شروط الإشراك الفعلي والناقد، وليس الإشراك الصوري الذي يُبقي أصحابَه في قاعة الانتظار يترقبون أن يُفعل بهم ولا يفعلون. يبدأ الإشراك المرجو أساسا من تمكين كافة الشعب من التمتع بالحرية بمعناها الواسع، والتي من خلالها يتمكن، لا فقط من الثقة في المؤسسات القائمة، وإنما في بناءها ومراقبتها ومساءلتها ومحاسبتها. وكمدخل لبلوغ هذه الغاية، لابد من إحداث انفراج عام وفتح باب الأمل والثقة بالمستقبل، وإشراك القوى الحية للبلاد التي تستطيع أن تقول “لا” في وقتها، كما تقول “نعم” في وقتها، وليس غثاء السَّيْل “النَّعَميون” على الدوام، الذين لا يُعوَّل عليهم. فشعبنا وقوانا الحية هم الكفيل، وليس غيرهم، بتبني قضايانا الوطنية، وبالتالي لسنا في حاجة إلى الارتماء في أحضان أية قوة دولية مهما امتدت في التاريخ والجغرافيا، فما بالك بكيان طارئ لا شرعية له لدى شعوب الأمة إذا استثنينا بعض حكامها الذين يَحسبونه ماءً لكثرة ظمإهم لسلطة الكراسي ودوامها، فإذا به سراب، أثبتت صواريخُ المقاومة التي دكّت قِيعَته أنه ليس شيئا.

وبهذا نستنتج أن التطبيع مع الكيان الصهيوني هو تسليم له باغتصاب أرض أهلها الفلسطينيين المطرودين منها بقوة السلاح. التطبيع هو جعل الممارسات العنصرية للكيان تجاه أبناء الشعب الفلسطيني، والتنكيل بهم، وقتلهم واعتقالهم في مشهد يومي يتكرر، جعل كل هذا سلوكات طبيعية. التطبيع هو القبول بتحكم الكيان في القدس والمسجد الأقصى مسرى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. التطبيع إذن في شموله هو جعل ظلم الكيان الظالم طبيعيا، وبهذا ينتقل التطبيع إلى شراكة في الأفعال، وفي حالة المغرب الرسمي الذي ربطه بقضية الصحراء، فإنه أيضا استقواء في غير محله، وإكراه للبوصلة على التوجه الخطأ.

فهلاّ استعاد القوم رشدهم، ولامست اليقظة قلوبهم، فعرفوا أن التطبيع الحقيقي هو التطبيع مع الشعب المغربي حيث تصبح الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مكاسب طبيعية تزيد ولا تنقص، وأن الاستقواء الحقيقي هو الاستقواء بالشعب المغربي الذي يزخر تاريخه بالأبطال والبطولات ولا يزال، شريطة أن يوقن حكامه أن التقرب منه والاعتماد عليه عزة وقوة لا عوض لهم عنها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *