وجهة نظر

في مواجهة الفساد: المجلس الأعلى للحسابات و السلطة القضائية “وأعدوا لهم ما استطعتم…”

لقد بلغ السيل الزبى و أصبح من أوجب الواجبات و أكثرها أولوية محاربة الفساد و الارتشاء و الاغتناء غير المشروع. وجب التنويه في البدء أن دولة الحق و القانون لا يمكنها أن تقوم بزجر المخالفين في مجال تدبير المال العام خارج إطار قانوني يضمن البراءة قبل الإدانة و يبني هذه الأخيرة على الحجة و الدليل.

و ما أصعب هذه العملية أمام أناس يتقنون وساءل التدليس و يدرسون جيدا أساليب الهروب من قبضة العدالة. يتقنون تقنيات المحاسبة و تدبير الحسابات البنكية و فن غسيل الأموال و تكوين الشبكات المعقدة لإخفاء الفعل الجرمي و الميل العنيف إلى تعقيد مساطر الصرف على المشاريع. لقد مضى زمن المجرم الذي يختلس الأموال العامة عبر الاختلاس المباشر من الصندوق. مجرم المال العام أصبح يدرس جيدا كيفية توريط مساعديه عبر تفويض الامضاء على عمليات الأمر بالأداء و عمليات المراقبة القبلية و حتى على عمليات التسلم المؤقت و النهائي في مجال الصفقات.

أصبح هذا الكائن يدرس جيدا ما تتيحه تكنولوجيا المعلوميات ليتسلل من خلالها الى التمويه على أفعاله و قد تؤدي به هذه الحال إلى التضحية باجازته السنوية لكي لا يترك مجالا لغيره للإطلاع على ملفاته. و لكل هذا أثمن عاليا التنسيق بين مكونات السلطة القضائية و المجلس الأعلى للحسابات و أتمنى أن يؤدي هذا الإتفاق إلى تقوية آليات الرقابة و توسيعها لترفع من مستويات تدخل قاضي الحسابات و تمكينه من تجاوز تقنيات الافتحاص إلى التركيز على التنفيذ الفعلي للصفقات و كافة النفقات و الولوج إلى حسابات المقاولات المنفذة للمشاريع العمومية.

و ليس هذا فقط فالقاضي سواء كان يمارس مهامه بالمجلس الأعلى للحسابات أو في مؤسسات السلطة القضائية بمختلف درجاتها، يجب أن يكون له رأي في برمجة الإنفاق العمومي و ذلك للحد من السلطة التقديرية للآمرين بالصرف بدءا من الوزراء ووصولا إلى المدراء و رؤساء المجالس المنتخبة على كافة المستويات.

وتعتبر هذه النقطة أساسية لإعطاء معنى حقيقي لربط المسؤولية بالمحاسبة و لمبدأ التدبير المرتبط بالنتائج. و للفهم يجب استحضار الكم الكبير للمشاريع التي تم تنفيذها خارج دفاتر التحملات و تلك التي صرف عليها المال العام دون أن يتم تشغيلها. ولو تم إحصاء عدد دور الشباب و العجزة و الأيتام و حتى بعض المستشفيات المغلقة أو المشغلة جزءيا و حتى بعض المشاريع في مجال التجهيزات العمومية و قطاعات الزراعة و غيرها، لاتضح أن محاربة الفساد و الرشوة و سوء التدبير ورش كبير يحتاج إلى إمكانيات بشرية و مادية و آليات قانونية و برامج معلوماتية كبيرة.

المهم أن هناك عزم مؤسساتي لمحاربة ما يمكن تسميته بالحاجز الأساسي لبناء الثقة بين المواطن و المؤسسات. هذا الحاجز إسمه الظلم الذي يطال الفقير و الغني، المغربي و الأجنبي، الإقتصاد و السياسة. أصبح الاغتناء متاحا لبعض المتاجرين بالمواطنة عبر الانتخاب و عضوية المجالس و تأسيس الشركات المستفيدة من الريع و السمسرة التي تنفذ إلى أسرار الأسواق المالية و التأثير على صناعة قواعد التجارة و توسيع آليات التهرب الضريبي و اللاءحة تطول. الحاجز الكبير إسمه غياب الحافز الموجه للمواطن عبر تفعيل القانون ضد من يقوضون المؤسسات و يبعثون رسائل اليأس عبر حضورهم في مراكز القرار. كثيرة هي المدن التي احتلها أناس ضعاف و غير متعلمين و مستندين إلى شبكات تكاد تصل إلى مستوى المافيات. و خلال هذا التحول المريب الذي أمن طريقه و صنعه الراحل الذي سكن لسنوات أم الوزارات. و بما أننا بصدد محاربة الفساد و الرشوة و سوء التدبير، وجب التذكير أن ذلك الوزير اوقف مهام المفتشية العامة للمالية حين حلت لجانها بجماعات الدار البيضاء و جاءت بعد ذلك بقليل حملته التي طالت الكثير من رجال الأعمال و التي أضعفت آنذاك مصالح الإدارة العامة للجمارك و أدخلت إلى السجون كثيرا من رجال الأعمال الذين تمت تبرءتهم فيما بعد.
أكاد أجزم أن هناك إرادة سياسية في يومنا هذا لتغيير كل الأوضاع التي تؤثر في موقف المواطن من المؤسسات. سوف يزيد مستوى ثقتي حين تبدأ الإرادة السياسية و المؤسساتية في إنتاج واقع جديد. لا أريد كما لا يريد غيري من المواطنين أن تستمر سطوة مجرمي المال العام و تتكسر كل الحواجز التي تحميهم دون غيرهم من الخضوع للمحاسبة و إعطاء الحساب للوطن.

من موظف أو تاجر أو فلاح أو عاطل ينتمون إلى الطبقة المتوسطة و الفقيرة، طار أشخاص ليصبحون أثرياء دون أي جهد استثماري أو عمل إبداعي أو اقتراض بنكي أو تكوين علمي. وأثناء هذا الهدر للزمن العام يتم تغييب الكفاءات و تشيع الفاحشة التدبيرية حين يستولي عليها السفهاء و أصحاب العضلات و ممتهني العنف و ثقافة الشتم و القذف و السيطرة على المجالس.

أن يتأكد العزم على محاربة الفساد و الرشوة و سوء التدبير، فهذا من البشاءر التي يجب أن تحظى بالدعم من طرف كل من يؤمن بضرورة هدم كل العوائق أمام سعي بلادنا إلى ولوج مرتبة الاقتصادات الصاعدة التي تؤمن كثيرا من فرص العمل و ضمان الكرامة إلى المواطنين في وضعية هشاشة.و أخيرا يجب إستغلال كافة الكفاءات و المؤسسات و الوسائل الحديثة التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات لمحاصرة المفسدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *