وجهة نظر

النموذج التنموي الجديد ومكافحة الفساد

أحمد بلمختار منيرة

من بين الملفات الحساسة التي أولتها اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد أهمية قسوى، ملف الفساد. وقبل ملامسة ما جاء في التقرير العام المقدم إلى ملك البلاد حول هذا الوباء الذي يفتك بالاقتصاد والمال العام في بلدنا منذ بداية الاستقلال، ما معنى الفساد؟

الفساد عامة، موضوع حساس. يثير ردود فعل عنيفة في بعض الدول. وبقدر ما تحاول بعض الحكومات محاربته، بقدر ما تحول جيوب المقاومة الحلول دون ذلك بكل الوسائل. والفساد الإداري في أحد معانيه، هو استغلال منصب ما، من أجل القيام بأعمال وخدمات لمجموعة من الأشخاص، بشرط الحصول على مقابل مادي لذلك (أي مقابل رشوة)، من خلال الاحتيال على قوانين العمل لتمرير شيء ما، يحقق مصلحة فرد، أو مجموعة من الأفراد، على حساب أفراد آخرين.

وبهذا الصدد، مما جاء في التقرير العام المشار إليه أعلاه في باب ” المشاورات والوضعية الراهنة والتشخيص ” أن المشاركين في هذه المشاورات قد أعربوا للجنة المكلفة بإعداد النموذج التنموي الجديد وبرفع الحقيقة ولو كانت قاسية أو مؤلمة لملك البلاد، (أعربوا) بكل  أصنافهم، عن أزمة الثقة تجاه الفعل العمومي في سياق تردي جودة الخدمات العمومية وضعف الحس الأخلاقي وقيم النزاهة على العموم لدى المكلفين بتدبير الشأن العام.

ويتجلى ضعف الثقة أيضا إزاء النخب السياسية والاقتصادية والفئات الاجتماعية الميسورة والتي تنظر إليها من زاوية استفادتها من امتيازات غير مشروعة وأنها غير حريصة على المصلحة العامة.

ومن جانب آخر، فالفاعلون الاقتصاديون قلقون إزاء العلاقات المتوترة التي تربطهم بالإدارة ونقص الشفافية في قواعد اللعبة الاقتصادية. ثم أن عبء البيروقراطية وتعقيد المساطر الإدارية والعدد المرتفع للتراخيص المطلوبة، هي وغيرها، أمور تحد من دينامية المقاولة ومن أخذ المبادرة.

وجاء تحت عنوان ” التمثلات الجماعية وقيادة التغيير”، إن هناك تمثلات سائدة وكابحة يصعب معها قيادة التغيير وهي تسهم بذلك في الإبقاء على الوضع القائم. فهذه التمثلات، تحول دون تعبئة الذكاء الجماعي ولا تشجع على اعتماد أنماط عمل متجددة أو استغلال الفرص المتاحة باعتبارها مصدرا لخلق القيم والدفع بعجلة التقدم. وقد ساقت اللجنة المعنية أمثلة توضيحية لهذه التمثلات السلبية للفاعلين المتسمة بالريبة والتي تعيق العمل الجماعي، فنجاح المقاول الخاص يتم ربطه بصفة تلقائية بمسألة الاستفادة من الامتيازات أو اللجوء إلى الرشوة، أكثر منه كنتيجة للمجهود المبذول والمجازفة واتخاذ المبادرة.

لذلك، ترى اللجنة المعدة للتقرير العام المقدم لملك البلاد أن تغيير هذه التمثلات عملية تستوجب النفس الطويل وتتطلب تغييرا للذهنيات ويمر عبر إصلاح شامل لبرامج التعليم والعمل الثقافي والنقاش والتحسيس، وكذا عبر بروز نماذج ناجحة تحفز على التغيير.

وفيما يخص استشراف المستقبل في أفق 2035، فمن المجالات التي أعرب غالبية المواطنين عن انتظاراتهم بشأنها: جودة الخدمات العمومية، والولوج إلى الفرص الاقتصادية والتشغيل، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة. كما يدعو المواطنون الذين استمعت إليهم اللجنة المعنية إلى ترسيخ حكامة ناجعة وفعالة ترتكز على أدوار ومسؤوليات محددة بكامل الوضوح. وتولي انتظاراتهم أهمية بالغة لتخليق الحياة العامة، وللمكافحة الصارمة للفساد والامتيازات غير المستحقة. كما أن الربط بين المسؤولية والمحاسبة يبقى في نظر المواطنين ضرورة ملحة.

وقد تبين للجنة المعنية أن هناك إجماعا بشأن ضرورة الرفع من فعالية الإدارة عبر تبسيط الإجراءات، والمزيد من الإنصات والقرب من المواطنين والفاعلين والخواص، وتحسين الشفافية والولوج المعمم إلى البيانات والمعطيات، باعتبارها ضامنة للولوج المتكافئ إلى الموارد والفرص الاقتصادية. وتعد رقمنة الإدارة شرطا ضروريا لتحسين جودة علاقة الإدارة مع المواطنين والفاعلين. هذه الانتظارات العميقة الدلالات هي لوازم استعادة الثقة، كما يربط المواطنون صلة قوية بين التنمية وبين احترام الحريات السياسية وترسيخ سيادة القانون، حسب اللجنة المعنية.

لقد خلصت اللجنة المعنية إلى أن التغيير ضرورة وذو طابع استعجالي، وأوضحت ذلك بما فيه الكفاية. وفي هذا الإطار، تبين لها أن خيار التنمية المتبع حاليا لا يستجيب كليا لتطلعات المواطنين وللتحديات المستقبلية المطروحة على بلدنا، اعتبارا لأن هذا المسلك يساهم في تغذية مناخ أزمة الثقة التي تكبح خلق القيمة المضافة، وتشكل، في حالة استمرارها مخاطر تهدد بشكل كبير الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.

والسؤال الآن هو: ما العمل برأي هذه اللجنة لمكافحة الفساد؟

مما جاء في مقاربتها بهذا الصدد، أنه لا يمكن القضاء على المناطق الرمادية وجيوب الفساد والمصالح الفئوية التي تقوض المصلحة العامة والغموض الذي يحد من استقلالية الأفراد والفاعلين السياسيين أو الاقتصاديين تجاه المهام الموكولة إليهم، وبالنسبة للقطاع الخاص إزاء واجباته الاجتماعية والبيئية، دون إخضاع صانعي القرار للمسؤولية تجاه المهام الموكولة إليهم .

وفي هذا الإطار، تقترح اللجنة التي أعدت التقرير العام الخاص بالنموذج التنموي الجديد وضع إطار لترسيخ الثقة والمسؤولية يتمحور حول خمسة مكونات تستند إلى قيم وقواعد ومؤسسات تستجيب، إلى حد كبير حسبها، بشكل مباشر وعرضاني، للمعيقات النسقية التي أسفر عنها التشخيص وتتمثل عناوينها الكبرى في ما يلي: عدالة حامية للحريات ومصدر أمان، وحياة عامة تتميز بالنزاهة والقدوة في السلوك والأخلاقيات، ومؤسسات حكامة اقتصادية مستقلة وفعلية، وربط المسؤولية بالمحاسبة والتقييم المنتظم والولوج إلى المعلومة، وتعزيز مشاركة المواطنين باعتبارها ركيزة للديمقراطية التمثيلية والتشاركية.

ونعتقد أنه مهما تختلف وجهات النظر بين المثقفين والأحزاب السياسية والإعلاميين والباحثين  ومعدي النموذج التنموي الجديد حول أسباب الفساد في بلدنا، فإنها تتفق بالإجماع على أن الفساد الإداري والمالي، كان ومازال، يشكل عائقا بنيويا للتنمية المستدامة في وطننا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا، وذلك على كل المستويات الترابية، محليا وجهويا ووطنيا.

لذلك، نرى أن هذا النموذج التنموي يشكل دراسة مغربية/ مغربية تتميز عن سابقاتها باعتماد معديها لغة القرب والإنصات لنبض المجتمع. وهي دراسة مثل أي دراسة أخرى، تتضمن مواطن القوة ومواطن الضعف. وتشكل في مجملها منظورا استراتيجيا وإطارا عاما للسياسات العامة. أما السياسات العمومية، فهي من مسؤوليات الأحزاب السياسية. ومن تم، فالتغيير يجب أن تصنعه الأحزاب  التي ستتولى تدبير الشأن العام بعد انتخابات شتنبر المقبل، سواء على مستوى الحكومة المقبلة أو على مستويات البرلمان بشقيه والمجالس الجهوية والمجالس الإقليمية والمجالس الجماعية.

وبناء على كل ما تقدم، فإن السؤال الجوهري الذي يفرض طرحه اليوم علينا جميعا أحزابا وإدارات وجامعات وباحثين وإعلاميين ومجتمعا مدنيا هو: كيف يمكن مكافحة الفساد الذي يشل اقتصادنا ومجتمعنا؟

نعم، قدم التقرير العام للجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد العديد من التوصيات المهمة لمكافحة الفساد في بلدنا، لكننا نعتقد دون ادعاء بامتلاك الحقيقة، أن هناك مجموعة من الإجراءات  الملموسة لدى المواطن (ة) التي ينبغي اتخاذها بشكل سريع، ومنها على سبيل المثال  لا الحصر، على المدى المنظور/ القريب جدا  لا بد من الضرب بحديد على يد من كل من سيتبث قانونيا تورطه في عملية الفساد في الانتخابات المقبلة. ولا بد من لمس المواطن لإجراءات تطبيق قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة  مع التحري حتى لا يقع ضحايا من الأبرياء في عمليات فساد من نسج أقوياء ماديا ونفوذا، وهنا نعتقد أنه ينبغي العمل كثيرا على مستوى التواصل المؤسساتي.  ولاشك أن المغرب مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بتفعيل قاعدة سيادة القانون، فالكل سواسية أمام القانون.

ولعمري أن إعادة ربط التربية بالتعليم، هو مدخل من مداخل التغيير الحقيقي بل تصحيح لبناء مسار جديد لبلدنا، ينبغي الشروع فيه مع بداية السنة الدراسية المقبلة في شتنبر. والقصد تربية التلاميذ والطلبة على قيم المواطنة، واحترام حقوق الغير، وحب الوطن. ولا يكفي أن تتضمن الكتب المدرسية والمقررات والمخططات هذه القيم، وإنما يجب استشارة دوي الاختصاص في علوم التربية والنفس لنجعل من هذه القيم  سلوكات يومية لدى كل تلميذ وطالب. ولا شك أن التربية والتعليم ليس وظيفة مثل أية وظيفة أخرى، فهو عمل نبيل وشريف يتطلب إيمان المربي بالقيم الإنسانية.

إن التعليم هو من ينتج المهندسين والأطباء والإداريين (…). ومن دون تشبع خريجيه بالقيم النبيلة وحقوق الإنسان سينتج المفسدين في الأرض. سينتج أجسادا مجردة من الحس الوطني، تنهب الثروات وخيرات البلاد.

كما أن قيام الهيئات والجمعيات الحقوقية بالأدوار التي يخولها لها الدستور، هو أمر مستعجل حماية للمال العام ولصمعة المغرب دوليا وقاريا وإقليميا.

وأخيرا، أي مجتمع نريد في مرحلة ما بعد انتخابات شتنبر 2021 هو سؤال الساعة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *