وجهة نظر

تأملات سياسية

الانكسار الكبير للمصباح الذي ظل مشتعلا ومتوهجا طيلة عقد من الزمن، لازال يسيل لعاب النقاش في الأوساط السياسية والمجتمعية والإعلامية، بحثا عن السبب أو الأسباب الواقعية التي تكون قد عجلت بالخروج من النافذة الخلفية للمشهد السياسي بطريقة مخجلة ، بعد عشر سنوات من الأداء الحكومي تحت الأضواء، عبدت طرقا سيارة نحو المكاسب والمناصب والكراسي والثراء والريع وأخواته، فانفتحت الشهية وسال اللعاب، فكان الارتماء الفردي والجماعي في أحضان حياة غير الحياة ، كان من نتائجها الوخيمة وربما غير المتوقعة، استنزاف الرأسمال اللامادي الذي منح القوة وبــوأ الصدارة والإشعاع ، بعد التنكر للمواقف والمبادئ والوعود والالتزامات، التي برزت طيلة سنوات من الجلوس في مقاعد المعارضة، كانت كافية لتوسيع دائرة المناضلين والمحبين والأوفياء والمتعاطفين، والتي أخذت في التراجع والانكماش رويدا رويدا، تناسبا وانسجاما مع درجة ذواب جليد المواقف والمبادئ ، لتتعبد الطرق السيارة ، ولكن هذه المرة نحو التراجع والسقوط المدوي كما حدث في محطة ثامن شتنبر.

سقوط مدوي من المنطقي أن تكون له ارتدادات عميقة داخل البيت، كان من بين تجلياتها استقالة رئيس الحكومة المنتهية ولايته والأمين العام للحزب سعد الدين العثماني وباقي أعضاء الأمانة العامة، وهي استقالة متوقعة قياسا لحجم الكبوة ودرجة السقوط، سبقها بيان نشره الأمين العام السابق عبد الاله بنكيران، نشره على صفحته على الفيسبوك، طالب من خلاله العثماني بتقديم الاستقالة من رئاسة الحزب، وبين هذا وذاك، ارتفعت أصوات العديد من القياديين الذين خرجوا بتصريحات هنا وهناك، حاولوا من خلالها تفسيـر السقوط المذل، تـارة بالادعاء بعدم تسليم المحاضر لممثلي الحزب، وتارة ثانية برفع يافطة زواج المال والسلطة، وتارة ثالثة بالتشكيك في النتائج المحققة وغير ذلك من الادعاءات الأقرب إلى الانفعالات.

ماهو أكيد ومؤكد أن الأمور حسمت، فالمصباح انكسر أرضا والحمامة حلقت جـوا، وأن “البكا مورا الميت خسارة”، لذلك، ففي الوقت الذي أشهرت فيه أسلحة الإقصاء والإبعاد والمظلومية والتشكيك في النتائج، كان يفترض القبول بالهزيمة بروح رياضيــة بعد عشر سنوات من الأداء الحكومي، والدخول فيما يشبه “الخلوة السياسية” لتفكيك بنيـة هذه الهزيمة المذلـة، بمنظور العقل والحكمة والواقعية والرصانة، باستحضار أن بورصة السياسة لا تستقـر على حال، وأن الخرائط الحزبية والسياسية خاضعة لسنـن التغير والتحول المستــدام، كما هو حال فرق كرة القدم، فحتى الفرق الكبيرة تمر من مراحل الفراغ وأحيانا تضعف وتتراجع إلى الخلف، وتحل محلها فرق أخـرى ، وربما يمكن أن تسقط إلى أقسـام الهـواة، ما لم تجدد الاعبين والمدربين وأدوات ووسائل العمل والخطط والاستراتيجيات، وعليه، فالسقوط في حلبة السياسة متوقع في ظل تعدد الخصوم السياسيين واختلاف أدوات ووسائل المنافسة وخطط اللعب، وهذا يفرض الخضوع إلى النقد الذاتي، بما يضمن تجديد البيت الداخلي وتغييـر الوجـوه وتصويب الخطايا وتجديـد الخطـاب والوضوح مع الناس والتعامل معهم بدون أقنعـة، والبعـد كل البعد عن خطاب الهجوم والإقصاء والمظلومية والأنانية والاستعلاء، ولغة التقوى والوعظ والفضيلة، التي لم تعد تنفـع أو تجدي ، بل باتت خططا مكشوفة للوصول إلى ضفاف الكراسي وبـراري الريـع .

وإذا ما تركنا لغة الهزيمة والنكسة والسقوط المدوي، فلما تتوجه كل العيون والأنظار نحو سقوط المصباح بعد عشر سنوات من الإضاءة والإشعاع في المشهد الحزبي والسياسي، فهذا تقليل من شأن أحزاب أخرى عريقة فقدت بعضا من الإشعاع والتأثير منذ سنوات وتحاول الصمود ما استطاعت إلى ذلك سبيلا كما هو حال الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية والاتحاد الدستوري، وهناك أحزابا أخرى لم يعد يسمع لها صوت، كما هو حال حزب الشورى والاستقلال على الرغم من تاريخه العريق، وهناك أحزابا أخرى حاضرة في المشهد السياسي بعضها يستعصي عليه الحصول على مقعد في البرلمـان، ومع ذلك، فعيون الإعلام وأقلام الكتاب والباحثين لا تمتد إليها.

وعليه، فإذا سقط المصباح أو انكسر، فهو ليس بالاستثناء في خريطة حزبية تبدو كحال الخرائط الزلزالية التي تتغير باستمـرار، ويكفي النظر إلى تاريخ الأحزاب السياسية المغربية، لنتأمل حياة حزبية في تحول مستمر كالكرة الأرضية، الصمود والنجاح فيها يمر قطعا عبـر التجديد المستدام للخطاب السياسي والابتعاد عن مسالك العبث والفساد وعن “ازدواجية المواقف”، والقرب من المواطن والاستجابة لحاجياته وانشغالاته اليومية، والثبـات على المواقف، والوفــاء بالوعود والالتــزامات، والحفاظ على مسافة أمـان كافية مع الخصوم السياسيين، مبنية على الاحتـرام والتعاون، بعيدا عن لغة المواجهة والصدام والإقصاء والتحدي.

وإذا قيل “الضربة لي ماتقتلش، تقــوي”، نأمل أن يتم جبر عظام المصباح، حتى يتعافى ويتقــوى، ويعود بعقلية جديدة وبوجوه جديدة وخطاب سياسي جديد، قادر على استرجاع المحبين والأوفياء والمتعاطفين، الذين نفـروا بعدما أحبـوا، وهاجروا على مضض بعدما أقبلوا بشغف، وإذا كان لابد من توجيه العبرة ، فلا مناص من توجيهها إلى أصحاب الحمامة والجرار والميزان والوردة وغيرهم، ونثيـر انتبـاه هــؤلاء أن النجاح في النزال الانتخابي، هـو تكليف وليس تشريف، بل هو مسؤولية جسيمة وأمانة ثقيلـة أمام الله والملك والشعب، أي تقصيـر فيها أو انحراف في أدائها، فهـو جريمة في حق الوطن، لابد أن يواجهها الشعب بسلاح “التصويت العقابي” وهذا أضعف الإيمـان.

ونختم بالقول، إذا تمت إزاحة المصباح بقسـوة، فليس معناه أن من فـازوا في السباق الانتخابي وظفروا بحصاد انتخابي وفيــر، هم زهـاد أو تقــاة أو وعاظ، من منطلق أنه “ليس في قنافد السياسة أملـس” كما يقول البعض، أو “ولاد عبدالواحد واحد” كما يردد البعض الآخـر، لكن في ذات الآن، لابد من احترام الإرادة الشعبية التي زفت المصباح عريسا على هودج الحكومة في مناسبتين متتابعتين، وهي الإرادة نفسها التي مالت يوم ثامن شتنبــر إلى الحمامة، وأعطت الظهر لأحزاب أخرى بعضها لم يظفـر ولو بمقعد برلماني واحد، وبعد خمس سنوات ، قد تميل ذات الإرادة الشعبية، إلى صف أحزاب متوسطة أو صغيرة، وربما قد تستقر في حضن المصباح مرة أخـرى، وفي جميـع الحالات، لابد أن نستوعب جيدا، أن الوطن فوق المصباح وأكبر من الحمامة وأقوى من الجرار وأثقل من الميزان وأزكى من الوردة وغيرها، وخدمة هذا الوطن الأمين، يفترض أن تحضر في الحكومة وأروقة المعارضة، وفي المجالس الجماعية والجهوية بأغلبيتها ومعارضتها على حد سـواء، كما لابد أن نستوعب أن المواطن لايهمه المصباح ولا الحمامة ولا الجرار ولا الميزان ولا الوردة ولا أي رمز سياسي آخـر، لكن، يـهمـه من يخدمه ويخدم الوطن، بمواطنة حقة ومسؤولية والتزام ونكران ذات.

ولايمكن أن نختم المقال، إلا بتهنئة قائد الحمامة “عزيز أخنوش” على الثقة الملكية، وفي ذات الآن، نحيطه علما بثقل المسؤولية وجسامة الأمانة الملقاة عليه وعلى فريقه الحكومي قيد التشكيل، وعليه أن يثبت أنه الأجدر والأجود والأفضل، بل و “رجل المرحلة” القادر على إحداث ما يتطلع إليه المغاربة من تغييـر، ونرى أن الفرصة مواتية أمامه، للوفـاء بكل الوعود والالتزامات التي وعد بها المغاربة في سياق حملته الانتخابية، فإن تحقق ذلك، سيكسب الرهانيــن، رهان استرجاع الثقة والمصداقية، ورهان الرد على المشككين والمنتقدين والمتربصين من الخصوم السياسيين، وإن لم يتحقق، فما الفرق بين المصباح والحمامة، أو الجرار والميزان ؟ وما الجدوى من الحملات الانتخابية وما الغاية من الانتخابات ؟ بل وما الفرق بين من تقدم و انتصـر ومن تراجـع وانكسر ؟ .. نأمل ألا يكـون “ولاد عبدالواحد واحد” .. انتهى الكلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *