وجهة نظر

ما يدوم حال

على امتداد عقد من الزمن، تربـع المصباح على عرش الحكومة، وبنفس درجة حرارة الصعود والتوهج والإشعاع، كان الانكسار الكبير في محطة ثامن شتنبر، فكان معه الخروج من دائرة الضوء عبر الأبواب الخلفية، صغيرا وضعيفا ومهانا، ليتحول إلى قـزم بين صفوف المعارضة بعدما كان قائدا وزعيما للحكومة طيلة عشر سنوات، ليكون حاله كحال مجموعة من فرق كرة القدم التي سقطت ذات يوم من برج البطولة الاحترافية في قسمها الأول، وتراجعت إلى القسم الثاني، قبل أن تندحر إلى الخلف ويستقر بها المقام في قسم الهواة، على غرار النادي المكناسي وجاره النادي القنيطري الذين لم يشفع لهما تاريخهما المشرق ومجدهما الكروي، ليسقطا في متاهات الهواة إلى أجل غير مسمى، ولن نهدر الزمن في النبش في تضاريس هذه الهزيمة النكـراء، التي نتوقـع أن تكون قد نزلت بردا وسلاما على المناضلين والأتباع، ممن ألفـوا العيش في رغد السياسة وما تجود به من مناصب وكراسي وريع مسيل للعاب، بعيدا عن المواقف والشعـارات الرنانة، التي ذاب جليدها تدريجيا تحت حرارة الأنانية المفرطة والمصالح السياسوية الضيقة والرغبة الجامحة في الصعود والارتقــاء، لكن بالمقابل، نستطيع القول “ما يدوم حال” في ظل خرائط سياسية وانتخابية لا تستقر على حال، وسلوكات انتخابية لم يعد ممكنا ضبطها أو التحكم في اتجاهاتها.

“ما يدوم حال” .. هو درس واضح لايحتاج إلى شرح أو تفسير أو تأويل، ورسالة مفتوحة ذات معاني معبرة، موجهة إلى الأحزاب السياسية المغربية بيمينها ووسطها ويسارها، فالإرادة الشعبية التي نقلت المصباح إلى أضواء السلطة، لم تكن إلا فرصة لاختبار النوايا والتثبت من حقيقة المواقف، ومحاولة شعبية متعددة الزوايا، لإحداث القطيعة مع كل الممارسات السياسوية العابثة التي عمقت بؤر اليأس، وإدراك التغيير المنشود الذي تطلع إليه المغاربة بشغف، فوضعوا كل ثقتهم في هذا المصباح، وتوسموا فيه الخيـر وكبح جماح الريع ومحاصرة الفساد وتخليق الحياة العامة وتحسين مستوى العيش، لكن ممارسة السلطة وحياة الأضواء والنجومية السياسية بكل مؤثراتها، كانت كافية للتنكر للوعود والتملص من الالتزامات، والتخلي بمستويات مختلفة عن القيم والمواقف، بل والدخول في ممارسة طقوس الابتزاز والتهكم والإقصاء والأنانية والاستعلاء والاستقواء وضرب المصالح الشعبية، لتكون النتيجة المتوقعة، هي الإسهام في توسيع دائرة الرافضين واليائسين والقانطين، لينتهي زمن المجد بسقوط مدوي لم يكن في البال ولا في الحسبان، برزت معالمه الأولى في انتخابات المأجورين في مرحلة أولى، وانتخابات الغرف المهنية في مرحلة ثانية.

الأحزاب السياسية التي كسبت رهان استحقاقات ثامن شتنبر وعلى رأسها الحمامة، لابد أن تعي جيدا مقولة “ما يدوم حال” لأن الدوام لله ولا شئ يستقر على حال، كما لابد لها أن تستوعب درس المصباح الذي تربع على عرش الحكومة طيلة عقد من الزمن، وسقط سقطة مدوية حاملة لمفردات الضعف والهوان والمهانة واليأس، لذلك، لم يعد هناك من خيـار، إلا الوفـاء بالوعود وتنفيذ الالتزامات، والتفاني في خدمة المواطن وما يحمله من مصالح وانشغالات وتطلعات، وفي الانخراط الرصين في صلب القضايا التنموية والترافع الشرس عن الوطن ومصالحه الاستراتيجية، ولم يعد الشعب قادرا على التعايش مع خطاب العبث والتعالي والإقصـاء والاستعلاء والتهكم والابتزاز، أو تقبل واقـع الريع والمساس الناعم بالمال العام ومشاهد “الوزيعة السياسية” التي تكرس الإحساس، أن السياسة ما هي إلا آلية لحلب “بزولة الوطن” أو نزع سرواله قبل الشروع في هتك عرضه أمام المـلأ بدون حرج أو حياء.

هي إذن فرصة أمام المنهزمين والمندحرين، لإعادة ترتيب الأوراق وتجديد الخطاب، وقبلها البحث عن الأسباب الحقيقية التي أوجبت الفشل الذريع بعيدا عن لغة المظلومية والإقصاء والانتقام والإزاحـة، علما أن خدمة الوطن حاضرة في الحكومة كما هي حاضرة في المعارضة، وفرصة أمام الفائزين الذين بوأهم الشعب الصدارة وخاصة الحمامة، للوفاء بالوعود وتنفيذ الالتزامات وخدمة الصالح العام بمواطنة ومسؤولية ونزاهة ونكران ذات، وبلوغ التغيير الذي يتطلع إليه المغاربة قاطبة بعد انكسار المصباح، ونذكر هـؤلاء أن خمس سنوات هي مدة قصيرة جدا في الزمن الانتخابي والسياسي بشكل عام، والشعب الذي أوصلهم إلى التتويج بالكأس الانتخابية، له من القدرة ما يجعله يزيحهم من العرش الحكومي، إذا خانوا الأمانة وتنكروا للوعود والالتزامات، وانتصروا لصوت المصالح السياسوية الضيقة على حساب مصالح المواطنين وانتظاراتهم، وما عليهم إلا أن يثبتوا أن المغاربة كانوا محقين، لما أزاحوا المصباح واختاروهم بديلا، بعدما يئسوا وقنطوا من إخـوان خذلوا وزاغوا وانحرفوا عن سكة المواقف والسلوكات والالتزامات، ونأمل أن يكونوا في الموعـد قياسا لحجم الرهانات والانتظارات والتحديات، حتى لا نقول على مضض “ولاد عبدالواحد كلهم واحد” أو “ليس في قنافذ السياسة أملس”.

ونختم بالقول، أن الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها، ولكنها “وسيلة لإقـامة مؤسسات ذات مصداقية، تخـدم مصالح المواطنين، وترافع عن قضايا الوطـن ” كما أكد الملك محمد السادس في خطاب الذكرى 68 لثورة الملك والشعب، غير هذا نـقول من الآن “مولا نوبـة”، فمن أراد نيل ثقة الشعب، فما عليه إلا الاشتغال لما فيه خيــر للبلاد والعباد، فاليوم كسر المصباح، وغدا قد “تريـش” الحمامة بالماء الساخن أو يتم تعطيل محرك الجرار، أو التنكر للميزان والوردة أو طي الكتاب بالمرة أو إحراق السنبلة أو تركيع الحصان، حينها يمكن إعطاء فرصة للأحزاب المتوسطة والصغيرة، على الأقل لآن جلبابها السياسي لازال نقيا ونظيفـا .. ما يدوم حال .. كلنا عابرون و راحلون.. وستبقى آثارنا دالة علينا.. فطوبى لمن تحمل المسؤولية بمواطنة حقة، وهنيئا لمن خدم الوطن بصدق ونزاهة واستقامة ولم يخن الأمانـة .. ما يدوم حال يا سياسي .. يا مسؤول .. ما يدوم حال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *