وجهة نظر

التلاقح الثقافي بين اليهود والمسلمين.. المغرب أنموذجا

شكل المغرب، منذ عقود، مثالا متفردا لتعايش وتلاقح الحضارات والثقافات والأديان على مر العصور،  على نحوٍ من التزاوج و التلاقح إلى التميز والتفرد المحلي والعالمي، إذ كان ولا يزال نقطة تلاقٍ بين الشرق والغرب. فكان البُعد الديني أساساً في الحراك الحضاري بأشكاله الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية.

فما هي المنطلقات والأبعاد العامة لهذا التلاقح، خاصة بين اليهود والمسلمين بالمغرب؟ وما هي تجليات هذا التعايش بينهما في النموذج المغربي؟

هذا الموضوع، على سعة محاوره، سنحاول من خلال هذه الورقة تناول أول جزءٍ منه. وفي البداية، التلاقح مفهوم يوحي بتلاقح الأفكار، أي تبادل واستفادة بعضها من البعض، أو اجتماعها لتوليد أفكار أسمى، كما جاء في المعاجم  المعاصرة.

وإذا نظرنا إلى الجانب المراد تناوله في موضوع اليهود والمسلمين بالمغرب، فإنه ينطلق من الأواصر التاريخية المتمثلة بداياتها في استقبالهم واختيارهم المغرب كوجهة للعيش منذ أزل بعيد، كما جاء في كتاب “اليهود المغاربة من منبت الأصول إلى رياح الفرقة”، للدكتور شحلان، أن وفودا من اليهود جاءت مع الفنيقيين، وكان قدومهم إلى المغرب من الشام، وقد تأسست مدينة  باسم آيت داوود، جنوب المغرب نسبة إلى يهودي من قبيلة يهوذا.

كما نزحت أفواج من الأندلس بعد فتحها، حيث عانى اليهود  من عام 612 ميلادية، وحتى عام 660 م، القتل والتشريد، فكانت الهجرة الى المغرب، وزادت الهجرة بعد قرارات مجامع طليطلة المخيرة لليهود بين المسيحية أو المنفى ومصادرة الممتلكات. ففضل معظمهم الاستقرار ببلاد المغرب، وكانوا يوجدون في كل المجتمعات السكنية تقريبا بمناطق متفرقة بالمغرب.

فعلى إثر الاستقرار الذي وجده اليهود بالمغرب، حيث منحتهم الهوية المغربية مِنحا نفسية واجتماعية وأخلاقية، فتعايشوا إلى درجة صَعُــبَ معها التمييز بين عناصر هذه الجماعات ظاهريا، في حين أن كل مجموعة كانت تعتنق دينها وتمارس عقائدها الخاصة، لا سيما في المناطق الأمازيغية .فعاشوا جنبا إلى الجنب حتى القرون المتأخرة.

ظل، إذن، اليهود يعيشون جنبا إلى الجنب مع أمازيغ المغرب حتى القرون المتأخرة، كما أشار دانييل شروتر في مقالته “اكتشاف اليهود الامازيغ” إلى هذا الأمر، حيث تناول في مقالته جوانب من العلاقات اليهودية الأمازيغية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلاديين، معتمدا على وثائق حول يهود منطقة إليغ بسوس. فإلى جانب الامازيغ عاش اليهود في مناطق مختلفة من المغرب بالشمال و الصحراء وغيرها. وتجلى التلاقح في مجالات مختلفة بدءً من الأمور الاجتماعية مروراً بالمنحى اللغوي حيث نجد اليهود المتحدثين بالأمازيغية.

ومن الأكيد أن اليهود في المغرب قد تمزغوا، أي تكلموا الأمازيغية، وهو ما أشار إليه بعض الباحثين في المسألة اليهودية بالمغرب، كاليهودي المغربي حاييم الزعفراني في كتابه “ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب”، وذلك إلى جانب اللغة العربية واللغة العبرية التي كان اليهود يستعملونها في صلواتهم وفي إبرام عقودهم.

فسكان الجبال من اليهود تكلموا الأمازيغية، وهذا واضح لمن زار بعض المناطق التي يقطنها اليهود جنوب المغرب كمدينة زاكورة، فكان هؤلاء اليهود مزدوجي، اللغة يتكلمون الأمازيغية والعبرية، باستثناء أقلية لم تكن تتكلم الأمازيغية.

وبرز الوجود اليهودي المكثف في مختلف المناطق المغربية على المستوى اللغوي، من خلال وجود ثلاث مجموعات من المتكلمين اليهود بالمغرب، مجموعة تتكلم الأمازيغية وتقطن الأطلس، ومجموعة تتكلم الإسبانية وتقطن الشمال، ومجموعة ثالثة تتكلم الدارجة المغربية، في حين ظلت العبرية لغة عالمة، ولغة خاصة اليهود ولغة النساء، أو لغة البيت الخاصة. (يهود الشمال: الإسبانية؛ يهود الصحراء والداخل: اللهجة المغربية؛ إلى جانب العبرية التي احتُــفظ بها في المراسيم الدينية والترانيم).

إن ذلك هو ما خلَّف أثرا عبريا قويا في الثقافة الشعبية المغربية، وفي مظاهرها الاجتماعية والسياسية، نتج عنه التلاقح الحضاري الذي حدث بين اليهود والمسلمين بالمغرب عبر التاريخ.

وتجدر الإشارةُ إلى أن للثقافة جانباً عاماًّ مشتركاً بين الذات والآخر، ولها هدفٌ مشترك لكل البشرية، والثقافة هي تعبير عن الناس. وبهكذا معاني فالثقافة تصبح قوة وأداة للبقاء، فالثقافات تعطي النظرة العالمية، صورة الذات والآخر، ونظام القيم وواجب المنتسبين، ومعايير السلوك والوسائل. وهكذا فإن التلاقح الثقافي هو تعبير عن توازن القوى بين الثقافات. والتحدي الذي تفرضه هذه الورقة هو ما تقدمه من عرض نموذج التلاقح الثقافي بين اليهود والمسلمين بالمغرب.

هكذا، فمن مظاهر التلاقح الثقافي بين اليهود والمسلمين في المغرب:

أولا:  معالم التدين

التدين ومعالم المتدينين، برموزهم وتجليات تدينهم المنبعثة من المصادر الشرعية، خاصة في الحث على الدعوة إلى اعتناق نفس الدين من عدمه. وقد أشار الى ذلك  اليهودي المغربي روبير أصراف في مؤلفه “محمد الخامس واليهود المغاربة”، حيث أن اليهود العبرانيين الأوائل كانت لهم مبادرات في دعوة القبائل البربرية إلى الديانة اليهودية، إذ توجد بعد الحكايات المتداولة في الذاكرة الجماعية بوجود تجمعات يهودية بمنطقة سوس ودرعة بالجنوب، ولم تبق ذات أثر بعد الفتح الاسلامي بعد سنة 683 م.

ولقد اتسمت الهوية اليهودية المغربية بتدينها، بل وتشددها في الالتزام الحرفي بالدين اليهودي ومعتقدات التوراة والتلمود، ويمكن هنا الإحالة على دراسات حاييم زعفراني التي جاوزت السبعين دراسة تناولت مختلف أبعاد الهوية اليهودية المغربية وإبراز الطابع الديني لها، أو أيضاً دراسات بن عامي إسشار التي ركزت على ظاهرة أولياء وقديسي اليهود المغاربة، حيث أحصت وجود 652 وليا ضمنهم 126 مشتركا بين المسلمين واليهود و15 وليا مسلما يقدسه اليهود، و90 وليا يهوديا عند المسلمين، فيما يتنازعون حول 36 وليا كل ينسبه إليه.

وقد أصدر صامويل «يوسف بنعيم» في 1980م دراسة مفصلة عن مراسيم ما يزيد عن خمسين هيلولة (احتفال ديني يهودي مغربي) مرتبطة بمواسم الأولياء اليهود بالمغرب التي تبرز حالة السعي اليهودي بالمغرب للتماهي مع التقديس و التبجيل وتجديد هذا السعي سنويا.

ثانيا: تبادل الهدايا في الأعياد

مما لا شك في أن التعايش السلمي القائم على القيم والاحترام المتبادل بين الأطياف، في جوانب اجتماعية واقتصادية وعرفية وغيرها، سبيلٌ إلى تشارك الأفراح والأحزان والأعياد، رغم اختلاف المعتقد، فكانت الهدايا الرمزية بالحضور للاحتفال أو المشاركة في الأعياد ذات الطابع الاجتماعي، وخاصة عيد الأضحى.

ثالثا: تدبير الشأن العام

مما لا جدال فيه أن اليهود كانوا على دربة في تدبير الشأن العام، خاصة الجانب السياسي في الأندلس خاصة وفي معاقل الحكم ف بمختلف البقاع. فقد اختصوا بوظائف ومهن حيوية في المجتمع. وقد كشف حاييم زعفراني في دراسته  “ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب” عن وجود عدد هائل من الأحكام القضائية في القضاء العبري بالمغرب في القرون الأربعة الأخيرة.

ومن الدراسات الحديثة التي عملت على تحليل ظاهرة يهود البلاط، وإبراز تجذرها التاريخي ولجوء عموم السلاطين إليهم منذ القرن الثالث عشر، نجد أطروحة نيكول سرفاتي، والتي قدمت حالات محددة ليهود البلاط ودورهم في مجال تدبير علاقات المغرب مع الدول الأوروبية. ومن هذه الحالات حالة جوزيف ميمران الذي شغل منصب مستشار للسلطان المولى إسماعيل طيلة الفترة الممتدة من 1683م وحتى 1672م. وفي نفس الوقت كان رئيساً للطائفة اليهودية بالمغرب (شيخ اليهود). ونفس الشيء بالنسبة لابنه إبراهام ميمران الذي كان هو الآخر دبلوماسيا ومستشارا ومديرا للأعمال التجارية (1722-1683)، فكان له دور هام في علاقات المغرب مع فرنسا والبرتغال وهولندا.

وقد شهدت وضعية اليهود بالمغرب استقراراً أكبــر بعد قيام حكم الأدارسة بالمغرب، حيث سمح إدريس الثاني لليهود بالإقامة والعمل في مدينة فاس التي أسسها الأدارسة في  788م-789م واتخذوها عاصمة لهم. هذا وقد كان للتسامح الأثر البليغ في تحقيق استقرار يهود المغرب من مختلف الجهات.

وقد استمر هذا الوضع وترسخ مع  السلطان محمد الخامس حين سمح بقوانين تحفظ لليهود أسس الحياة الدينية والمدنية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقاضي. وذلك  إثر مفاوضات عسيرة أجراها السلطان محمد الخامس والجنرال نوغيس، المقيم العام الفرنسي، في 29 رمضان 1359هـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1940م، من خلال ما عرف بقانون فيشي.

رابعا الجانب الاجتماعي

الثابت تاريخيا أن يهود ومسلمي المغرب تنافسوا وتجاوروا وخالط بعضهم بعضا في الأسواق، وشقوا الأرض بنفس المحراث، وغالوا وغلوا في رعاية مجرى السواقي بنفس حبة قطرة الماء، وتشاركوا في ماء البئر الواحدة، وتبادلوا طقوس التعبد على الصعيد الواحد، وعبروا عن أفراحهم بنفس الأهازيج، وعانوا القحط والمجاعات بنفس القدر من الصبر ومنعشات الأمل، واستسقوا الغيث عند شج السماء بنفس الحركة والابتهالات، وتساكنوا إلى حد أن تشارك الأطفال حليب الأمهات.

ومن معالم امتداد هذا التلاقح الاجتماعي وإرادة حفظ ذاكرته ما عرفه برنامج إصلاح المناهج التعليمية، حيث بادر المغرب إلى إدراج تراث وتاريخ اليهود المغاربة كمكون من مناهج الدراسة.

ولا يفوت هذه الورقة أن تقف عند مجموعة من الدراسات الأكاديمية للباحثين، والتي استطاعت إبراز التاريخ الواحد الموحد، والبحث عن الصفحات المجيدة لبناء ذاكرة جماعية، في إطار الدولة الوطنية المدنية.

ومن القضايا التي استأثرت باهتمام مجموعة الأبحاث والدراسات في تاريخ اليهود المغاربة وتراثهم تلك التي يطرحها الفقهاء المسلمون في تحديد طرق التعامل مع أهل الذمة في حضيرة المجتمع الإسلامي، ومنها قضية المهاجرين الذين يُسمون بالبلديين لمؤلف مجهول؛ ونصيحة المغترين وكفاية المطرين في التفريق بين المسلمين بما لم ينزل به رب العالمين ولا أخبر به الصادق الأمين ولا ثبت عن الخلفاء المهديين لمحمد بن أحمد ميارة  (ت 1704هـ).

وهذا جزء من واقع حفاظ المسلمين على تقاليد اليهود وخصوصيتهم الدينية في حضن مجتمع مُسلم، وتجلياته السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، زمن سلاطين المغرب وخاصة العلويين منهم، حيث عرف التعايش سبلا رسمية وعرفية تحافظ على التلاقح الممتد منذ الزمن البعيد بين اليهود والمسلمين في هذه الأرض المباركة، تحت الرعاية السامية لأمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين إلى أن يبعث الله الأرض ومن عليها، تحت شعار الله الوطن الملك.

* نائب برلماني؛ باحث في الشؤون الدينية والسياسية؛ مدير المركز المغربي للقيم والحداثة؛ دكتور في القانون الدستوري وعلم السياسة؛ دكتور في العقائد والأديان السماوية 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *