وجهة نظر

الرقمنة لن تخفي المعيقات الحقيقية لإصلاح إدارات الجماعات بالمغرب

تسارع الحكومة الجديدة الزمن ممثلة بوزارة الداخلية فيما يخص الجماعات الترابية، وذلك من أجل رقمنة مساطر هذه الوحدات الترابية وخدماتها. وقد أصدرت هذه الوزارة دوريتها في هذا الشأن في الأسبوع الأخير من أكتوبر من السنة الجارية، وسنهتم في هذه المساهمة بحالة الجماعات. وللتذكير، يقصد بالجماعات الترابية حسب الفصل 135 من دستور المملكة المغربية لسنة 2011 ” الجهات والعمالات والأقاليم والجماعات ” وهو ما يعني أن الجماعات جزء لا يتجزأ من الجماعات الترابية.

هناك مجموعة من الأسئلة تفرض هذه المساهمة طرحها، منها: ما الرقمنة؟ ولماذا أصبح اعتمادها ضرورة ملحة؟ وما هي  غاية الحكومة من الرقمنة فيما يتعلق بالجماعات الترابية؟ وما هي المعيقات الحقيقية التي ستحد – في تقديرنا – من دور الرقمنة في إدارات الجماعات؟ وكيف يمكن تجاوزها؟ أسئلة سنحاول ملامسة الإجابة عنها، دون ادعاء بامتلاك الحقيقة.

نستفيذ من  بعض التعاريف المبسطة للرقمنة، أنها فعل (acte) تحويل وثيقة ما إلى ملف مقروء من لدن الحاسوب أو وسيط رقمي.  ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك: رقمنة أوراق الهوية وعقود الازدياد.، ورقمنة رخص البناء وكل ما يتعلق بالتعمير.، ورقمنة رخصة السياقة، إلخ.

وقد أصبحت اعتماد الرقمنة ضرورة لأننا نعيش – أحببنا أم كرهنا –  في العصر الرقمي بما له من إيجابيات ومخاطر. ولا شك أن العنوان الكبير في هذه المرحلة المتقدمة جدا من مراحل العولمة الجارفة هو ” حتمية التفاعل مع الإكراهات المرتبطة بالعالم الرقمي “. وقد زاد من حدة هذا  “الإحساس ” في كل بلدان العالم وخاصة لدى السياسيين، جائحة ” كورونا ” وتبعاتها الاجتماعية والاقتصادية  والمالية على المستويين الوطني والمحلي.  وفي هذا السياق، يمكن فهم تسارع الحكومة مع الزمن وإصدار دورية وزارة الداخلية مؤخرا حول ” رقمنة مساطر وخدمات الجماعات الترابية “.

فما هي غاية الحكومة المغربية الراهنة من الرقمنة حسب هذه الدورية؟

مما ورد جوابا على هذا السؤال، أن هذه الدورية الصادرة في 26 أكتوبر من السنة الجارية، تأتي” تنزيلا لخلاصات تقرير النموذج الجديد للتنمية، وتفعيلا لالتزامات البرنامج الحكومي خاصة فيما يتعلق بإطلاق جيل جديد من الخدمات العمومية، الناجعة والمتاحة الولوج والمرتكزة على التحول الرقمي”.

وتثير هذه الدورية  الانتباه  إلى أن وزارة الداخلية وضعت مجموعة من المنصات والتطبيقات الرقمية، بصفة استباقية، رهن إشارة الجماعات الترابية. والغاية من ذلك، تطوير وتجويد المساطر الداخلية وكذا الخدمات المقدمة للمرتفقين. وذلك في إطار تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنات والمواطنين والمقاولات، والرفع من نجاعة إدارات الجماعات الترابية، وكذا تشجيع المشاركة الوطنية.

وتفيد القراءة الأولية في الجدول المرفق للدورية ذاتها، أن المنصات والتطبيقات التي يتضمنها، تتعلق بخمسة مجالات هامة بالنسبة للمواطنات والمواطنين وعناوينها: مجال العلاقة مع المواطن والمقاولة.، ومجال الحالة المدنية.، ومجال الرخص.، ومجال تدبير أعمال المجالس.، وأخيرا مجال التدبير المالي.

إن هذه الدورية تدخل في سياق مسلسل الإصلاح الإداري الذي هو ليس وليد اليوم. ولنا أن نستحضر تقرير البنك الدولي لسنة 1995 وقد جاء فيه بصريح العبارة، أن الإدارة المغربية تجاوزها الزمن، وبأن مظاهر تقادمها تتجلى في طرق تسييرها وفي علاقتها مع المواطنين والقطاع الخاص (…).

قد يقول قائل، أين نحن من تسعينيات القرن الماضي؟ ونرد، نعم لقد قامت الدولة بجهود كبيرة، محترمة، في سبيل إصلاح الإدارة العمومية وإدارات الجماعات خاصة، فتحسنت ظروف استقبال المرتفقين، وأصبحت الجماعات تتوفر على بعض المعدات التقنية خاصة الحواسب، وأصبح الموظفون يتوفرون في جل الجماعات على هواتف نقالة تسهل التواصل داخل وخارج الجماعات كمثال (…).

لكن، لماذا مازلنا نتحدث عن الإصلاح الإداري؟ و ” إصلاح الإصلاح ” ؟

لقد تم تركيز جل الجهود السابقة على الجوانب التقنية، ومن تم فدورها كان، وما زال، محدودا. وسيكون دور الرقمنة أيضا محدود جدا إذا لم تقم الحكومة الراهنة بإيجاد حلول واقعية للمعيقات البنيوية التي تحول دون إصلاح حقيقي لإدارات الجماعات كحالة نهتم بها في هذه المساهمة. وهو ما يعني ضرورة دعوة خبراء في علوم الإدارة للقيام بدراسات علمية محكمة في الموضوع تستمد قوتها من التشخيصات الميدانية، وما أكثر الخبراء المغاربة. والشرط، التحديد الزمني لإنهاء هذه الدراسات لأن زمن العولمة والرقمنة لا يرحم. ولذلك نعتقد أن من بين أسئلة الساعة بالنسبة للحكومة الحالية:

ما هي المعيقات الحقيقية لإصلاح إدارات الجماعات كحالة؟ وكيف يمكن تجاوزها؟

أجدني ممن يعتقدون أن المعيقات البشرية والتقنية والمالية بالغة التأثير، في حالة الجماعات. ولنا أن نلامس ذلك فيما يأتي من سطور.

تعد الموارد البشرية المؤهلة من أبرز العناصر التي تقود الإدارة إلى تحقيق التقدم والرقي في مختلف المجالات، ويتجلى مدى توفر أية إدارة جماعية عليها في: قدرة هذه الموارد على دراسة الأنظمة اليدوية الحالية.، وقدرتها على وضع الخطط الضرورية لتطويرها.، وقدرتها على الاستفادة من الإمكانات الهائلة التي توفرها التطورات التكنولوجية السريعة.، وقدرتها على تنفيذ الخطط الضرورية لتطوير إدارة الجماعة.، وقدرتها على تصميم الأنظمة الآلية المناسبة وبرمجتها ووضعها موضع التشغيل.

ولعلنا نتفق، من باب مصارحة ذواتنا، أن جل هذه الشروط لا تتوفر حتى في أكبر الجماعات ببلدنا. كما أن جل الجماعات تعاني من قلة، والحقيقة  ندرة أو انعدام وجود الموظفين المعلوماتيين، وضعف تكوين الموظفين الجماعيين في المجال المعلوماتي.

إن المقصود بالموظفين المعلوماتيين: التقنيون المختصون في المعلوميات.، ومديرو مراكز المعلوميات.، ومحللو النظم.، والمبرمجون.، ومهندسو الصيانة والاتصال. ويعد وجود هذه الفئة من الموظفين مسألة أساسية لنتحدث عن وجود إدارة رقمية حقيقية بالجماعات (وغيرها). لماذا؟ لأن هذه هي فئة الموارد البشرية المؤهلة التي تحقق تقدم الجماعة من خلال قيامها بالأعمال التي تمت الإشارة إليها في الفقرة ما قبل السابقة.

ولنا أن نعاين واقع جل الجماعات، بعيدا عن كل خلفية سياسية، لنجيب على السؤال: ما هي نسبة المتخصصين في المعلوميات في كل جماعة؟ والمقصود، الذين خضعوا للتكوين الأكاديمي في معاهد التكوين المهني والجامعات والمدارس المختصة، في مجال المعلوميات.

ونسجل، تدني مستوى الأجور المخصصة لهذه الفئة في حالة وجودها في جماعة ما إذ تخضع للنظام العام للوظيفة العمومية مثل باقي الموظفين وهو أمر يدعو في نظرنا  إلى المراجعة من لدن الحكومة الراهنة. كما تعاني من قلة الحوافز المادية والمعنوية في جل الجماعات. وهي أسباب تؤدي إلى هجرة هذه الفئة إلى الخارج بحثا عن ظروف اشتغال أفضل.

وكما سبق الذكر، هناك كذلك، ضعف التكوين في المجال المعلوماتي، لدى جل الموارد البشرية العاملة بالجماعات. وهنا لا بد أن نثير الانتباه إلى أنه من الواجب على أي مجلس جماعي حيث إن القانون التنظيمي للجماعات رقم 113.14 أسند له تنظيم الإدارة، أن يضع الإنسان المناسب في المكان المناسب. ولذلك، يتعين أن يأخذ برأي مدير المصالح أو المدير العام للمصالح حسب الحالة، للاستفادة من كل فئات الموظفين، والقصد أن الموظفين المعلوماتيين في حالة وجودهم،  هم في حاجة إلى الموظفين الإداريين والتقنيين والماليين والقانونيين، والعكس صحيح  لأن  الإدارة يجب أن تعمل بروح الفريق تحت قيادة حكيمة. ولنا أن نستحضر الحكمة المغربية العميقة الدلالة: ” الجديد له جدته والقديم لا تفرط فيه “.

وفيما يخص المعيقات التقنية، فبالرغم من جهود العديد من الجماعات في هذا الاتجاه حيث اقتنت معدات تقنية من حواسب وهواتف ذكية، وعملت على إدخال تكنولوجيا المعلوميات والاتصال(…)، لتستجيب لحاجيات ومتطلبات المواطنات والمواطنين والمستثمرين، فعلى العموم مازالت هناك مشاكل تحول دون وجود إدارة رقمية بالمعنى الحقيقي للكلمة. وتتمثل هذه المعيقات في ضعف البنية التحتية.، وقلة المعدات أو عدم وجودها، وتقادم البرامج (…).

وفي هذا الصدد، لاحظ بعض الباحثين المغاربة أن البنية التحتية التكنولوجية، وعلى الرغم من حداثتها، إلا أنها تعرف مجموعة من مظاهر القصور يمكن تحديدها في: ضعف تجهيز الإدارات بشبكة الإنترنت.، وضعف في مجال الربط الالكتروني الخاص بين الوزارات وجميع المؤسسات والإدارات.، وقلة المواقع الإلكترونية للوزارات وعدم تفعيلها في الغالب.، وعدم تعميم نظم المعلومات على جميع الإدارات. ومازالت هناك بعض الجماعات في العالم القروي تتعامل بالوسائل التقليدية، ولم تنخرط بعد في مجهود الرقمنة كما جاء في دورية وزارة الداخلية.

ولا تقتصر المعيقات التقنية على ضعف البنية التحتية المؤهلة لاستقبال التكنولوجيا الحديثة، بل تمتد لتشمل قلة المعدات وعدم جودتها في العديد من الجماعات. والحديث هنا عن قلة الحواسب، وتقادمها، وضعف صيانتها(…).

ولنا أن نسجل كذلك، أن العديد من الجماعات لا تتوفر على الإمكانات المالية لاقتناء المعدات التقنية من حواسب وغيرها. والحالة أصعب، حينما يتعلق الأمر بجماعات في الجبال والصحاري، في المغرب العميق.

خلاصة القول، إن الرقمنة ضرورة يفرضها واقع العصر الرقمي الذي يشكل مرحلة متقدمة جدا من مراحل العولمة التي لن تنتهي في القريب المنظور كما تنبأ لذلك المفكر والفقيه في القانون الدولي الدكتور عبد الهادي بوطالب رحمه الله. ولكن، يتعين على الحكومة الراهنة أن تبحث عن السبل العلمية لتجاوز الحلول التقنية – الظرفية،  إن نحن نريد فعلا أن نمشي بخطى ثابتة في اتجاه تطوير إدارات الجماعات، وباقي الإدارات العمومية.

إن الإدارة المتقدمة هي، الشرط الذي من دونه، لن تتحقق التنمية المحلية الترابية  والتنمية المستدامة على المستوى الوطني. والتنمية المحلية الترابية لن تتحقق في ظل المركزية، لذلك فنحن نثير في العديد من المناسبات ضرورة إحداث مديريات جهوية تتكفل بدراسة الحاجيات الحقيقية السنوية للجماعات الترابية باعتبارها وحدة لا يجب تفكيكها،  من الموارد البشرية والتقنية والمالية وغيرها.

وعلى سبيل الختم، نعتقد أن تطوير الإدارة العمومية ومنها إدارات الجماعات في بلدنا، يتطلب اليوم، ثورة في مناهج التربية والتعليم ومقرراتهما وأساليبهما، لأن المدارس ومعاهد التكوين المهني والجامعات هي من يجب أن ينتج لنا موارد بشرية لها كفاءة عالية  وقدرة تمكنها من رفع كل التحديات التي يفرضها عصر الرقمية وما سيأتي من بعده. ولا يكفي ذلك لأننا في حاجة إلى خريجين وخريجات متشبعين بالروح الوطنية والمواطنة للحد من الفساد الإداري والمالي.

* أحمد بلمختار منيرة/ إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *