وجهة نظر

الأستاذ (ة) “المارشال”

في بلاغ إخباري لها، صادر يوم الثلاثاء التاسع من شهر نونبر الجاري، دعت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، كافة الأطر التربوية والتلميذات والتلاميذ وأمهاتهم وآبائهم وأولياء أمورهم، إلى استعمال “النسخة المحمولة للتطبيقات الثلاثة لمنظومة مسار” (“مسار مدرس” و”مسار متمدرس” و”مسار ولي”)، وقد ربطت الوزارة الوصية هذا الإجــراء بسياق تنزيل المشاريع الاستراتيجية لتفعيل أحكام القانون الإطار رقم 17-51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، وخاصة المشروع رقم 18 الرامي إلى “تقوية نظام المعلومات للتربية والتكوين” وكذا في إطار “تطوير وتعزيز الخدمات الإلكترونية على المستويات الوظيفية والتقنية والحكامة، بما يضمن إدماجها الفعال في تدبير المنظومة التربوية وتنزيلها بشكل أفضل على مختلف المستويات المركزية والجهوية والإقليمية والمحلية”.

من ناحية الشكل لايمكن إلا أن نتفق كأطر تربوية مع أية خطوة أو مبادرة ترمي إلى فتح الممارسة التعليمية على الرقمنة بكل مسالكها وشعابها، لما لها من آثار إيجابية على الفعل التعليمي التعلمي، لكن من حيث الموضوع، فلايمكن إلا النظر إلى التطبيقات المذكورة بنوع من القلق والتوجس والإحباط، ونخص بالذكر التطبيق الذي يعني الأطر التربوية مباشرة (مسار مدرس)، والذي أثار زوبعة من الجدل في أوساط نساء ورجال التعليم، لأنه سيثقل الكاهل بأعباء جديدة، تنضاف إلى أعبـاء قديمة حولت الأستاذ(ة) إلى ما يشبه “السوبيرمان”، الذي يقوم بجملة من العمليات والإجراءات الصامتة المكرسة لمشاعر الرفض والقلق والشكوى واليأس والإحباط في غياب أدنى شروط الدعم والتحفيز، ويكفي قولا أن الأستاذ(ة) بات اليوم مثله مثل “المارشال” المثقل بالنياشين والأوسمة، فهو “يدرس”(تخطيطا وتدبيرا وتقويما) و”يدبـر”(الخلافات والتناقضات داخل الفصل) و”يصحح”(الفروض والامتحانات الإشهادية) و”يمسك”(مسك النقط بمنظومة مسار) و”يراقب”(مراقبة/حراسة الامتحانات الإشهادية والمباريات المهنية ومباريات التوظيف)، و”يصاحب”(مصاحبة الأساتذة الجدد) و”يوجه”(مواكبة مشاريع المتعلمين)، و”ينشط” و”ينسق” (الحياة المدرسية).

وكما يقول المثل الشعبي “ما قدو فيل، زادوه فيلة”، ونقصد بالفيلة هنا،” النسخة المحمولة لتطبيق “مسار مدرس” الذي سيضع الأطر التربوية – موازاة مع العملية التعليمية المنوطة بها – في صلب متاعب وأعباء إضافية من قبيل ” الاطلاع على لوائح التلاميذ وأقسامهم وجداول حصصهم”، و”مسك النقط” و”الغيابات”، و”برمجة المراقبة المستمرة” و”تتبع إنجازات الواجبات المنزلية من طرف التلاميذ وتنفيذ البرامج بسهولة” كما ورد في ذات البــلاغ الإخباري.

وهذه الممارسات أو التدخلات الالكترونية، تفرض على الأطر التربوية الاشتغال خارج الفصول الدراسية داخل بيوتهم، بكل ما لذلك من أثار نفسية وصحية واجتماعية، ومن تداعيات أسرية وتربوية، وحتى تتضح معالم الصورة المقلقة، فالأساتذة بدون استثناء يعانون داخل الأقسام الدراسية في ظل حالات الاكتظاظ التي تعرفها الكثير من الأقسام، ويهدرون الطاقة لفرض الحدود الدنيا من الصمت والانضباط، ويستنزفون القدرات الصحية والنفسية في تدبير العمليات التعليمية التعلمية داخل أقسام مكتظة لا تطاق، ولا تنتهي حكايتهم بعد انتهاء حصص العمل اليومي، بل يشتغلون حتى في البيت في الإعداد والتحضير وتهيئة الفروض والتصحيح، بكل ما لذلك من فاتورة صحية ونفسية واجتماعية ومادية أحيانا، وفي ظل هذه الأوضاع المقلقة، فالتطبيق الجديد، سيكون ليس فقط، ضيفا ثقيلا، قد يتم تقبله على مضض، بدون حفاوة أو روح، ما لم تتم مواكبته بظروف وشروط التحفيز، بل ومساسا ناعما بحالتهم الصحية والنفسية، وبعلاقاتهم الطبيعية مع محيطهم الأسـري.

وإذا ما تجاوزنا الآثار النفسية والصحية والاجتماعية لهذا التطبيق المثيـر للجدل، فمن الناحية الواقعية أو العملية، يصعب الرهان عليه، في غياب شروط التنزيل، لأنه يقتضي أن يتوفر الأساتذة على “هواتف ذكية ” على درجة مقبولة من النجاعة والفاعلية، كما يقتضي التوفـر على “تغطية الأنترنيت” بشكل دائم، وفي هذا الإطار، فالهواتف هي ذات “طابع شخصي” و”ليس مهني” أو “وظيفي”، وبالتالي كل شخص يبقى حرا في امتلاك الهاتف الذي يرغب فيه أو ينسجم وقدراته المادية “ذكيا” كان أو “غير ذكي”، علما أن بعض المدرسين غير معنيين لا من قريب أو من بعيد بالهواتف الذكية، ويكتفون في تواصلهم بهواتف “عادية” مادامت تحقق غاية الاتصال والتواصل، وهم أحرارا في اختياراتهم، ولا يمكن قطعا إرغامهم على امتلاك هاتف دون آخـر أو “ماركة” دون أخــرى، أما بخصوص “تغطية الأنترنيت”، فمن الخجل أو العبث، أن يفرض على الأستاذ(ة) تحمل تكاليف الأنترنيت لأداء مهام مهنية صرفة، ويكفي أنه يشتري الأقلام ويطبع وينسخ أوراق الفروض والوثائق من ماله الخاص، بل ويكفي قولا، أنه هو الموظف الوحيد الذي يشتغل في العمل والبيت وفي العطل، ويصرف من ماله الخاص في كثير من الحالات من أجل المهنة.

مجموعة من الأساتذة عبروا عن انزعاجهم من التطبيق الجديد، وبعضهم رفع شعار “هاتفي ملك شخصي”، وبما أننا من “أهل الدار”، فليس أمامنا إلا التعبير عن مشاعر القلق واليأس والإحبــاط، لأن المهام باتت تنزل على الأساتذة بشكل لا يطاق، وإذا كانت بعض هذه المهام تمرر تحت يافطة تنزيل المشاريع المرتبطة بالقانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، فأقصى ما تفعله، أنها تثقل كاهل نساء ورجال التعليم، وترفع من منسوب قلقهم ومتاعبهم وإحباطهم، لذلك، لن يعول عليها في بلوغ الأهداف المسطرة لها، ما دامت تعطل محرك الإصلاح وصمام أمانه، ونقصد هنا “الأستاذ (ة) ” الذي يبقى اللاعب المحــوري في مباراة الإصلاح والتجديد، التي يصعب البتة ربحها، إلا بمنتخب قوي ومحفز ومتجانس من نساء ورجال التعليم بكل فئاتهم وانتماءاتهم.

النسخة المحمولة من تطبيق مسار، نقر أنها لن تكون إلا خادمة للتلميذات والتلاميذ على مستوى “الولوج بسهولة أكبر إلى المعطيات المتعلقة بتمدرسهم، وعلى وجه الخصوص، الاطلاع على استعمالات الزمن والنقط وإعداد الواجبات المنزلية والتعــرف على الامتحانات المبرمجة وتتبع الغيابات ” (مسار متمدرس) وأمهاتهم وآبائهم وأولياء أمورهم من خلال “سهول الاطلاع على المعطيات المتعلقة بالمسار الدراسي لأبنائهــم وبناتهم، لا سيما استعمالات الزمن والنقط المحصل عليها في المراقبة المستمــرة والامتحانات وتتبـع الغيابات والواجبات المنزلية)، لكن بالنسبة للأساتذة، فالنسخة المحمولة (مسار مدرس) تطرح أكثر من سـؤال حول واقع حال الأطر التربوية، التي باتت تسقط عليها المذكرات والبلاغات تباعا كأوراق الخريف، بشكل يؤسس ويقعد لحزمة من المهام الناعمة والمسؤوليات الصامتة، المغلفة بجلباب الإصلاح الذي بشـر به القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، الذي كان يعول عليه لإعادة الاعتبار للمهنة والارتقاء بالأوضاع المهنية والاجتماعية والنفسية لشغيلتها، لكن يبدو أنه لم يحمل حتى الساعة على الأقل، إلا مفردات القلق والتوجس والمتاعب والآهات والإحباط والاحتقان.

مرة أخرى، نرى أن نساء ورجال التعليم مع التغيير والإصلاح والتحديث، لكنهم لن يكونوا إلا ضد إثقال كاهلهم بكثرة المهام والتدخلات المتعددة المستويات، لما لها من تداعيات صحية ونفسية وأسرية واجتماعية ومادية، خاصة في غياب الحدود الدنيا من الدعم والتشجيع والتحفيز، ومن غير المقبول أن يتم تحميل نساء ورجال التعليم عدة مهام بالجملة على امتداد اليوم والشهر والسنة في غياب مطلق للتعويضات، على غــرار مجموعة من الإدارات التي تمنح لموظفيها التعويضات عن المهام والأعباء الإضافية وأحيانا بسخاء، بحثا عن الجـودة والمردودية، اللتين لايمكن قطعا بلوغهما، إلا بالدعم والتحفيز وتوفير المناخ المهني الآمن والمستقر الذي يسمح بالاجتهاد والابتكار والإبـداع، لذلك، يمكن أن نجد تفسيرا لمحدودية بعض الأوراش الإصلاحية ذات الأهمية القصوى، من قبيل “الحياة المدرسية” التي تكاد تغيب من الفضاءات المدرسية أو على الأقل لا تحضر بنفس القوة، في غياب شروط التحفيز الدافعة نحو المبادرة والاجتهاد والابتكار، خاصة في ظل الحضور القوي للمعرفة وضغط البرامج الدراسية (العبرة في الكيف وليس في الكم) وفروض المراقبة المستمرة.

وتنويرا للرؤية، وعلى سبيل المثال الحصر، فبأستاذ يشتغل طيلة أيام الأسبوع (من 20 إلى 24 ساعة أسبوعيا أو أكثر بالنسبة للسلك الابتدائي)، ويستنزف ما تبقى من قدراته الصحية والفكرية، في الاشتغال بالمدارس الخصوصية أوفي تقديم دروس الدعم الليلي أو في الساعات المؤدى عنها، وتلميذ (ة) يدرس صباح مساء (مابين 6 إلى 8 ساعات في اليوم )، نضيف إليها ساعات ليلية في إطار الدعم، ومطارد بشبح فروض المراقبة المستمرة التي ستزاد إرهاقا بتبني الفروض الموحدة، من الصعب أن نكسب رهان “حياة مدرسية” قادرة على بناء تلميذ (ة) متواصل ومتفتح ومبدع ومواطن مسؤول …، والنتيجة المقلقة، الإسهام في تكريس مدارس بدون قلب ولا حياة، مهمتها الجوهرية “الشحن” و”الإرهاق” ولا شيء غيرهما.

عموما، فمشاريع رائدة من قبيل “الحياة المدرسية” و”الأستاذ الرئيس” و”النسخة المحمولة لتطبيقات مسار” و”التربية الدامجة” و”الرياضة المدرسية”، هي مشاريع من ضمن أخرى، لايمكن إلا القبول بها وتثمينها من باب الإيمان الراسخ بجـدوى الإصلاح والتحديث، لكن نؤكد أن العبرة ليست في المشاريع أو تنزيلها، بل في الأطراف التي ستنزلها وطبيعة البيئة المدرسية التي ستنزل فيها، وبدون شك، فالحلقة المفقودة في كل هذه المشاريع الإصلاحية وغيرها، تكمن في إغفال “الأطراف” (الأطر التربوية) و “البيئة المناسبة” (بنية الاستقبال المدرسية)، مما يفرمل عجلة الإصلاح، ويجعل الكثير من المشاريع الوازنة لا تحقق الأهداف المسطرة لها، إن لم نقل أنها تبقى سجينة المذكرات التي أنتجتها.

ونحن نفتح ملف “النسخة المحمولة لمنظومة مسار” التي أثارت ولا زالت تثير زوبعة من الجدل في أوساط المنظومة التربوية، ترددنا كثيرا في عملية اختيار عنوان للمقال، قبل أن يستقر اختيارنا على العنوان أعلاه (الأستاذ(ة) المارشال)، وهذا “العنوان” هو مرآة عاكسة لسياسة إصلاحية تربوية، بدل أن تشفق على الأستاذ(ة) وتحرره من قيود المناهج وضغوط البرامج، وتهيئ له البيئة المناسبة والسليمة للاجتهاد والإبداع والابتكار، تصر على تطويقه بالمزيد من الأعباء والتدخلات المتعددة الزوايـا، التي تجعله يرتقي على مضض، من درجة “الأستاذ الرئيس” إلى درجة “الأستاذ المارشال”، الذي “يخطط” و”يدبر” و”يقوم” و”يوجه” و”يحرس” و”يصحح” و”يرشد” و”يحفز” و”ينشط” والقائمة طويلة، ولا ينقصه إلا حمل “النياشين” و”الأوسمة” و”البندقية”، ولعل من آخر الأعباء والمتاعب، بغض النظر عن تطبيقات مسار، اعتماد “الفروض الموحدة” التي لا أحد يعرف حتى اللحظة “مجراها” و”مرساها”، ماعدا أنها ستكون حاملة للمزيد من الشقاء والعذاب للأطر التربوية والإدارية والتلاميذ على حد سـواء.

وهذا الأستاذ (ة) لا يريد أن يكون “رئيسا” ولا يتطلع لدرجة “مارشال”، يريد الاحترام والتقدير والتحفيز وإعادة الاعتبار، وإشراكه في بلورة مختلف مشاريع الإصلاح لأنه هو “منفذها” و”منزلها” على أرض الواقع، ويتطلع إلى تخليصه من المناهج المتجاوزة والبرامج العتيقة، وطرائق التقويم البالية والأطر المرجعية النمطية، التي تقتل في التلميذ(ة) ملكات التفكير والنقد وإبداء الرأي والحجاج والترافع والالتزام والتواصل والإشعاع، وفي “الأستاذ(ة) روح الخلق والإبداع والابتكار…

وعليه، وعبر مقال “الأستاذ(ة) المارشال”، نوجه رسالة مفتوحة إلى صناع القرار السياسي والتربوي بالأساس، من أجل الالتفات إلى واقع حال نساء ورجال التعليم، والتفكير في السبل الممكنة والمتاحة للارتقاء بأوضاعهم المهنية والمادية والاجتماعية والنفسية عبر استعجال تنزيل نظام أساسي عادل ومنصف ومحفز، فلا يمكن الإصلاح أو كسب مباراة الإصلاح بلاعبين يائسين ومحبطين ومترددين ومتقاعسين، تفرض عليهم خطط اللعب بشكل آلي، دون إشراكهم فيها، بل دون حتى الاستماع إلى آرائهم وتصوراتهم “التقنية” و”التكتيكية”، ونفس الرسالة نوجهها إلى الفاعلين الاجتماعيين (النقابات) الذين لابد أن يخرجوا من “دكة الاحتياط” للدفاع والترافع بمصداقية والتزام، عن حقوق وتطلعات الشغيلة التعليمية التي تعيش اليوم على صفيح ساخن من غاز الاحتقان.

ويبقى الأمل في الحكومة الجديدة التي التزمت في برنامجها الحكومي في الارتقاء بالأوضاع المهنية والمادية لنساء ورجال التعليم، وخاصة ما ورد في البرنامج الانتخابي للحزب التجمعي الذي يقود قاطرة هذه الحكومة الجديدة، وفي الوزارة الوصية في شخص “شكيب بن موسى” مهندس “النموذج التنموي الجديد”، الذي تعرف عن قرب عن حقيقة وخبايا الواقع التعليمي، وهو يقود اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، في أن يتم تصحيح الرؤية، وحسن استيعاب أن المشاريع الإصلاحية المنزلة أو قيد التنزيل لاقيمة لها، ما لم يتم إعادة الاعتبار لنساء ورجال التعليم، وفي هذا الصدد، من الصعب بناء خيمة بدون عمود مركزي أو تحريك عجلات سيارة أو قطار بدون محرك، ولا يمكن أن نختم المقال، دون الوقوف وقفة إجلال وتقدير، احتراما وتكريما لكل نساء ورجال التعليم النزهاء والشرفاء، الذين يمارسون رسالتهم النبيلة في أجــواء شاقة، تحضر فيها مشاعر القلق واليأس والتذمر والإحباط والضغط والتوتــر، خاصة في ظل معضلة “الاكتظاظ”، ومع ذلك، يجتهدون ويبدعون في حدود الإمكانيات المتاحة، إسهاما منهم في صناعة الإنسان/المواطن، والأستاذ(ة) الذي يشتغل في أجواء من هذا القبيل، وفي غياب أدنى شروط التحفيــز، لن يكون إلا “أستاذ(ة) مارشال”، في انتظار “اعتبار” طال أمده …، وهذا الاعتبار بات اليوم “ضرورة قصوى”، لأن رهانات “النموذج التنموي الجديد” لايمكن قطعا كسبها، إلا في ظل منظومة تربوية عصرية وناجعة وفاعلة وعادلة ومنصفة وآمنة ومستقرة ومحفزة، وبأستاذ(ة) “مارشال” شكلا ومضمونا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *