وجهة نظر

هجـرة نحــو الســراب

من الهجرة بطرق غير مشروعة عبر قوارب الموت، إلى السفر باستعمال وثائق مزورة، ومن التسلل إلى أسفل هياكل مقطورات النقل الدولي، إلى استهداف الحاويات المعدة للتصدير نحو الخارج، ومن محاولات الهروب الفردي إلى عمليات التهجير التي تقف وراءها الشبكات المتخصصة في الهجرة غير المشروعة، هي طرق ووسائل من ضمن أخرى باتت مألوفة في واقع سوسيواقتصادي مكرس لمشاعر القلق واليأس والإحباط وانسداد الأفق، في ظل عقليات عصية على الفهم والإدراك، تضع كل آمالها وأحلامها في سلة الهروب إلى “الفردوس” الأوربي، بدل الكفاح لفرض الذات داخل الوطن والعيش في إطار من المسؤولية والكرامة بين أحضان الأهل والأحبة والأصدقاء، بعيدا عن قساوة الاغتراب.

لكن غير المألوف في سجلات الهجرة غير المشروعة، وفي طقوس الهروب الفردي والجماعي نحو سراب الضفة الشمالية للمتوسط، أن يتمكن شخص من النصب والاحتيال على العشرات من الحالمين بالهجرة نحو الخارج تجاوزوا عتبة المائتي ضحية، عبر مدهم بعقود شغل وهمية مقابل مبالغ مالية مهمة قاربت “الملياري سنتيم” حسب الأخبار المتداولة إعلاميا، قبل أن يتوارى ومن معه عن الأنظار، تاركا ضحاياه على وقع الصدمة التي وصلت حد الانتكاسة الكبــرى، التي تضعنا وجها لوجه أمام واحدة من أكبر عمليات النصب المرتبط بالتهجير نحو الخارج، لاعتبارين اثنين لا ثالث لهما، أولهما: عدد الضحايا (حوالي 200 ضحية)، وثانيهما: قيمة المبلغ المتحصل عليه في إطار هذه العملية الإجرامية (حوالي ملياري سنتيم).

هذه العملية غير المسبوقة، كان بالإمكان تقبلها على مضض لو وقعت في مدينة كبرى من قبيل الدارالبيضاء أو طنجة أو الرباط سلا أو مراكش أو أكادير أو غيرها، لكن وقعت في مدينـة صغيرة من حجم مدينة “سيدي سليمان” التي تتربع في صمت في منطقة الغرب، وإذا ما تركنا الجوانب القانونية والمسطرية والقضائية للشرطة والقضاء، لمعرفة كافة الظروف المحيطة بهذه العملية الإجرامية المثيرة للجدل، فما حدث من مأساة، يسائل ما تعيشه الكثير من المجالات الحضرية والقروية من تواضع اقتصادي وبؤس تنموي، يقوي الإحساس الفردي والجماعي باليأس والإحباط وانسداد الأفق، خاصة في أوساط الساكنة النشيطة وخاصة الشباب منهم، وفي ظل انعدام العروض التنموية أو محدوديتها على الأقل، تبقى الهجرة، حلما بالنسبة للكثير من الشباب، يزداد قــوة ومشروعية في ظل واقع معيشي صعب، خاصة في الأوساط شبه الحضرية والقروية التي ترتبط ارتباطا عضويا بالأنشطة الفلاحية التي تعد الأمطار محورها ومحركها الأساس كما هو حال مدينة “سيدي سليمان”.

المحددات السوسيومجالية والاقتصادية، تجد أمامها عقليات سائدة، تسيطر عليها ثقافة الهجرة والهروب نحو ضفة شمالية، يعتقد أنها تربة خصبة لبناء المستقبل والحياة وإدراك الأحلام الوردية بعيدا عن “ريحة البلاد” أو “ريحة الدوار”، بدل كبح الطموح الجارف والتحكم في الأحلام الخادعة، والكفاح والاجتهاد لبناء الذات وتطوير القدرات والاجتهاد في البحث عن “الحلول الممكنة”، في إطار من الواقعية والموضوعية والمسؤولية والالتزام، وفي هذا المستوى من النقاش، نحمل المسؤولية كاملة إلى مختلف الأجهزة الترابية التي يفترض أن تحتضن الشباب وتؤطرهم، وتجتهد لتمكينهم من أدوات بناء الذات والنهوض والارتقـاء، وبما أن مصائب قوم عند قوم فوائد كما يقال، فهناك من يجيد الاصطياد في الماء العكر، ويتفنن في الركوب على المآسي والأحلام، كما حدث في انتكاسة “سيدي سليمان”، حيث نجح “بطل الفيلم” وهو مهاجر مغربي بالخارج، في استغلال الظروف المعيشية لشباب المنطقة، وخاصة رغبتهم الجامحة في الهجـرة إلى أوربا وكندا، فنجح بمكر وخداع، في بيعهم “صكوك الوهم” بمقابل مبالغ مالية مهمة، قبل أن يختفي عن الأنظـار، تاركا وراءه مآسي اجتماعية وإنسانية ونفسية.

بلغة “الأقراص” أو “الخشيبات”، هؤلاء الضحايا فقدوا جميعهم حوالي “ملياري سنتيم”، وهذا المبلغ المهم، كان بالإمكان استثماره في مشاريع فلاحية أو تجارية، تعود عليهم بالمنفعة والخير العميم، وحتى لانكون حالمين أكثر، فكل شخص فقد ما بين “8” مليون سنتيم إلى “10” مليون سنتيم حسب المعطيات الرائجة، وهذا المبلغ، لو استثمر في مشروع أو عملية تجارية، كان بالإمكان أن يدر بعض الربح على صاحبه، ويقوي فيه روح المبادرة، وبصيغة أخرى، كيف يمكن لشخص أن يدبر مثلا مبلغ “10”مليون سنتيم، إما عبر السلف أو بيع بعض الأغراض الشخصية، للرهان به في عملية تهجيــر غير مضمونة، ولا يستطيع أن يدبر ذات المبلغ، بهدف خلق مشروع شخصي في إطار التشغيل الذاتي …؟ وفي حالات كثيرة، نجد أسرا تدبر مبالغ مالية لأبنائها بكل السبل الممكنة والمتاحة من أجل الدفع بهم في اتجاه عمليات تهجير محاطة بالمخاطر، وتعجز عن القيام بذلك، لما يتعلق الأمر بخلق مشاريع صغـرى قد تكون مصدرا للدخل ؟

وضعيات وتساؤلات من ضمن أخرى، إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن “الهجرة نحو الخارج” باتت “ثقافة” راسخة في العقول والأذهــان، في أوساط سوسيومجالية، تغيب عن سمائها شمس “روح المبــادرة”، ولما تغيب “المبادرة”، تحضر مشاهد الكسل والتهاون والتواكل والتقاعس، وتحضر معها قناعات راسخة في أن الأحلام تتبختر في شوارع باريس أو برلين أو روما، وتجول في أحياء لندن أو واشنطن أو أوطاوا وغيرها من مدن وعواصم أوربا وأمريكا وكندا، التي لازالت تسرق عيون الحالمين والباحثين عن السراب بعيدا عن التراب، وفي جميع الحالات، مأساة اجتماعية ونفسية وإنسانية من هذا القبيل، لايمكن تجاوزها أو المــرور عليها مرور الكرام، لأنها مرآة عاكسة لأزمة اقتصادية واجتماعية وتنموية صامتة، تقتضي التدخل الآني والمعالجة الفورية، أولا من بوابة القضاء الذي لابد أن يرافع حتى تعود الأموال المسلوبة إلى أصحابها، والتعامل الصارم مع جرائم من هذا العيار الثقيل، لما لها من مساس بصورة البلد وإشعاعه، وثانيا من مدخل التنمية، التي تبقى الخيار الناجع، لإشاعة ثقافة الأمل والتفاؤل وروح المبادرة والخلق والإبداع والابتكار وحب الانتماء للوطن خاصة في أوساط الشباب، ونختم بالقول “اللهم قطران بلادي ولا عسل بلادات النــاس”، وفي حالات كثيرة يترك الإنسان “عسل البلاد”، ولا ينتبه إلى ذلك، إلا وهو بين مطرقة الغربة وسندان أوجاع البعد عن الوطن …ومهما قيل أو ما يمكن أن يقال، فما حدث في مدينة “سيدي سليمان” هو “هجرة نحو السراب”، وهذا العنوان المثير الذي تتقاطع فيه الأحلام والأوهام، نضعه بين أيادي كتاب السيناريو وتحت مجهر المخرجين، فربما يصلح في أن يكــون موضوعا لفيلم درامي، يرصد قصة هجرة مع “وقف التنفيذ”، بدأت بالأحــلام وانتهت بالسراب والأوهــام …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *