وجهة نظر

دور الذكاء الترابي في تحفيز الاستثمار وخلق التنمية بالجهات

إن التطور الذي شهده العالم في العقود الأخيرة والتغييرات الاقتصادية المتسارعة التي عرفها خاصة مع عولمة الاقتصاد واحتدام المنافسة، وما نتج عنه من حرية في انتقال السلع والخدمات والكفاءات، وأيضا في المعلومات، دون الأخذ بعين الاعتبار لأية حدود جغرافية أو زمنية، وأمام التطور الكبير الذي عرفته تكنولوجيا الاتصالات والتواصل على مستوى العالم، قد جعل من تملك المعلومة الاستراتيجية شرطا أساسيا لخلق اقتصاد تنافسي وبالتالي تحقيق مستويات أعلى للتنمية، وأصبحت المعلومة في ظل هذا الوضع تعد ضمن الموارد الجديدة للإنتاج؛ حيث ارتبط تحقيق النمو بشكل عام بمدى توفير المعلومة اللازمة وبالدقة المطلوبة.

ولمسايرة هذا التطور أصبح المغرب مطالبا بنهج سياسات منفتحة أكثر، مستفيدا مما تتيحه تكنولوجيا المعلومات والاتصال والاستشارة، والقدرة على التواصل السريع والاني، والعمل على صناعة سياساته العمومية والترابية بناء على نظم ذكية، بشكل يوفر المعلومة ويسمح بالحصول عليها داخليا وخارجيا تحقيقا للإشعاع المطلوب بهدف استقطاب الاستثمارات والرساميل الضرورية لتحريك عجلة الاقتصاد الجهوي والتنمية.

ويعد الذكاء الترابي واحد من أهم الأنظمة المتحكمة في المعلومات الاستراتيجية، فهو يوضح الطريقة التي يتطور بها التراب باعتماد مقاربة علمية ومنهجية متعددة التخصصات، بحيث يعتمد دمج المعلومات والتكنولوجيا ومناهج أخرى لقراءة وتأويل النتائج، فهو وسيلة بين يدي الباحثين والفاعلين الترابيين وعلى رأسهم الفاعلين الجهويين من أجل معرفة أفضل للمجال الترابي الجهوي، ومن أجل معالجة أنجع لشؤونه، ويمكن صناع القرار من استغلال الفرص المتاحة ومواجهة المخاطر المحتملة، وكذا من تسويق التراب الجهوي والرفع من تنافسيته دوليا.

وبما أن الجماعات الترابية وعلى رأسها الجهة أصبحت المجال الترابي الأنسب لبلورة سياسات ترابية واستراتيجيات تنموية، تترجم عبر برمجة وتنفيذ برامج ومشاريع تخدم الشأن الترابي، فإن من شأن تبني الفاعلين الجهويين للذكاء الترابي التوفر على المعلومة الاستراتيجية الضرورية لفعالية أكبر في صناعة القرار، ويمكن من التعرف على إمكانيات وقدرات المجال الجهوي، وكذا نقائصه واحتياجاته والمعوقات التي تعترضه خلال عملية التنمية، كما يمكنهم من توفير المعلومة للشركاء الاقتصاديين والمهتمين بالاستثمار به، بشكل يؤهله للتنافسية الاقتصادية ويمكن من تسويقه في ظل عولمة الاقتصاد والمجال.

ويعتبر المستوى الجهوي أنسب مجال لتطبيق الذكاء الترابي وتفعيل السياسات التنموية الترابية، إذ يساهم في الاستثمار الأمثل للمؤهلات والموارد الذاتية للجهة، وفي دفع مختلف الفاعلين إلى المساهمة في إنجاز مشاريع تقوي من جاذبية المجال وتحقق التنمية السوسيو-اقتصادية؛ وبالتالي، سيساهم اعتماد الذكاء الترابي في جعل الجهة قادرة على جلب الاستثمارات وتوجيهها بفعالية نحو تحقيق الإقلاع الاقتصادي، وتحقيق تنمية ترابية ذكية مستديمة متوازنة ومنصفة. فاستخدام الكفاءة التكنولوجية على الصعيد الجهوي سيساهم في توفير المعطيات وجمع الاحصائيات واستقرائها، كما سيساعد الفاعلين الجهويين على اتخاذ القرار الأقرب للموضوعية، في أقصر مدة ممكنة وتوزيعه على مجموع الهياكل التنفيذية بالسرعة والدقة المطلوبتين.

فلا اختلاف في أن النظم الذكية لتدبير التراب ستمكن الفاعلين الترابيين من إعداد التصميم الجهوي للإعداد التراب وبرنامج التنمية الجهوية بشكل دقيق، ومن التعرف على المؤهلات والامتيازات الداخلية والأزمات التي تعرفها الجهة وكذا التهديدات والمخاطر الخارجية التي تعترضها، وهو واحد من أهم وسائل التحليل الداخلي والخارجي، إذ يمكن من برمجة وضعية المجال والامكانيات التي يتوفر عليها عبر مروره من عدة مراحل تتمثل في تحديد مجال الدراسة وجمع المعلومة وتحليلها ونشرها وهو جوهر الذكاء الترابي ليتم العبور إلى مرحلة رقمنة المجال والمدن الذكية.

فالتحول السريع الذي تعرفه المجالات الحضرية إلى جانب تزايد استخدام تقنيات الاتصالات وتقنية المعلومات بين الافراد والمجموعات والحكومات سيؤدي إلى تعزيز التحول الاجتماعي والاقتصادي للمدن، بشكل سيسمح للمدن التي تمتلك نظاما متطورا يعتمد على بنية تحتية ترتكز على تقنية الاتصالات الرقمية والمعلومات بهدف مراقبة ومتابعة أجزائها ومكوناتها وبنياتها التحتية ومواردها البشرية، من خدمات وتجهيزات وشبكات طرقية وأنفاق ومطارات وموانئ ومنشئات صناعية وعقارات، بالإضافة لما تتوفر عليه من موارد طاقية، أن تصنف بالمدن الذكية. وينتج عن عملية تحويل المدن إلى مدن ذكية عدة مزايا أهمها الحفاظ على الموارد الطبيعية والبيئة وتوفير استهلاك الطاقة وتسهيل انسيابية حركة التنقل، وتحفيز حركية الاستثمار والاقتصاد.

يقوم تفعيل الذكاء الترابي على ضرورتين أساسيتين، تتمثل الأولى في رقمنة المجال للوصول للمدن الذكية، وتتمثل الثانية في اعتماد الحكومة الالكترونية، بحيث يلغى شرط الزمان والمكان والحضور المادي لبلوغ الهدف وقضاء المصالح، فبالإضافة للسرعة في الحصول على المعلومة يمكن من قضاء المصالح الإدارية على مدار الأربعة وعشرون ساعة والأسبوع، خاصة تقديم الطلبات وإيداع الملفات بشكل رقمي لدى المصالح الإدارية، بما يسهل مأمورية الجميع من مرتفقين وإداريين، أجانب ومواطنين، ويساهم في ربح الوقت وتوفير الجهد، والحد من التدخل البشري في معالجة الملفات؛ فتوفر هذين الشرطين أضحى ضرورة حتمية لتحقيق سياسة المغرب الرقمي.

إن إمكانية تحقيق استراتيجية الذكاء الترابي للأهداف المبتغاة منها تبقى رهينة بمدى قدرة مختلف الفاعلين في هذه الاستراتيجية على التخطيط والتدبير المحكم للمجال الترابي الجهوي، فعلى عكس ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن من كون المعنيين بهذه الاستراتيجية هم فقط المنتخبون الجهويون، فإن هذه المهمة تهم مختلف الفاعلين العموميين والترابيين، وتبقى الجهة حلقة وسطى بين الدولة من خلال ممثلي السلطة الحكومية في الداخلية من ولاة وعمال، وممثلي المصالح اللامتمركزة لباقي الوزارات من جهة، والجماعات الترابية والتمثيليات المهنية من جهة أخرى؛ دون إغفال دور كل من المجتمع المدني بمختلف فعالياته السياسية والجمعوية، والفاعلين الاقتصاديين، وكذا الخبراء ومراكز الأبحاث في تطوير هذه الاستراتيجية وإنجاحها.

إن كسب رهان تطوير استراتيجية الذكاء الترابي على المستوى الجهوي باعتباره المدخل الأساسي لتحقيق النجاعة في جلب الاستثمارات الضرورية لتحريك عجلة الاقتصاد الجهوي يتطلب اتخاذ بعض التدابير الكفيلة بالمساهمة في تأهيل المجال الترابي، وتسهيل عملية تسويقه داخليا وخارجيا، والرفع من تنافسيته على المستوى الإقليمي والدولي، إذ أن كسب هذا الرهان لن يتأتى إلا من خلال العمل على ضمان إلتقائية برامج وتدخلات جل الفاعلين العموميين والترابيين والخواص، إضافة إلى العمل على تقوية الموارد المالية للجهات وتأهيل الموارد البشرية بها باعتبارهما ركيزتين ضروريتين لنجاح التدبير الترابي، كما أن تكريس تقنيات التدبير المقاولاتي داخل الجهات يعد ضرورة لا محيد عنها من أجل ترسيخ صفة الجهة المقاولة لما لها من دور أساسي في تقوية التنافسية الترابية وإنعاش الجاذبية الترابية بشكل عام والجهوية بشكل خاص وبالتالي تطوير الاستثمار المحلي والجهوي.

وعموما، إن أهم ما يبحث عنه المستثمر بالإضافة للقوانين اللامركزية المشجعة، هو توفر المناخ الاستثماري الملائم في جو يسود فيه الأمن والاستقرار، سواء من حيث توفر البنيات التحية والأساسية الضرورية من شبكات طرقية تربط بين الجهات، وتهيئ البنيات الاستقبالية والمناطق الصناعية، أي تأهيل الجهة لاستقطاب المشاريع الاستثمارية، مع السهولة في حصوله على المعلومة؛ أو من حيث الحماية القانونية المؤطرة للعملية الاستثمارية، من قبيل اعتماد ميثاق استثمار محفز ووضوح قانون الصفقات العمومية، ومدونة التجارة وحرية الأسعار والمنافسة وكذا اعتماد نظام الاستثناءات في مجال التعمير؛ أو من خلال تعزيز المنظومة القضائية بالمحاكم الإدارية والتجارية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *