وجهة نظر

الريع البرلماني بين القديس والانتهازي

إذا اعتبرنا أنّ “تبرلمانيت” ليست وظيفة ينالها البرلماني بعد مباراة يجتازها أو بكفاءة اكتسبها بعد تكوين نظري و تدريب ميداني ، ليسوّغ لنفسه الحصول من وراءها على الوافر من التعويضات إضافة إلى تقاعد أسهل من حلم يقظان ، و إنّما هي تكليف من مجموعة من الناخبين توسّموا في المنتخَب خيرا للأمّة و للمجتمع ، و هذا التكليف يأتي بعد التعريف و الحملة الانتخابية التي قام بها من بدلوا من وقتهم و صحّتهم و مصالحهم اليومية و ربّما من مالهم ، إذا اعتبرنا ذلك كذلك ، فمن المخجل أن نسمع من البرلمانيين من يبرّر لنفسه نيل تقاعد عن مهمّة هي في الأصل تكليف ينتهي بانتهاء الولاية التشريعية .

و إذا كان ذلك الذي خرج من البرلمان بأسرة جديدة و بيت ثاني أفخم من بيته الأصلي لم يكن ليحلم به لولا الراتب الشهري الذي ظلّ يتقاضاه طيل مدّة الولاية ، كما خرج بتقاعد مريح و بشبكة علاقات و مصالح جنى من ورائها خلال ولايته ما جنى كما سيستمر في جني مصالح خاصّة بعد ذلك ، الذي خرج بنمط حياة أكثر رغدا مع رصيد مادّي و راتب شهري غير منقطع يمكّنه من صيانة هذه الحياة لتبقى أقرب إلى الرّفاهة منها إلى حياته السابقة ، مع العلم أنّه قد يكون دخل القبّة أشعث أغبر بفضل أصوات ناخبين ظلت مداشرهم و قراهم غبراء كما ظلّوا هم كما كانوا شعثا غبرا ، الذي دخل البرلمان من أجل أن يخرج هكذا و ليس من أجل مصلحة بشر أو شجر ، و لا من أجل حيوان أو حجر ، هو بكلّ بساطة شخص انتهازي تحسّس كرسيّا فارغا فشغله و لمح مالا سائبا فأخذه ، و كذب على الناس فصدّقوه أو فُرض على قوم فقبلوا به .

و للمرء أن يتساءل إن كان مازال يعيش بيننا ذلك الشخص الذي اعتبَر حصوله على مقعد بالبرلمان تكليفا كُلّف به أو سعى إليه و تكلّف به بنيّة لا تشوبها شائبة و هي خدمة الصالح العام دون انتظار جزاء و لا شكور، و قد نذر نفسه لذلك قبل ولوج القبّة حيث كان و مايزال يبذل من نفسه و ماله دون حساب ، و قد كان قدوته في ذلك أبو بكر رضي الله عنه لمّا تصدّق بماله كلّه و حين سئل عن ما أبقى لأهله قال : أبقيت لهم الله و رسوله صلى الله عليه و سلّم ، هذا البرلماني الذي ينفق من ماله الخاص ليؤدّي خدمة عمومية دون أن يأخذ تعويضا عن ذلك من المال العام ، بنفس مطمئنّة راغبة في فعل الخير و راغبة عن ما يسمّى تقاعدا يُنال بعد انتهاء المهمّة ، أو ربما قد تكون اختفت من وطننا مثل هذه النماذج البشرية التي تستحقّ أن تُعرض في متاحف مجتمعية ، كما يستحقّ أن يسمّى زاهدا أو قدّيسا أو وليّا من أولياء الله مثل هذا النادر من الرّجال .

و في انتظار أن تجود أرحام المغربيات بهذا الزاهد في المال العام و لو كان ضروريا من أجل قضاء مصالح عامّة ، من حقّي كمواطن و ناخب أن أحلم بذلك البرلماني الذي لا يُطلب منه أن يكلّف نفسه فوق طاقتها الماديّة و المعنوية ، و لا يُطلب منه من أجل تحقيق المهمّة التي تكلّف بأدائها عن طيب خاطر أن ينفق من جيبه و ماله الخاص أو أن يُضيّع مصالحه الخاصّة لتحقيق مصالح عامّة ، و لكن و في المقابل لا يُنتظر منه أن يتّخذ من موقعه الجديد مصدرا للرّزق أو يسلكه طريقا من طرق الاغتناء السريع ، لا يُنتظر منه أن يخالجه شعور أو حتّى حلم أنّه بانتخابه برلمانيا قد ولج وظيفة سيتقاضى من أجلها راتبا شهريا خلال مدّة خدمته و تقاعدا بعد ذلك ، لا يُنتظر منه أن يستسلم و يطبّع مع وضع سائد يَمُجّه الذوق السيّاسي و تمجّه الحكامة المالية ، و لا يستقيم تلازمه في قلب رجل واحد مع ادعاء الحرص و المحافظة على المال العام ،لا يُنتظر منه الاستحجاج فقط من أجل إقناع نفسه و إراحة ضميره أنّ قرار التخلّي عن ما زاد عن الحاجة من المال العام و التنازل عن التقاعد هو قرار بيد الحزب أو الفريق ، أو الحكومة أو البرلمان أو ربّما جهات أخرى، بل المطلوب منه المبادرة إلى فعل ذلك ليكون في مستوى تطلّعات ناخبيه و ليظلّ كذلك في مستوى قناعاته و أطروحاته و أطروحات الحزب الذي ينتمي إليه و التي طالما عبّر عنها حين كان خارج القبّة .

فإذا كان البرلمان الذي يُعتبر من منابع التشريع و التغيير لا يستطيع أن يغيّر حاله و ينزّه نفسه عن الرّيع ، فكيف سيُحْسَن الظنّ به و يُرتجى منه أن يُصلح من حال بلد جثم الفساد على صدره لسنين عدّة ؟ و إذا كان البرلماني لا يستطيع أن يقاوم إغراء دراهم معدودات و لا يستطيع الصّمود أمام ضغط محيطه القريب في قضيّة تخصّ شخصه أكثر من ما تخصّ غيره ، فكيف به حين تُعرض عليه الملايين أو يتعرّض لضغط التماسيح و عَصْر الأخطبوطات في قضايا تخصّ شعبا و أمّة ؟

و بغضّ النّظر عن بعض التصريحات الشجاعة و النادرة هنا و هناك فإنّه و حتّى إشعار آخر و إلى أن يثبت العكس ، ستظلّ القناعة السائدة هي أنّ تقاعد البرلمانيين ريع مقنّع ، اخترعه من اخترعه لحاجة في نفسه ، و قَبِل به من قَبِل به لضعف في نفسه ، و يدافع عنه من يدافع عنه و هو يعلم علم اليقين أنّه يراوغ نفسه و يكذب عليها.