منوعات

“باركر”.. مسبار ناسا يداعب الشمس لأول مرة في تاريخ البشر

ثمَّة مسبار صغير تابع لوكالة ناسا يتعرَّض الآن لأجواء قاسية. ففي مهمة غير مسبوقة للاقتراب من الشمس قدر الإمكان، انطلق مسبار “باركر” الشمسي تلفحه درجات الحرارة الحارقة، وينصب عليه ضوء الشمس الشديد بينما هو آخِذ بالاقتراب أكثر من الشمس مع كُل لفة له في مداره حولها. لقد ارتدى باركر لباسا مناسبا لرحلته تلك، فهو مُغطَّى بدرع غليظ مصنوع خصيصا لحماية المعدات العلمية والأنظمة الموضوعة فيه، مع أنابيب تحتوي على مياه متدفقة لتساعده على تبريد الأجواء داخله، إذ تبلغ الحرارة 26 درجة مئوية فقط داخل المسبار الذي انطلق في مهمَّته صيف العام 2019، وما انفك يُدهِش العلماء بما كشفه حتى اللحظة.

لقد كان أول اكتشافاتنا العلمية عن الشمس أهمها على الإطلاق، وهو أن الأرض ليست مركز الكون كما اعتقدنا قديما، بل إنها تدور حول الشمس. وعلى مرِّ القرون التي انقضت منذ أعاد “كوبرنيق” رسم خريطة الكون، اقترب العلماء شيئا فشيئا من قلب المجموعة الشمسية، عبر التليسكوبات، ثم الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية، وتعلَّموا الكثير عن الانصهار النووي الذي يُغذِّي نجمنا وغيره من نجوم لا تُعَدُّ ولا تُحصَى في شتى أنحاء الكون، حتى صار فهمُنا للشمس اليوم ولآليات عملها الدقيقة أشد تعقيدا من أي وقت مضى. بيد أن فهمنا لها لا يزال ناقصا.

باركر” يكشف الستار عمَّا نجهله

نبدو نحن البشر في خضم سعينا للكشف عمَّا نجهله أشبه بطفل فضولي. لماذا يتسم إكليل الشمس (غلافها الجوي الخارجي) (Corona) بتلك السخونة الشديدة؟ ومن أين تأتي الرياح الشمسية؟ ولماذا تُقذَف من الإكليل بهذا الشكل؟ وما الذي يُسبِّب الانفجارات الشمسية، التي تقذف الشمس على إثرها المزيد من الجسيمات المُثارة نحو الفضاء؟ تلك بعض الأسئلة التي يأمل العلماء أن يجيب باركر عنها قبل أن تنتهي مهمَّته عام 2025.

سُمِّي المسبار باسم “يوجين باركر”، عالِم الفيزياء الفلكية الأميركي، وأول مَن وصف ديناميات الرياح الشمسية عام 1958. قليلون هُم مَن صدَّقوا نظرية باركر آنذاك، حتى شرعت ناسا في إرسال المركبات الروبوتية في أعماق المجموعة الشمسية بعد بضع سنوات من وضع النظرية، وبدأت معدَّاتها تستشعر نسيم تلك الرياح. ما من شكّ الآن في أمر النظرية، أما المركبات الروبوتية فتقتفي آثار الرياح أينما سارت إذا ما استطاعت المركبات إليها سبيلا. ففي عام 2013، رصد مسبار من مسابير “فوياجر” الشهيرة، التي ارتحلت أبعد مما فعل أي مسبار آخر في تاريخ الفضاء، جسيمات في الرياح الشمسية تمتزج مع جسيمات أبرد منها في الفضاء بين النجمي (Interstellar Space)، حيث تسود أجواء قاسية في برودتها هذه المرة لا في سخونتها.

لقد كشفت ناسا عن أول دفعة من اكتشافات باركر في ديسمبر/كانون الأول 2019 ونشرتها في أربع أوراق بحثية بمجلة “نيتشر”. وأتت تلك الاكتشافات من قياسات أُجريت على الإكليل، الأشد سخونة من سطح الشمس نفسها للمفارقة، إذ يمتد الإكليل لملايين الكيلومترات من السطح نحو الفضاء، ولا يسعنا أن نراه بأعيننا من الأرض إلا أثناء كسوف الشمس، حيث يُلقي القمر بظلاله على الأرض، ويحجب عنا قرص الشمس، تاركا حلقة ذهبية تسهُل رؤيتها وسط ظُلمة السماء حينئذ.

يُطلق الإكليل سيولا متدفِّقة من الجسيمات عالية الطاقة، المعروفة بالرياح الشمسية، التي تترك أثرها بطول المجموعة الشمسية وعرضها، بل ويصل أثرها إلى ما وراء كويكب “بلوتو”. وقد كشف مسبار باركر عن أن الرياح الشمسية مضطربة أكثر بكثير قُرب الشمس مما هي عليه حين تصل إلى جوارنا قاطعة ملايين الكيلومترات. وتجرُّ الرياح معها مجال الشمس المغناطيسي وتفرشه عبر الفضاء، بل وتثنيه بما يكفي لكي تُشكِّل القوى المغناطيسية حلقات كاملة تنقلب في مكانها بضع دقائق في كُل مرة، وكأنها تتجه من جديد نحو الشمس، بعد أن خرجت منها ابتداء نحو الفضاء (ولنقارن ذلك المجال المعقَّد بالمجال المغناطيسي البسيط والمستقر للأرض، وما يُمكِن أن تبدو عليه الأجواء قُرب الشمس مع تلك الانقلابات الجنونية للجاذبية في محيطها)*. لم يتوقَّع العلماء شدة تأثير كهذا، ولا الوتيرة التي يتكرَّر بها، كما وجدوا أيضا أن المجال المغناطيسي للشمس يسرِّع الجسيمات المتدفقة من الشمس بأكثر مما تخبرنا به أيٌّ من النماذج التي وضعوها سابقا.

البحث عن مكابح: الزهرة يجعل المستحيل ممكنا

لقد أمضى الفلكيُّون عقودا يسبرون أغوار الآلاف المؤلَّفة من النجوم البعيدة في أعماق الكون، التي يبعُد بعضها مليارات السنوات الضوئية (والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة وتساوي تقريبا 9.46 تريليونات كيلومتر)*، بيد أن نجمهم الأقرب فيما يبدو لا يزال يحبس عنهم أسراره. فلم يفلح العلماء في رصد الشمس عن قُرب بواسطة معدَّاتهم على الأرض، ولا حتى بواسطة المهمَّات الفضائية التي انصبت سابقا على دراسة الشمس ولم يسعها أن تقترب منها كما اقترب باركر، والقُرب هو كُل شيء حين يتعلَّق الأمر بدراسة الشمس.

“تخيَّل أننا نعيش في منتصف شلَّال، وأن المياه تتدفُّق بمحاذاتنا باستمرار بينما نسعى نحن للكشف عن مصدر الشلال نفسه من أعلى. هل هناك جبل ثلجي يذوب في الأعلى فيصُبُّ مياهه نحونا؟ هل ثمَّة منظومة ترش الماء مثلا؟ أم أن المياه قادمة من بحيرة، أو لعلها متفجرة من ثُقب ما في الأرض؟ من الصعب بمكان أن نُخمِّن بالنظر إلى موقعنا في منتصف الشلَّال. ومن ثمَّ فإن ما يفعله باركر هو الاقتراب بنا من الشمس أكثر من أي وقت مضى كي نفهم”، هكذا يصف “ستوارت بيل”، عالم بجامعة كاليفورنيا بِركلي، والمسؤول عن إحدى معدَّات باركر المُخصَّصة لدراسة الرياح الشمسية عبر قياس المجالات المغناطيسية، محاولات فهمنا لطبيعة الرياح الشمسية.

مع كُل خطوة يقترب بها مسبار باركر من الشمس فإنه يجني ثمار واحد من أصعب الإنجازات التي شهدناها في مجال اكتشاف الفضاء عبر الروبوتات. تبدو تلك مفارقة، ولكن الوصول إلى الشمس أصعب كثيرا من الخروج من المجموعة الشمسية كُليّا، إذ إن الجاذبية الشمسية تسحب كلَّ ما يحيط بها، من الكواكب الضخمة إلى الأقمار الصغيرة، غير أن تلك الأجرام أيضا تدور حول الشمس بسرعات هائلة، وهو بالضبط ما يحول دون سقوطها نحو الشمس نفسها. وقد شرح لي هذا الأمر “يانبينغ جوُوه”، مدير الملاحة وتصميم المهمَّات لمسبار باركر، قائلا: “للوصول إلى المريخ، كلُّ ما عليك فعله هو زيادة سرعتك المدارية زيادة طفيفة، أما للوصول إلى الشمس، فيتعيَّن عليك أن تُبطئ تماما من زخم حركتك (الذي اكتسبته من الأرض ابتداء حتى لا ترتطم بالشمس نفسها وتنصهر فيها)*”.

لا تملك أي تكنولوجيا صاروخية موجودة حاليا القوة الكافية لإلغاء تأثير حركة الأرض بهذه الطريقة، ومن ثمَّ يحصل باركر على مساندة الكواكب الأخرى، إذ على المهندسين أن يديروا دفة باركر بمحاذاة كوكب الزهرة سبع مرات طوال سنوات المهمَّة حتى يتسنَّى لباركر أن يستخدم جاذبية الزهرة لكبح سرعته. ولذا، ما انفك باركر يطير نحو الزهرة ويدور حوله، ليقلِّص من قُطر مدار رحلته في كُل مرة، ويتخلَّص من الزخم الذي منحته إياه الأرض، ومن ثمَّ يقترب أكثر من مركز المجموعة الشمسية.

باركر يداعب الشمس

لا تزال “كِللي كورِّك” تفكِّر في لحظات ولوج مركبتها الفضائية إلى الشمس، وكيف مرَّ المسبار بسُرعة هائلة خلال تيار هادِر من الجسيمات فائقة السرعة، ثمَّ انغمس بعد لحظات في موقع أهدأ حيث تتدفق البلازما مثل موجات البحر. لم تعبر أيُّ آلة من قبل ذلك الحاجز الغامض، ولكن باركر فعلها لأول مرة في التاريخ ودخل الغلاف الجوي للشمس. “إنه موقع شائق جدا، أو دعوني أقول حارق جدا.. لقد لامسنا البلازما والغازات التي تُمثِّل فعليا جزءا من الشمس”، هكذا حدَّثتني كورِّك، العالمة بمركز “هارفرد-سميثسونيان” للفيزياء الفلكية.

لقد قفز مسبار ناسا قفزة تاريخية في إبريل/نيسان من العام الماضي نحو الشمس، لكن العلماء انتظروا حتى نهاية العام كي يُعلنوا الأخبار للعالم بعد أن حلَّلوا البيانات وتأكَّدوا من أن المركبة عبرت بالفعل الطبقة الأولى من إكليل الشمس. وسرعان ما أطلقت ناسا العنان لتصريح لم يخلُ من مجاز حين قالت إن باركر “لامس” الشمس، إذ إن المسبار في الواقع لا يسعه أن يصل إلى الغلاف الضوئي (Photosphere) الذي يشع ضوء الشمس، ويُعَدُّ سطحها الفعلي. بيد أن الغلاف الضوئي نفسه ليس سطحا صلبا مثل سطح الأرض، ومن ثمَّ حريٌّ بنا أن نستخدم مصطلحا ليس علميا خالصا بالضرورة، ونقول إن باركر داعب الشمس.

حين انطلق باركر نحو الإكليل العام الماضي، اكتشف منطقة تتقلَّب فيها مواد شمسية قبل أن تفلت من قبضة الشمس وتصبح رياحا شمسية تنفثها الشمس بعيدا عنها. وحين تصل تلك الرياح إلى الأرض، فإننا نستشعرها بوصفها نسيما مستقرا. ولكن في داخل الإكليل، رصد باركر تيارات منفردة من تلك الرياح، وهي أشبه بتفجُّر الماء من بالون به ثقوب كما وصفها لي ستوارت بيل، مضيفا: “نحن قريبون جدا الآن إلى درجة أننا بدأنا نرى مصادر متمايزة لتلك الرياح، وكيف تندمج معا حالما تخرج من الشمس”.

ما من سبيل لدراسة خصائص الشمس، التي خضع لها باركر وهو في غلافها الجوي، من موقعنا البعيد. لقد كان السبيل الوحيد هو ولوج ذلك العالم والخروج منه. وقد كرَّر باركر رحلته إلى داخل الإكليل في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أثناء دورانه حول الشمس، ومن ثمَّ يتطلَّع العلماء إلى الانكفاء على دفعة جديدة من البيانات. أما المسبار فهو في طريقه ليداعب الشمس من جديد في نهاية فبراير/شباط، ويستعد درعه الواقي الفريد من نوعه لحماية محتوياته من تلك الأجواء الملتهبة، إذ إن حبيبات صغيرة من الغبار الكوني قد أحدثت جروحا في بعض أجزاء المسبار بالفعل، والغبار الكوني حُطام من الفضاء بين النجمي تجذبه الشمس إليها أو بقايا مُذنَّبات تبخَّرت بعد أن اقتربت أكثر من اللازم من الشمس.

“لقد واجهنا اصطداميْن من هذا النوع أوديا بأجزاء غير حيوية من مُستَشعِرات المسبار”، هكذا قال لي “جاستِن كاسبر”، عالم متخصِّص في الفيزياء الفلكية الشمسية وعضو بفريق باركر، وهو وضع يثير القلق على حد قوله، لكن باركر سينجو في الأخير (وفق الحسابات الدقيقة) حتى بينما يزداد اقترابا من الشمس. ومن المفترض أن يمرَّ باركر بمحاذاة الزهرة مرتين أخريين في السنوات القليلة المقبلة حتى يقترب أكثر من الشمس، ويمنحنا نظرة فاحصة أكثر للإكليل، قبل أن تنتهي مهمَّته في نهاية العام 2025.

بوسع ناسا أن تُقرِّر تمديد عمليات المسبار، ولكن إن اكتفت وأغلقت باركر، فلن يسع المسبار أن يُبقي درعه الواقي من الحرارة مُوجَّها نحو الشمس، كما شرحت لي كورِّك، ومن ثمَّ سينصهر المسبار ليصبح قطعة من الحديد المتفحِّم ستستمر في الدوران حول الشمس لملايين السنين دون أن تسقط إلى الشمس (أو تنصهر فيها)*، مثلها مثل مئات الأجرام التي تدور حول نجمنا بلا كلل. وإذا لم يؤدِّ اصطدام بحُطام كوني هُنا أو هناك إلى تدمير باركر، فإن الشمس في نهاية المطاف ستفعل ذلك بعد مليارات السنين حين ينضب وقودها النووي وتتمدَّد وتبتلع الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية كاملا (المُمتد حتى المريخ وحزام الكويكبات الواقع بينه وبين المشتري)*.

حاليا، يبدو باركر بحال جيدة، فقد التقط تسجيلا بالأبيض والأسود أثناء انغماسه في الإكليل العام الماضي يُظهِر خطوط الرياح الشمسية المتراقصة متلألئة باللون الأبيض في ضوء الشمس، وفي الخلفية يمضي سريعا الشكل المُميَّز لمجرَّة درب التبَّانة وفيض من النجوم الأخرى. يبدو أمرا خياليا بالنسبة إلى كورِّك أن يلج شيء لَمَسَته بيديها الغلاف الجوي للشمس، فهي تنظر إلى الشمس نظرة مختلفة عن معظمنا بوصفها عالمة متخصِّصة في الفيزياء الفلكية الشمسية، وتساورها أفكار عن المسابير الفضائية والبلازما الساخنة في أثناء الأيام المُشمِسة على الأرض، وقد ختمت حديثها قائلة: “أتذكَّر أنني كُنت على الشاطئ أتطلَّع بناظري إلى أعلى وأفكِّر في أن باركر هُناك، قريبا جدا من الشمس، في اللحظة نفسها.. وها أنا هُنا أجلس وأستمتع بالشمس على بُعد 147 مليون كيلومتر”.

المصدر : الجزيرة نت (موقع ميدان)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *