وجهة نظر

بوصوف: الوجع الجماعي هو ما جعل من موت الملاك “ريان” حدثا حبس أنفاس العالم

قد تتعطل لغة الكلام في التعبير عن مواقف معينة لتحل محلها لغة الصمت الشديدة التعبير، لكن فاجعة الطفل “ريان” جمعت بين اللغتين الكلام والصمت معا، لأن موت الصغير ريان في جب بئر عميقة وحيدا بقرية “تمروت” ضواحي مدينة شفشاون… لم نسمع أنينه وصراخه من وجع الألم لم نسمع نداءه لأمه و لأبيه…بل شاهدناه يتحرك فقط، وهو الأمر الذي حرك كل هذا الشعور الجياش بالإنسانية بعيدا عن كل اعتبارات سياسية أو عرقية أو دينية..وتحركت أصوات الجرارات ومعاول عمي علي الصحراوي وتصدر عناوين وكالات الأخبار العالمية طيلة خمسة أيام من شهر فبراير الباردة لسنة 2022..

إن ما جعل من موت الملاك الطاهر “ريان ” حدثا يحبس أنفاس العالم وانتظرت كل أمهات العالم خبر خروجه حيا يُـرزق…هو ذلك الوجع الجماعي والتراجيديا الجماعية من متابعة موت طفل ذو خمس سنوات أمامنا جميعا ، رغم كل محاولات إنقاذه حتى الحفر بالأيادي ومحاولة المتطوعين وبذل كل الجهود من طرف رجالات الإنقاذ والتقنيين.. وهكذا عشنا كل الحالات والانفعالات الإنسانية بين أمل و فرح ويأس وإحباط ونكسار وفجيعة وحداد ثم سكينة ورحمة …

فالوجع الجماعي وما تلاه من تضامن جماعي جعل من الطفل “ريان” طفل لكل المغاربة وطفل للإنسانية جمعاء..لذلك كانت تعبر أسرته الصغيرة بلغة الصمت البليغ والصبر الجميل …

وباعتبار موت الملاك الطاهر “ريان” وجعا جماعيا، فهذا ينقله إلى الذاكرة الجماعية العالمية، ولن تنساه الذاكرة الشفوية وستذكره في كل حين…مع استخلاص الدروس والعبر وعدم تكرار نفس أسباب الفاجعة الجماعية… كما لم تنس قبله الذاكرة الجماعية العالمية الطفل الإيطالي ” الفريدينو رامبي” Alfredino Rampi، والذي مات داخل بئر بضواحي روما في يونيو من سنة 1981 ومن صدف التاريخ أن تتشابه بعض تفاصيل كل من الطفل “ريان” و”الفريدينو” سواء في ظروف الوفاة أو جهود الإنقاذ أو المتابعة الإعلامية، وتقاربهما في السن (ريان خمس سنوات و الفريدينو ستة سنوات)…

الشعب المغربي أبان عن عراقته في محنة الطفل “ريان” وأبان عن تضامن وتآزر كل فئاته ومكوناته، ولعل صور انتظار طوابير السيارات لدخول قرية “تمروت” و صور نساء القرية لتحضير الطعام للجميع ومرابطة المغاربة ليلا ونهارا إلى جانب البئر حيث يقبع طفلهم “ريان” وقلوبهم على أياديهم ينتظرون نهاية حفر البئر الموازي وإعلان خبر هزيمة وتفتيت الصخور الصلبة العنيدة على يد معاول عمي علي الصحرواي…
كل رسائل العزاء الآتية من مختلف بقاع العالم ومن مختلف الشخصيات السياسية والفكرية والهيئات والحكومات والمنظمات …تشيد بصورة التضامن والمجهود الخرافي لإنقاذ “ريان”، حتى أن بعضهم قال بأن المغرب حرك جبلا لإنقاذ إبنه..وهو فخر ما بعده فخر لصورة المغاربة و المغرب بالخارج…

لكن موت الطفل “ريان” لا يعني نهاية الحكاية، بل يجب إعلانها بداية للقطع مع ظروف وأسباب تلك الفاجعة وتجاوز هفوات الماضي، وهو ما فعلته إيطاليا بعد موت الطفل “الفريدينو” بحيث عملت والدته على فتح “مركز الفريدو رامبي” مخصص لترسيخ ثقافة الحماية و الوقاية و التربية ضد مخاطر الكوارث البيئية و إعطاء دروس للتلاميذ بالمدارس لتعلم بعض تقنيات إنقاذ أنفسهم .. ولازال المركز يقدم خدماته لمدة أربعين عاما ، كما تم تعزيز مؤسسة الوقاية المدنية و تقويتها باختصاصات جديدة و بامكانيات أقوى ومنظمومة قانونية تسهل من عملها…كما سَـيًجَـتْ محيط بـئر “الفريدينو” كجزء من ذاكرتها و من تاريخها الجماعي..لأنه بعد أربعين سنة تَــم انتاج سلسلة تلفزيونية أي سنة 2021 تؤرخ لشخصيات و مكان فاجعة الطفل ” الفريدينو “..

عدم تكرار الفاجعة و الإحساس بالوجع الجماعي يفرض علينا نقد الذات لكن دون جلدها، أي القيام بتحديد لمكامن الضعف بكل دقة و العمل على طرح الحلول..أيا كانت طبيعتها سواء قانونية أو لوجيستيكية أو تواصلية أو ثقافية…أو كلها مجتمعة…

فترسيخ ثقافة الوقاية و الإنقاذ و تقديم الإسعافات الأولية أصبحت مطلبيا قــويا، بدءا من البيت مرورا بالشارع وإلى المدرسة وحتى وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي… يجب أن نربي أبناء جيل الملاك الطاهر “ريان” على ثقافة مخاطر الكوارث الطبيعية وحماية أنفسهم …

وبطبيعة الحال فان الفاجعة هي ناقوس قوي بتعجيل برامج أوراش الجهوية والعدالة المجالية على كل المستويات ومن ضمنها مجالات الاعلام والتواصل…

لن نتكلم مجددا عن موت الطفل “ريان” لانه حي بدواخلنا و لانه كان امتحانا صعبا في التضامن والتآزر.. ولان المغاربة داخل الوطن أو خارجه جعلوا من شبكات التواصل الاجتماعي خيمتهم الكبيرة لتبادل العزاء الجماعي في فقدان طفل احتضنوه و سهروا معه والى جانبه طيلة أيام محنته و ترعرع بداخلهم أمل نجاته… تسللت محبته إلى قلوبنا بسرعة ورحل مسرعا تاركا جرحا عميقا في أنفسنا تارة بدافع الأمومة والأبوة وتارة بدافع الإنسانية أو كلها مجتمعة…

فالإنسانية هي من جعلتهم يكتبون رسائل التعزية في محطات المترو و أبراج العمارات وقمصان الرياضيين والتويتر والفايسبوك وألهمت الشعراء …وكأنه يصالح الإنسان مع إنسانيته…رحم الله الملاك “ريان” و لا راد لقضاء الله وانا لله وانا لله وانا اليه راجعون…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *