سياسة

بعد أحداث مليلية.. هل تتجه العلاقات المغربية الإسبانية إلى نقطة “اللاعودة”؟

أعادت أحداث تسلل آلاف المهاجرين الأفارقة من دول جنوب الصحراء إلى مدينة مليلية المحتلة عبر السياج الحدودي، قبل أيام قليلة، الوضع المتأزم للعلاقات المغربية الإسبانية إلى الواجهة مجددا، في ظل اتهامات إسبانية للرباط باستخدام “ورقة الهجرة” للضغط على مدريد، بعد حوالي 10 أشهر من أحداث مماثلة بسبتة المحتلة.

وأقدم أزيد من 3700 مهاجر سري إفريقي على عملية جماعية لاجتياز السياج الحدودي الفاصل بين الناظور ومليلية، بحر الأسبوع المنصرم، تمكن منهم أزيد من 850 من دخول مليلية في محاولتين، ضمن أكبر عملية تسلل جماعي نحو الثغر المحتل، وفق ما أعلنته السلطات المحلية بمليلية.

وقال وزير الخارجية الإسباني حينها، إن ما وقع في مليلية “ظاهرة مقلقة للغاية”، مضيفا: “لقد مرت شهور منذ حدوث هذا النوع من التدفق في سبتة”، في حين ردت الحكومة المغربية على لسان الناطق الرسمي باسمها، مصطفى بايتاس، بأنها تقوم بعمل جبار لمراقبة الحدود.

وتأتي هذه الأحداث في الوقت الذي لا تزال فيه العلاقات بين البلدين متأزمة، إذ لم تعد السفيرة المغربية بإسبانيا حتى الآن إلى مدريد، منذ أن تم استدعاؤها في الرباط للتشاور، شهر ماي المنصرم، عقب استقبال إسبانيا زعيم جبهة “البوليساريو” الانفصالية بوثائق مزورة وهوية منتحلة.

ويخشى مراقبون من أن تراكم مثل هذه الأزمات بين البلدين قد يصير بالعلاقات الثنائية إلى نقطة “اللاعودة”، وربما قد يتطور الصدع أكثر ويصل إلى مرحلة “الحرب الباردة”، بالرغم من بعض رسائل الود المتبادلة بين الفينة والأخرى، والتي تبقى مجرد رسائل سياسية غير متبوعة بأي خطوات عملية.

ويعزز هذا التخوف تصاعد الأصوات المعادية للمغرب من داخل إسبانيا واستمرارها في محاولات تأليب الرأي العام الأوروبي ضد مصالح المملكة، ولا يخرج عن هذا السياق دعوة رئيس حكومة سبتة، قبل أيام، بضم المدينتين المحتلين إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، ومطالب حزب “فوكس” اليميني بضم المدينتين لمنظومة “شينغن”.

وبالرغم من أن السلطات الرسمية الإسبانية تُقر بجهود المغرب في معالجة ملف الهجرة، إلا أن المواقف “الضبابية” لمدريد تجاه قضايا تعتبرها الرباط مصيرية (الصحراء المغربية)، واستمرار جهات ولوبيات إسبانية في معاكسة مصالح المغرب، جعل المملكة ترهن عودة الدفء في علاقات البلدين بإعلان إسبانيا لمواقف واضحة وصريحة.

فالمغرب يوجه رسائل متعددة للإسبان مفادها أن طريقة التعامل معه تغيرت ولم يعد يخضع لمنطق “الأستاذية” النابع من الإرث الاستعماري المتجدر لدى بعض الجهات الأوروبية، ويشدد على أن سياسته الخارجية تقوم على مبادئ جديدة وواضحة تجتمع على مراعاة مصالحه الاستراتيجية أولا وتحقيق مبدأ “رابح رابح”.

“عداءٌ إسباني”

وفي هذا الصدد، يرى محمد العمراني بوخبزة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة عبد المالك السعدي، أن هناك جهات داخل إسبانيا تحاول دائما أن تلقي اللوم على المغرب وتحمله المسؤولية بشكل منفرد في ملف الهجرة، رغم أن المملكة تقوم بمجهودات كبيرة بينما الطرف الإسباني يتفرج حتى تقع أحداث ومآسي ليلقي اللوم على المغرب.

ويعتبر عميد كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بتطوان، أن عمليات اقتحام سبتة ومليلية منتظرة ومتوقعة وليست جديدة، مشددا على أن المغرب يبذل مجهودات كبيرة للحد من الظاهرة ويتحمل مسؤوليته، وغير ذلك يؤدي فاتورة هذا الوضع دائما، مضيفا: “هذه ليست مسؤولية مفروضة فقط على المغرب، بل مشتركة مع إسبانيا والاتحاد الأوروبي ككل”.

وأضاف بوخبزة في تصريح لجريدة “العمق” قائلا: “من تابع ما وقع في الشريط الحدودي بين مليلية والناظور يلاحظ أن المغرب منع أكثر من مرة محاولات مشابهة، لكن هذه المرة كانت جحافل من المهاجرين لم يكن بالإمكان معها القيام بأحسن مما تم القيام به، ولا أحد يمكنه أن يشكك في انخراط المغرب في مواجهة هذه الظاهرة”.

وشدد على أن أحداث مليلية كانت أكبر مما يمكن أن يتحمله المغرب، وبالتالي ليس من حق أي طرف أوروبي أن يطلب من المغرب أكثر مما يقوم به لأنه لن يبقى دركيا لأوروبا، خاصة أن وضعه تغير من بلد عبور إلى بلد إقامة لدى جزء كبير من المهاجرين، وهذا أثاره وزير الخارجية ناصر بوريطة أكثر من مرة.

وأوضح بوخبزة أنه في مرات سابقة كان يسقط ضحايا من المهاجرين والسلطات الأمينة المغربية على حدٍ سواء، لافتا إلى أنه مهما بذلت الرباط من جهود فإن وسائل إعلام وجهات داخل إسبانيا تواصل انتقاد المغرب وتوجه له نعوتا دالة على ترسخ الفكر الاستعماري لديها ونظرتها الدونية تجاه دول الجنوب.

وأشار إلى أن المغرب حكيم إلى حد بعيد في التعامل مع هذا النوع من القضايا لأنه ينسق مع إسبانيا بالرغم من برود العلاقات بينهما، كما يتحمل الشطر المتعلق بمسؤوليته في مواجهة الظاهرة رغم أن هناك إكراهات كبيرة جدا لا يمكن أن يتحملها بمفرده وبمعزل عن الشطر الآخر الملقى على عاتق أوروبا.

المحلل السياسي ذاته يرى بأن المغرب له منظوره الخاص تجاه الهجرة التي لا يعتبرها مشكلة بل فرصة، مقابل ترويج الأوروبيين لخطاب “الهجرة معضلة”، مشيرا إلى أن حالة مليلية لا تخرج عن السياق العام الذي يتم التعامل به إسبانيًا وأوروبيًا مع المغرب.

“رفض دور الدركي”

من جهته، يقول محمد بن عيسى، رئيس مرصد الشمال لحقوق الإنسان، إن العلاقات المغربية الإسبانية تسير نحو الدخول لمرحلة “الحرب الباردة” في ظل التوتر الكبير بينهما، خاصة بعد قبول إسبانيا استقبال زعيم “البوليساريو” تحت هوية مزورة، ودخول الآلاف من المهاجرين المغاربة لسبتة المحتلة شهر ماي الماضي.

وأشار بن عيسى في تصريح لجريدة “العمق”، إلى أن العلاقات الثنائية عادت، بعد أحداث مليلية، لتشهد مواجهة مباشرة في ظل استمرار رفض المغرب الاستمرار في لعب دور الدركي لأوروبا وتحمله لوحده جميع التبعات الحقوقية والإنسانية لهذا الملف الشائك.

واعتبر الناشط الحقوقي أن السياسة التي يتبعها الاتحاد الأوروبي منذ سنوات بتصدير حدوده إلى دول الجنوب، يجعل ملف الهجرة ينذر بمزيد من التصعيد بين المغرب وإسبانيا، خاصة أن مدريد تواصل التعامل مع المغرب من منطق “شوفيني”، وفق تعبيره.

وبخصوص النقاش الدائر حول ضم سبتة ومليلية لحلف “الناتو”، يرى محمد العمراني بوخيزة أن الدعوات الصادرة في هذا السياق تبقى مجرد مزايدة انتخابية في المدينتين المحتلتين، مشددا على أن الاحتماء تحت مظلة “الناتو” مسألة خطيرة ولن تقبل بها القوى المؤثرة في أوروبا ولا داخل “الناتو” نفسه.

وأشار إلى أن الأوروبيين على وعي بخطورة مطالب ضم سبتة ومليلية لحلف شمال الأطلسي الذي تجمعه بالمغرب علاقات عسكرية متفردة، ويدركون أن هذا الخطاب محرج لهم، ولهذا لم ينسَق الاتحاد الأووربي لتلك الدعوات، كما لم يوافق على ضم المدينتين لمنظومة “شينغن”.

وطالما لم توجه إسبانيا رسائل إيجابية إلى المغرب، يضيف بوخبزة، فإن الأزمة بينهما ستظل قائمة، بل إن “لصبر المغرب حدود، وقد يلجأ لخيارات أخرى في مواجهة اللوبيات الإسبانية المعاكسة لمصالحه، لأن الإسبان يعلمون جيدا الآن أن المغرب لا يتهاون في الدفاع عن مصالحه، ولهم كثير من الدلائل على ذلك”.

وخلال الأسبوع الجاري، أفاد مسؤول إسباني بمليلية المحتلة بأن السلطات المغربية صدت محاولة جديدة لعبور حوالي ألف مهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء، بينما ظل أفراد حرس الحدود الإسبان متمركزين على الجانب الآخر من الحدود لمراقبة الوضع.

“تعامل قاسٍ”

وأثارت طريقة تعامل الشرطة الإسبانية مع آلاف المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، أثناء محاولاتهم التسلل جماعيا إلى مدينة مليلية المحتلة عبر السياج الحدودي، الأسبوع الماضي، ردود فعل غاضبة ومستنكرة جراء استعمال العنف في مواجهة المهاجرين، ما أدى إلى سقوط إصابات في صفوفهم.

وأظهرت صور ومقاطع فيديو نشرتها وسائل إعلام إسبانية وهيئات حقوقية، إصابة مجموعة من المهاجرين الأفارقة عقب تعنيفهم من طرف عناصر الحرس المدني الإسباني وأفراد الشرطة الوطنية، فيما أصيب آخرون أثناء تسللهم فوق السياج الحدودي الشائك، وهو ما أثار غضبا على مواقع التواصل الاجتماعي.

وفي هذا الصدد، أوضحت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان فرع الناظور، أن الحرس المدني بمليلية واجه المهاجرين على الحدود بالضرب والركل، ما أدى إلى وقوع إصابات خطيرة في صفوفهم، مشيرة إلى أن المهاجرين لم يرتكبوا أي عنف ضد السلطات.

وقالت الجمعية إنه بالرغم من الإرهاق الشديد الذي بدا على المهاجرين الذين تمكنوا من عبو السياج، إلا أن ضربات الأمن الإسباني شملت جميع أنحاد أجسادهم، مستنكرة اعتقالهم “غير القانوني” في مراكز بالرغم من إصاباتهم، مشددة على أنهم بحاجة إلى رعاية صحية.

كما انتقد فرع الـ AMDH بالناظور إيقاف السلطات المغربية لمئات المهاجرين الأفارقة ونقلهم عبر الحافلات إلى مراكز اعتقال بضواحي الناظور، معتبرا ذلك “غير قانوني”، مشيرا إلى أنه جرى نقل نحو 30 مهاجرا من المصابين إلى مستشفى الحسني بالناظور.

وفي الوقت الذي قالت الجمعية الحقوقية إن مئات آخرين من المهاجرين تمكنوا من العودة إلى غابات غوروغو قرب الناظور، انتقدت فيه بشدة تعنيف الحرس الإسباني والشرطة بمليلية لهؤلاء المهاجرين، كما استنكرت إعادة عشرات منهم إلى الناظور بالرغم من تمكنهم من اجتياز الحدود.

وفي هذا الصدد، قالت وكالة الأنباء الإسبانية “إيفي”، في وقت سابق، إن وزارة الداخلية الإسبانية قررت إرسال تعزيزات أمنية من الحرس المدني والشرطة الوطنية إلى الحدود بين مليلية والناظور، لمنع أي محاولة جديدة لاقتحام المدينة المحتلة.

يُشار إلى مدينتي سبتة ومليلية محاطتان بأسلاك حديدية شائكة من ثلاثة مستويات، يصل ارتفاعها في بعض المواقع إلى عشرة أمتار، وتمتد على مسافة 12 كيلومترا بمليلية، فضلا عن كاميرات مراقبة، وهو ما يدفع المهاجرين إلى وضع مسامير في أحذيتهم تساعدهم في تسلق السياج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *