وجهة نظر

سردية تمغربيت أو جدوى استيعاب اليقينيات المحلية

يعتبر البعض أن العودة للأصول شيء محمود ويساعد على بناء مواطنة إيجابية، لا تلغي ديناميات وثوابت الحاضر، التي ترتكز في مجملها على مقتضيات دستور 2011، المؤسسة على مقولة التعدد والتنوع والتمازج وتجليات السيادة الوطنية. لهذا، يمكن استنتاج أن العودة للأصول تمت من خلال الاعتراف بأمة مغربية بهوية مزيجة يتداخل فيها ما هو إنساني وحضاري وجغرافي وتاريخي وثقافي وديني وديمغرافي ولغوي وترابي. مما يجيز اعتبار الزمن الدستوري لما بعد 2011  زمن العودة لمقولة الأمة المغربية.

فالمغربي هو مواطن تتنوع ثقافته وتتعدد لغاته لكنه يظل “مغربي أمازيغي”، أو “مغربي عربي”، أو “مغربي أندلسي”، أو “مغربي يهودي”، أو “مغربي حساني”، أو “مغربي ريفي”، أو “مغربي جبلي”، أو “مغربي عروبي”، أو مغربي شلح”، أو “مغربي زياني”، …، وداخل كل هوية جهوية أو محلية أو ترابية هناك هويات صغرى، “مغربي رحماني”، أو “مغربي دكالي”، أو “مغربي سوسي”، أو “مغربي سرغيني”، أومغربي زيلاشي … فالجملة الإسمية المكونة من اسم ونعت، تتكون من بنية تظل فيها نعوت الانتماء لصيقة ورهينة وتابعة لاسم ولفظة الانتماء “مغربي”، والذي يحدد أساسا تعلق الشخص والفرد والمجموعات بتراب المملكة المغربية، وسيادتها الوطنية وحضارتها وقضاياها ومرجعياتها الرمزية والسياسية والدينية، وتاريخها الذي يمتد إلى أكثر من 33 قرنا. وفي أفق تبني سياسة هوياتية تؤسس لإعادة تموقع المملكة المغربية على الصعيد الإقليمي والعالمي، يمكن تبني سياسة تدبيرية وتسويقية تعتمد على إلحاق نعت «مغربي” بجميع منتجات المملكة المغربية كانتصار لتجربة انسانية وحضارية،  تروم التميز وفي نفس الآن إغناء الموروث الإنساني، والمساهمة في رقيه وتثمين سردية تَمَغْرِبِيتْ التي تربط بين التاريخ والحضارة والعمران والسياسة والتنمية الاقتصادية والموروث الثقافي، وتؤكد في جميع تجلياتها على علامة “مغربي”.

كما يمكن اعتبار تراجع قيم العولمة في زمن كورونا وعودة مرجعيات الخصوصية، مؤشرا ينبئ بظهور مناطق غير معولمة، ترتكز على إعادة اكتشاف قيمة الاكتفاء الذاتي، وتأكيد التمثلات الإيجابية حول اليقينيات المحلية، في مقابل التخلي عن التبعية لنماذج وأقطاب القوة من دول أوروبا وأمريكـا. مما أعاد الثقة في النماذج المتكافلة والمتضامنة وتوهج ملامح الهوية الترابية والوطنية من قبيل تلك المرتكزة على سردية تَمَغْرِبِيتْ. وبموازاة هذا التراجع وفي سياق تواري مقولة مجتمع المعرفة ومجتمع الثقة كمنظومتين تؤطران القيم والسلوكيات وتحتضنان المشاريع العامة للشباب، يشهد المغرب نزوحا من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي في ظل تآكل المرجعيات وإعادة النظر في العناصر المكونة لسردية تَمَغْرِبِيتْ. وبما أن زمن كورونا ألغى التفاعلات الواقعية، تم تحويل ونقل أغلب عناصر الرابط الاجتماعي من بيئته الواقعية إلى بيئة افتراضية مغايرة وذات طبيعة ومنطق مختلفين.  تجيز هذه البيئة استشراف تغير مجتمعي في صيغة سردية تَمَغْرِبِيتْ ديجيتالية ( نْيُوتَمَغْرِبِيتْ)،  تكون نتيجته التحول من رابط اجتماعي واقعي إلى رباط مجتمعي افتراضي.  أفضي هذا الرباط إلى نخبة سائلة وجماعة مواطنين “مرابطين” بالعالم الافتراضي لدرجة الإدمان، الذي من أهم أعراضه التواجد المستمر واليقظة الحذرة والرقابة المواطنة والتفاعل الجماعي والفردي، من خلال جسر ما يمكن توصيفه ب “الفردانية الجمعية” .

في المقابل، يمكن تمثل تَمَغْرِبِيتْ كسردية تحيل على تنشئة مستدامة وبعد هوياتي مؤسس على التسامح وقبول الآخر والتنوع المتكامل، وليست البتة نوعا جديدا من الشوفينية المنغلقة والهوية المنكمشة أو القومية الصاعدة. ولأنها تندرج في إطار التحول من احتباس قيمي وانهزامية هوياتية إلى انتصار وجودي وسيادة ترابية تتنافى مع أي “دوغما” أو “تعصب وطني” من خلال ربطها بقيم المواطنة، يمكن اعتبارها  ركيزة لإبداع نموذج تنموي  يتأسس على رؤية سياسية ترمي إلى مزج المقومات الرمزية كقوى ناعمة ببرامج التنمية المحلية كقوى صلبة لاستتباب مجتمع الثقة والعيش الكريم والانفتاح على الآخر.  إن الخروج من الأزمة المجتمعية مرتبط بتحقيق العدالة الوظيفية للشباب في علاقتها بسردية تَمَغْرِبِيتْ، وتكريس قيم الانتماء والشعور الوطني والعيش المشترك والاعتراف بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مقاربة نسق المواطنة والتماسك الاجتماعي؛ لأن ملائمة التنمية الترابية وانتظارات الشباب يتأسس بالضرورة على جهوية متقدمة، ترتكز على مقولة أن الاندماج المحلي هو أساس الاندماج الوطني. لهذا يبدو أن سؤال سردية تَمَغْرِبِيتْ في علاقته بالبعد الترابي هو سؤال حول علاقة تحسين مستوى عيش المواطن والقيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية، وكذلك سؤال التعامل مع نوايا المواطنين وفهم تمثلاتهم حول المواطنة، والصيغ الممكنة لتقوية الشعور بالثقة بينهم وبين الدولة.  لهذا، صار ملحا التداول حول البدائل النسقية والفلسفية لضبط تمفصلات سردية تَمَغْرِبِيتْ بالنموذج التنموي، واقتراح مخرجات ترابية تستجيب لرهانات وتحديات المجتمع المحلي. من المستحب إذن، إعادة الاعتبار للمثقف الترابي والمدرسة الترابية والجامعة الترابية، لأن نجاعة النموذج التنموي ترتهن باستبطان الشعور بتَمَغْرِبِيتْ حقا وواجبا ووجودا من داخل منطق ترابي لتحقيق التنمية المحلية.

انطلاقا من كون سردية تَمَغْرِبِيتْ تتضمن مصفوفة من العناصر الحضارية واللغوية والثقافية والتاريخية والإنسانية، التي تميز المملكة المغربية عن باقي بلدان المغرب الكبير، يمكن استشراف الانتقال بمنظومة تَمَغْرِبِيتْ من الزمن الدستوري إلى الزمن المؤسساتي في انسجام تام مع دينامية الحياة العامة للمغاربة. مما يستلزم معه التفاوض والتداول حول مشروع مجتمعي، يبنى على قيم ترتوي من تماهي الوطني المحلي الترابي بالكوني الإنسي العالمي. تباعا، يمكن أن نستشرف سردية تَمَغْرِبِيتْ كجسر لبناء مغرب ما بعد جائحة كورونا، تلتئم فيه التنمية الصلبة بالتنمية الناعمة. مما يقتضي تفعيل الجهوية المتقدمة كعلامة مغربية لاستتباب الشعور بالمواطنة والعيش الكريم وكذلك من باب الترافع بالخصوصي ليرتقي للعالمي. وفي الأخير يمكن للانتصار لسردية تَمَغْرِبِيتْ كأفق انساني أن يفضي إلى الانسجام الكوني، والانتماء المفتوح على العالم، وإفريقيا، والمغرب الكبير، والشرق الأوسط، وشمال افريقيا، والمتوسط، والأطلسي، ويكرس نبوغ الشخصية المغربية، وتفرد تراب المملكة المغربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *