منوعات

الجن بريء منها .. علم النفس يفسر كيف يتحدث أشخاص فجأة لغة غريبة عنهم

بين الفينة والأخرى تظهر في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وعبر ما يروجه الناس بينهم في المقاهي والأسواق، قصص لأشخاص يتحدثون فجأة لغة غريبة عنهم. وأمام العجز عن تفسير إحدى أغرب السلوك الإنساني، يلجأ الناس إلى التفسير الغيبي والخرافي، بالحديث عن المس الشيطاني، أو حلول الجن بالمعني، أو الإصابة بالسحر وغير ذلك.

وهناك حالات تحول معها الشخص “المصاب” إلى عراف أو مشعوذ تشد إليه الرحال طلبا للشفاء أو حل عقد اجتماعية أو نفسية، على اعتبار أن ما حل به كرامة أو هدية من السماء، تمده بقدرات خاصة.

وحين يرى الناس الظاهرة كمرض، فإنه في الغالب يكون العرافون والمشعوذون ملجؤهم لعلاج ما يسميه علم النفس “متلازمة غاية” أو “متلازمة اللكنة الأجنبية” والتي اكتشفت لأول مرة سنة 1907.

متلازمة غاية يفسرها علم النفس بأنها اضطراب عصبي يجعل شخصا ما يستيقظ، بين عشية وضحاها، وهو يتحدث بلكنة غريبة قد تكون قريبة إلى لغة أخرى. في هذه المادة المعمقة للجزيرة نت، والتي لا تخلو من السلاسة والسرد القصصي أيضا، يرتحل بنا “سام كيث” من “سايكولوجي توداي” إلى جوانب هذه المتلازمة، ويكشف كيف أن قدرتنا على الكلام أعقد مما يمكن أن نظن.

فوضى غير مفهومة

على الرغم من أن متلازمة اللكنة الأجنبية تشتهر أكثر بين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 7 سنوات، فإن إحدى الدراسات توصلتْ إلى أن متوسط العمر التي قد تظهر فيها هذه المتلازمة هو 48 عاما، بل ويذيع صيتها أكثر بين النساء بحسب دراسة أُجريت على 27 مريضا اتضح أن من بينهم 26 سيدة ورجلا واحدا (يعزو العلماء سبب انتشار متلازمة اللكنة الأجنبية أكثر بين النساء إلى ميل النساء أكثر إلى طلب العلاج).

لكي نفهم ما يحدث، علينا أن ندرك أولا أن الجانب الأيسر من المخ هو المتحكم الرئيسي في الجزء الأيمن من أجسادنا بجانب قدرتنا على الكلام، وفي حالة إصابة هذا الجانب من المخ بالتلف، فغالبا ما يشعر المريض بخدر في الجانب الأيمن من جسده وقد يتلعثم في الكلام، وهذا بالضبط ما يحدث مع مريض متلازمة اللكنة الأجنبية الذي يجد صعوبة عادة في التحدث بلهجته الأصلية.

يمكن لمتلازمة اللكنة الأجنبية أن تمتد لتؤثر على عدة جوانب في طريقة الحديث، وأقرب مثال على ذلك هو التغيرات الواضحة التي تطرأ على الصوت عند نُطق كلمة مثل “sheet” والتي تتحول إلى “seat”، وقد يُضيف المرضى أيضا مقاطع لفظية غير ضرورية إلى الكلمة فتصبح بذلك أشبه باللغة اللاتينية المُحَرّفة، فتتحول كلمة مثل “picture” إلى “pikuhture”.

لا تقف الأمور عند هذا الحد، ولكنها تمتد لتغيّر من إيقاع الكلام ونبرة الصوت أيضا، فنجد المريض في المواقف التي تستدعي نبرة صوت عالية يخفض من صوته، والعكس صحيح، وقد تجده ينطق الحروف الساكنة أو يشدد مقاطع لا تحتاج إلى تشديد. لذا يلجأ معظم المرضى أحيانا إلى تبني “طريقة الكلام المختصرة”، متجاوزين بذلك حروف الجر وأدوات التعريف، وربما تجدهم في أحيان أخرى يتوقفون كثيرا كما لو أنهم ينتزعون الكلام من أفواههم انتزاعا. ما لا يدركه الكثير من الناس أن اللهجة الجديدة للمريض لا تنتمي في حقيقة الأمر للغة أجنبية معينة، بل هي خليط من لهجات متعددة. وعلى الرغم من التحولات التي تطرأ على الصوت وإيقاع الكلام، فإن المرضى الذين يعانون من متلازمة اللكنة الأجنبية لا يتحدثون بلغة مختلفة كما يُخيَّل للبعض، وإنما لا يزال بإمكانهم التحدث بطلاقة بلغتهم الأم على نحو مفهوم.

إن مرضى هذه المتلازمة لا يتلعثمون في الكلام أو يواجهون صعوبة في نطق المقاطع كما يفعل أي شخص يعاني من صعوبات شديدة في الكلام يمكن لأي مستمع ملاحظتها والتأكد بسهولة من وجود مشكلة عصبية، بل على النقيض من ذلك، يختلف مرضى متلازمة اللكنة الأجنبية قليلا عن الحالة السابقة بقدرتهم على تبني أصوات وإيقاعات قد تبدو للوهلة الأولى أنها تنتمي إلى لغة حقيقية.

عن هذا، تقول “شيلا بلومستين”، عالمة اللغة بجامعة براون: “كل ما هنالك أن اللغة التي يتحدث بها مرضى هذه المتلازمة قد صادف أنها لا تنتمي إلى لغة معينة على الرغم من أن نطقهم للكلام يوحي بعكس ذلك”. إن اللهجة التي يتحدث بها المرضى عبارة عن خليط من الأصوات الفرنسية، أو إيقاعات مرتبطة باللغة الإيطالية أو الصينية، وهَلُمَّ جرا. لذا لا يمكن اعتبارها لهجة حقيقية، غير أن المراوغات والتحريفات التي تتضمنها هذه اللهجة تُصوَّر لأدمغتنا بطريقة أو بأخرى أنها لهجة أجنبية.

غالبا ما تصل هذه اللهجة إلى مسامع الناس بأشكال مختلفة، وهذا ما توصلت إليه الدكتورة “شيلا بلومستين” في الثمانينيات عندما التقت بأول مريضة لها تعاني من هذه المتلازمة في مدينة بوسطن أثناء دراسة حالة أشرف عليها علماء نفس وأعصاب، ما إن تحدثت المريضة حتى تساءل جميع الأخصائيين في المجال الصحي عن اللهجة التي تحدثت بها. وأكثر ما أثار انتباه الدكتورة بلومستين هو أن بعض الأشخاص في الغرفة خَالَ إليهم أن المريضة تتحدث الألمانية، فيما اعتقد آخرون أنها تتحدث الروسية أو الفرنسية.

لكن، بصفتها عالمة لغويات وعلى دراية واسعة بالتراكيب السليمة للجمل، أدركتْ على الفور أن ما تفوهت به المريضة لا علاقة له بأي لغة من هذه اللغات الأصلية بقولها: “لقد أسرني الموضوع في بادئ الأمر، وجعلتُ أتساءل: ما هذا الذي نسمعه الآن؟ لكنني توصلتُ إلى أن الخلفية الثقافية للمتلقي تلعب دورا مهما فيما يتصوره عن اللكنة التي يتحدث بها المرضى، وهذا يفسر لماذا قد تصل لهجة المريض إلى مسامع الناس بأشكال مختلفة”.

اكتشف العلماء أن هذا التباين، بجانب ندرة الحالات، صعَّب عليهم دراسة “متلازمة اللكنة الأجنبية” بصورة منهجية. في السياق ذاته تقول “بلومستين”: “المشكلة أنك إذا التقيت بأحد المرضى ذات يوم، فلن يتسنى لك أن تلتقي بالمريض الثاني قبل 6 سنوات على الأقل، أما الحالة الثالثة فقد تقابلها بعد 10 سنوات مثلا”. ونظرا إلى اختلاف الباحثين في طرق تبنيهم للمسألة وطرحهم للأسئلة، أضحى من المستحيل تحليل أسباب هذه المتلازمة على نطاقات واسعة.

يرى “جاك ريالز”، عالم اللغة بجامعة سنترال فلوريدا الأميركية وأحد أبرز الرواد في دراسة هذا المرض، أن مصطلح “متلازمة اللكنة الأجنبية” قد يكون خاطئا أو غير دقيق، وهذا ما ذكره في كتابه الذي شارك في تحريره مؤخرا وأكد فيه على التنوع الكبير في الحالات التي سبق أن قابلها.

الرقص بالكلمات

يختلف العلماء حول أسباب متلازمات اللكنة الأجنبية، وطبيعي أن تختلف الأسباب باختلاف الأنواع، لكن فيما يبدو أنهم اهتدوا إلى أن الفم والحلق هما العنصران الرئيسيان اللذان تنبع من عندهما أصل المشكلة. لكي نفهم ما يعني هذا، علينا أن ندرك أولا أن التحدث بصوت عالٍ يحدث عن طريق خطوتين: الخطوة الأولى هي مرحلة التخطيط التي تحدث في الدماغ، ثم تتبعها الخطوة الثانية وهي مرحلة التنفيذ التي تتطلب تحريك الأسنان واللسان والشفتين والرئتين والحَنجرة بطريقة غاية في التناغم والتناسق.

يمكن أن تظهر المشكلات العصبية التي تقف عثرة أمام عملية التحدث الطبيعي عند أي مرحلة من هاتين المرحلتين، لكن يبدو أن مرحلة التنفيذ -بالأخص- هي سبب حدوث متلازمة اللكنة الأجنبية، والدليل على ذلك هو ما أشارت إليه الدكتورة “بلومستين” عن الأخطاء ذات الطابع الخاص التي يقع فيها المرضى الذين يعانون من مشكلات في الوظائف التنفيذية، فتتحول كلمة مثل “happy days (أيام سعيدة)” إلى “dappy hays”، لكن من المفارقات العجيبة أن مرضى متلازمة اللكنة الأجنبية لم يقعوا في مثل هذه الأخطاء اللفظية.

يعزو العلماء السبب الرئيسي للمشكلات التي يواجهها المريض في مرحلة التنفيذ إلى المفاصل المتحركة، إذ يتطلب التحدث بصوت عالٍ التواء أو تحريك الفم والحلق لتغيير مجرى الهواء المتدفق. ولأن الدماغ هو المتحكم الأساسي في هذه الحركات الدقيقة، فإن أي ضرر قد يلحق به كفيل بأن يؤثر على إيقاع هذه الحركات. وهذا يفسر سبب بذل المصابين بتلف في الدماغ كل هذا الجهد الجبار في محاولة إخراج أصوات معينة والتي قد تظهر أحيانا مشوهة نتيجة لكل هذه التغيرات التي أثرت على الأصوات الخارجة من الممرات الهوائية.

السكتات الدماغية وأسباب أخرى

لا تزال السكتات الدماغية هي السبب الأكثر شيوعا للإصابة بمتلازمة اللكنة الأجنبية، لكن يرى العلماء أن ثمة أسبابا أخرى، منها على سبيل المثال التصلب اللويحي أو المتعدد (وهو مرض مناعة ذاتية يقوم فيه جهاز المناعة بمهاجمة نفسه)، فضلا عن الالتهابات، وأعراض الانسحاب من عقاقير باركنسون (الشلل الرعاش)، والصعق الكهربائي، والفصام، وأورام الدماغ، ولدغات العنكبوت التي تسبب تسمما عصبيا.

قد تكون الأسباب أحيانا لا علاقة لها بتلف الدماغ على الإطلاق، وإنما بالاضطرابات العصبية الوظيفية كما تقول الدكتورة “لورا ماكويرتر”، طبيبة النفس والأعصاب بجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة. لتبسيط الأمور، شبّهتْ الدكتورة “ماكويرتر” أدمغتنا بأجهزة الحاسوب التي قد تتعطل بسبب مشكلات في مكونات الجهاز نفسه أو في البرمجيات أو بسبب مزيج من كليهما، وعلى نحو مماثل، يمكن للاضطرابات العصبية أن تنجم عن أضرار بالدماغ نفسه، أو بسبب معالجة إشارات خاطئة داخل الدماغ، أو خليط من كليهما.

لاحظت “ماكويرتر” أن العديد من مرضى متلازمة اللكنة الأجنبية (الناجمة عن الاضطرابات العصبية الوظيفية) تعرّضوا لإصابات في الفك أو خضعوا مؤخرا لجراحة في الأسنان أو الفم، فتَظهر -نتيجةً لذلك- هذه الاستجابات اللاإرادية المشوهة من الفم. وعن هذا تقول: “إن خضوع المرء لجراحة في الفم هي عملية مؤلمة للغاية فضلا عن صعوبة تحريكه للفم مثل السابق، ولتعويض ذلك، فإن برمجيات الدماغ (أو الإشارات الموجودة داخله) تُسلِّط الضوء على الفم وتُضفي عليه مزيدا من الانتباه، والذي هو -بالمناسبة- رد فعل طبيعي للغاية، لكن أحيانا يأتي هذا الانتباه بنتائج عكسية مع بعض الناس؛ فينطقون الكلام بطريقة مشوهة”.

في السياق ذاته، تعلّق “ماكويرتر” قائلة: “إن هذه الحالة تُثير فيك شعورا بالقلق من أن يزل لسانك بكلمات خاطئة، فلا يسعك إلا أن تصب جام تركيزك على الكلمات قبل نطقها، فبعد أن كنت تفعل كل ذلك بتلقائية دون بذل جهد، تَحوّل الأمر إلى أزمة تُثقِل كاهلك. لتقريب الموضوع أكثر، يمكن للناس العادية اختبار شيء مشابه لما يمر به مريض متلازمة اللكنة الأجنبية إذا رددوا فقط الكلمة نفسها مرارا وتكرارا، سيُشعِرهم ذلك بأن هذه الكلمة باتت مشوهة واختلف نطقها، وهذا بالضبط ما يختبره المرضى”.

إذا كان السبب الرئيسي للإصابة بمتلازمة اللكنة الأجنبية هي مشكلات النطق، فمن المنطقي ألا تظهر جميع اللهجات بالقدر نفسه، لكنها مع ذلك تنتشر في جميع أنحاء العالم بتنوع مذهل في اللهجات، فتتحول اليابانية إلى الكورية، والإسبانية إلى الهنغارية، والهولندية إلى التركية، وهكذا. لكن وفقا لدراسة استقصائية أولية لبعض الحالات في هولندا، فإن معظم المرضى يتحدثون بلغتهم الأم ولكن بلهجات مختلفة من اللغات الرومانسية (المشتقة من اللاتينية العامة) أو لغات أوروبا الشرقية أو اللغات النغمية (مثل الصينية).

يرى العلماء الهولنديون أن هذه اللغات الأخيرة تتطلب مزيدا من “الجهد العضلي وقوة التنفس”؛ ما يعني أن الحلق والرئتين لا بد من أن يبذلَا في سبيل ذلك جهدا أكبر. فإذا تعرض شخص ما لإصابة تؤثر على نطقه، فقد يلجأ إلى تعويض ذلك -سواء بوعي منه أو بغير وعي- بتحميل أحباله الصوتية ما لا طاقة لها به وإجبارها على العمل أكثر، فينتهي به المطاف مُكتَسِبا لهجة من هذه اللهجات.

لكن على الجانب الآخر، يُبدي بعض علماء اللغة، مثل “جاك ريالز” و”شيلا بلومستين”، اعتراضهما على هذه النظرية لعدم اقتناعهما بأن ثمة لغة تتميز عن أخرى بجهد عضلي أكبر أو قوة تنفس أعلى. لكن إذا ثبتت صحة هذه النظرية، فمن باب أولى أن يكتسب المريض الذي يتحدث الإنجليزية لهجة فرنسية أو صينية بدلا من العكس.

ما مصير أصحاب هذه المتلازمة؟

على الرغم من الاكتشاف المبكر لهذه المتلازمة والذي يعود لعام 1907، فإن هذا المرض لم يحظَ بالكثير من الانتباه سوى مؤخرا. كما توصلت إحدى الأوراق البحثية إلى أن 93% من جميع الحالات المعروفة تبنتها الدراسات العصبية منذ عام 2000. وككل شيء في الحياة له عيوبه ومميزاته، كان لهذا الوعي المتزايد محاسنه ومساوئه التي تقف للمريض بالمرصاد، وأقرب مثال على ذلك هو ما أدلت به “إيلين سبنسر” عن احتشاد ما لا يقل عن 10 أطباء أعصاب حولها أثناء مواعيد الكشف مدفوعين برغبة جامحة لإلقاء نظرة خاطفة على مريض مُصاب بهذه المتلازمة على أرض الواقع.

حينما ننظر إلى الجانب المشرق من الحكاية، سنجد أنه أصبح من اليسير على المرضى اليوم تَلَقّي تشخيص ودعم كافيَينِ، وهو ما يبعث في نفوسهم راحة كبيرة، إلا أن هذه الراحة لا تدوم طويلا بسبب وسائل الإعلام التي لا تتلطف بهم، فضلا عن أن تتركهم وشأنهم دون إجبارهم على القيام بأشياء تافهة ومُهينة، ناهيك بالصحف الشعبية التي لم تتوانَ لحظة عن تصويرهم كمسوخ أو كائنات غريبة الأطوار تعيش معنا، فتخفق نفوس المصابين -إثر ذلك- خفقة أليمة، وتستقر جرثومة الحزن في أعماقهم.

يرى عالم اللغة “جاك ريالز” أن وسائل الإعلام تكرِّس اهتماما أكبر للقصص الدرامية لأشخاص يستيقظون صباحا وهم يتحدثون لهجات غريبة. وإحدى أشهر هذه القصص هو ما حدث مع مغني البوب البريطاني الشهير “جورج مايكل” الذي دخل في غيبوبة بعد إصابته بالتهاب رئوي، وعندما استيقظ بدأ يتحدث بلهجة مختلفة عن البريطانية. لكن يظل الأمر الأكثر شيوعا كما يقول “ريالز” هو فقدان المرضى قدرتهم على التحدث خلال الأيام أو الأسابيع التي تلي إصابتهم، فلا تظهر هذه اللهجة إلا في وقت لاحق أثناء محاولتهم استعادة الكلام تدريجيا.

وقد أثار ذلك انتباه بعض المتخصصين حول احتمالية أن تكون اللهجة التي اكتسبها المريض مؤشرا إيجابيا على شفاء الدماغ، وهو ما أيّده “ريالز” أيضا بقوله: “بدأت أؤمن بأن متلازمة اللكنة الأجنبية هي في الأصل مرحلة تعافٍ”. صحيح أن وجود لهجة، وإن كانت مختلفة، يظل أفضل من فقدان القدرة على الكلام نهائيا، إلا أن احتمالات الشفاء التام غالبا ما تكاد تكون منعدمة.

عن هذا يقول “ريالز”: “يخالج الناسَ أحيانا شعورٌ بالحرج الشديد من اللهجة الغريبة التي يتحدثون بها، فيحاولون باستماتة تغييرها، حتى إنهم يستمعون إلى تسجيلات قديمة لهم وهم يحاولون محاكاة أصواتهم. كما يلجأ الكثير منهم أيضا إلى أخصائي تخاطب”.

لكن لسوء الحظ، لا يستعيد اللهجة الأصلية سوى نصف المرضى فقط، فضلا عن أن طريقة علاج النطق ثَبت عدم فعاليتها بحسب شهادة بعض المرضى، إذ لا بد من امتلاك سيطرة واعية على اللهجة لكي تتحكم في زمام الأمور وتتمكن من تغييرها. وأمام هذه الاحتمالات الضعيفة في الشفاء، لا يسع العديد من المرضى إلا أن يحاولوا جاهدين التأقلم مع هذا الوضع.

طرائف وغرائب

ولأن لكل حكاية مظلمة شعاع نور في نهاية النفق، فقد حكت امرأة خجولة ذات مرة كيف أصبحت لهجتها الجديدة خير معين لها على تخطّي أزمة خجلها والانسجام مع الناس وإذابة الحواجز بينهم باعتبارها فرصة جيدة لخلق حديث.

من الطريف أيضا أن بعض الأصدقاء قد لا يصدقون أحيانا أن هذه حالة مَرَضية يعاني منها أصدقاؤهم، فيظنون أن كل ما هنالك أنهم يلعبون أدوارا في مسرحية ويحاولون تقمص الشخصية. وقد يرى بعض المرضى، مثل “سبنسر”، أن هذه المتلازمة أضفت عليهم هالة من التميّز، بقولها: “كنت أُشْبِه إخوتي الثلاثة ولا شيء حقيقي يميزنا عن بعضنا، لكن تغيّر كل شيء الآن حينما باتت أمي تُمَيِّزني على الفور بمجرد اتصالي بها”.

وتمضي الأيام، تطير بهم تارة فتشعرهم بتميز، وترزح فوق رؤوسهم تارة أخرى بتسلل الإحباط إلى نفوسهم. تتذكر “سبنسر” ذات مرة أن إحدى صديقاتها أغلقت الخط بوجهها بعد تغير لهجتها معتقدة أنها اتصلت برقم خطأ، فأصاب “سبنسر” حينها الارتباك واضطربت حواسها وهي تحاول جاهدة إثبات هُويتها، غير أن والدة زوجها قدّمت لها يد العون بمواساتها ونصحها بأن تتكلم ببطء وتأخذ وقتها الكافي حتى يفهمها الآخرون.

إن كانت “سبنسر” محظوظة كفاية بتلقي الدعم من والدة زوجها، فلا يملك الجميع هذه الميزة مع الأسف، إذ أعرب أحد المرضى في إحدى الدراسات العصبية ذات مرة عن مدى استيائه من تصرفات الناس حوله بتهامسهم عن شربه لشيء ما أذهب عقله، ولم يسلم مرضى آخرون من وصم الناس لهم بالاختلال العقلي أو اتهامهم بأن تمثيلهم لهذه الحالة المرضية لا يتعدى كونه مزاحا سخيفا.

من خاض غمار تجربة مؤلمة كهذه، سيتلبّسه -بالتأكيد- حزنٌ يجثم على قلبه، وينازعه الحنين إلى صوته القديم، وهذا بالضبط ما أكده أحد المرضى حينما أعرب عن مأساته بفقدان ذاته في اليوم الذي فقد فيه الكلام. كما نوّهت امرأة أخرى بمدى اعتزازها بتسجيل قديم لصوتها ترثي به نفسها على “وفاة أختٍ توأم لها”. حتى الحيوانات الأليفة أحيانا ترمق أصحابها بنظرة شك، وترتسم على قسماتها علامات توحي بالحَيرة.

لا تقف الأمور عند هذا الحد، فقد يقع بعض المرضى فريسة للتمييز العنصري، وإحدى أشهر حالات التمييز هذه هي لسيدة نرويجية كانت تبلغ من العمر 28 عاما حينما أُصيبتْ جمجمتها بشظايا قنبلة ألمانية عقب غزو ألمانيا النازية لوطنها عام 1941، حينها فقدت الوعي لمدة نصف أسبوع، وعانت إثر ذلك من تَلَف بسيط في الجانب الأيسر من الدماغ، وعندما استعادت القدرة على الكلام، تفاجأت بأنها -بطريقة أو بأخرى- اكتسبت اللهجة الألمانية، فتحولت حياتها من بعد ذلك إلى جحيم خالص، فمن سيقبل في هذه المدينة أن يبيع شيئا لسيدة تتحدث بلغة العدو؟

من ضمن القصص الغريبة أيضا أن امرأة بريطانية سافرت ذات مرة إلى بولندا لاعتقادها أن الناس هناك يتحدثون لهجتها نفسها؛ ما سيبعث فيها شعورا بأنها في وطنها الحقيقي. وكررت امرأة أميركية التجربة نفسها بسفرها إلى إنجلترا لأسباب مماثلة، لتتفاجأ بأن الجميع هناك افترضوا أنها من جنوب إفريقيا، ناهيك بالمشكلة التي واجهتها مع مسؤولي الهجرة الذين ساورهم الشك تجاهها بسبب التناقض بين لهجتها وجواز سفرها.

التأقلم عبر مراقبة الكلام وتمحيصه

واحدة من طرق التأقلم التي يحاول بها الأشخاص المصابون بمتلازمة اللكنة الأجنبية أن يعلوا فوق خسائرهم ليلحقوا بركب الحياة الطبيعية هي مراقبة الكلام وتمحيصه قبل التفوه به أو استبداله بصيغة أخرى تدل على معناه، قد تبدو لك طريقة صعبة، لكنها مع ذلك الحل الأمثل لتجنب الوقوع في شَرَك كلمات معينة، على الرغم من صعوبة وجود بدائل لبعض الكلمات أحيانا.

إن كومة الإحباطات التي تبتلع مريض متلازمة اللكنة الأجنبية قد تزيد من تحفظاته إزاء اختياره للكلمات، فلا ينفك يشكِّك في قراراته، وكأن لغته الأم تحولت إلى لغة ثانية تجبره على التفكير بتأنٍ وحَذَر بمكان وضع الأفعال والأسماء وأجزاء أخرى من الكلام، حتى المحادثات البسيطة أصبحت عبئا يثقل كاهله.

تجد “سبنسر” سلواها في مساعدة الآخرين على التأقلم، وذلك عن طريق مجموعات صغيرة تُديرها على وسائل التواصل الاجتماعي تضم نحو 250 عضوا. تتفقد أحوال المرضى الذين يشعرون بالاكتئاب، وتُظهِر لهم دائما جانبها المشرق، لكن مع ذلك تظل هناك لحظات تتكشف فيها ذاتك الحقيقية وما تنطوي عليه من ألم. وهذا يؤكد لنا أن الأمر لا يتعلق فقط بالمظهر الخارجي، لأن المظاهر غالبا ما تكون خدّاعة.

من خلال قصص الأعضاء، لاحظتْ “سبنسر” أنهم يعانون أيضا من ضعف في الوظائف التنفيذية؛ ما أثر على قدرتهم في تحديد الأولويات ورسم الخطط، فمثلا اتخاذ قرارات غاية في البساطة مثل اختيار أغراض البقالة ليس بالأمر الهيّن أبدا، فضلا عن فقدان وجهتهم فجأة وضياعهم في طريق من المفترض أنه مألوف بالنسبة إليهم، كما أن الضوضاء الدخيلة والمزعجة التي يعجزون عن عزلها عنهم لا تتهاون أبدا في إنهاكهم واستنزاف طاقتهم.

غالبا ما ننسى مدى القوة التي تتمتع بها أصواتنا، فعلى أساسها تقوم هُويتنا، كما أنها الوِثاق الذي يربطنا بمجتمعاتنا ومن خلاله نعلن انتماءنا إليها. لكنّ “سبنسر” وآخرين ممن يعانون من متلازمة اللكنة الأجنبية خير من يعرف إلى أي مدى هانت أواصرهم حتى مع أقرب الناس إليهم، فقد يعجز الزوج عن فهم عبارة بسيطة قالتها زوجته، وقد تعجز الأم عن قراءة قصة ما قبل النوم لصغيرها.

تقول “سبنسر” في النهاية: “مشكلتنا أننا نتعامل مع قدرتنا على الكلام باعتبارها من المُسلَّمات ولا شيء يهدد وجودها. إن خوض تجربة كهذه لا يشبه قَصَّة شعر سيئة سيتحسن شكلها بمجرد أن ينمو الشعر من جديد، بل هي تغيّر عميق يدب في روح المرء ويتطلب منه بذل جهد كبير، فيظل يكابد حياته بين الأمل واليأس، فتتحسن أموره تارة، ويخذله حظه تارة أخرى”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • Elieve
    منذ 8 أشهر

    تراهات قرأت المقال بأكمله لم اجد سبب للمتلازمه ولا علاج بل لم اجد شئ واحد منطقى ف المقال؟!!!

  • عبد الرحيم
    منذ سنتين

    كلام طويل و عريض و مزخرف و لكنه لا يبرهن على أي شيء .علم النفس علم أقرب للشعوذة .علم يقول لك كل الرجال يتمنون يوما أن يتمكنوا من اغتصاب أمهاتهم .علم النفس ليس هو علم الرياضيات و لا حتى علم الفيزياء أو الكيمياء .بمجرد أنه يضع اسما أمام ظاهرة ما يوهمك أنه خلاص يعرف كل شيء عن المرض و أنه لم يعد يخفى عليه منه شيء “متلازمة اللكنة الأجنبية” طيب سميتها لنا ومن بعد ؟ ترهات لا غير .😆😆😆😆😆😆😆😆😆