وجهة نظر

في ظل  المنافسة غير المتكافئة مع اللغات الأجنبية.. لماذا تعاني العربية في عقر دارها؟

من المواضيع التي أصبحت تثير انتباهنا في الآونة الأخيرة هو القلق الواضح حول وضعية اللغة العربية في العالم العربي، إذ لا يخلو أيُّ اجتماع انعقد أو مؤتمر نُظّم من قِبَلِ جهة ما من اتخاذها شعاراً له أو التداول بشأنها.

هذا بالإضافة إلى العشرات من المقالات والكتب التي تنفثها المطابع يومياً، والتي لا هم لها سوى النظر في مستقبل اللغة العربية، والإكراهات الكثيرة التي تواجهها.

وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ما يُشبه ساحة الوغى، حيث يحتدم الصراع على أشُدِّهِ بين أنصار اللغة العربية من جهة، والمناهضين لها من جهة أخرى، ومن ثم أصبح الجميع مقتنعاً بأن هذه اللغة وصلت إلى درجة من التردّي، قد تُنذر في قادم الأيام، بما هو أسوأ إذا ما ظل الحال على ما هو عليه.

وعلى الرغم من أن اللغة العربية في رحلتها التاريخية الطويلة، ومنذ أن نزل بها القرآن الكريم، مرت على غرار العديد من اللغات، بمراحل عصيبة، إلا أن المأزق الذي انتهت إليه الآن يكاد يكون فريداً من نوعه، وما الدعوة إلى حماية اللغة العربية، وتوظيف مصطلح “حماية” الذي يحمل أكثر من دلالة، إلّا أحد الأوجه البارزة والملموسة لهذا المأزق.

ومن المفارقات أن هذه المخاطر التي تهدد حياة العربية في عقر دارها، تأتي في وقت لا تزال تحتفظ فيه هذه اللغة برمزية دينية لحوالي مليار وسبعمائة مليون مسلم، كما يوجد قرابة المائتين وستة وأربعين مليون نسمة ناطقة باللغة العربية على امتداد الوطن العربي الكبير، وتُعتبر اللغة العربية هي اللغة الرسمية الأولى أو الوحيدة لاثنتين وعشرين دولة عربية، بل جعلتها كل من إسرائيل في فلسطين المحتلة وإيران لغات رسمية لها إلى جانب لغاتها الرسمية.

ونظرا لأهميتها المتزايدة على مستوى العالم، فإنها تُدرج ضمن اللغات الست المستعملة رسمياً في هيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية الأخرى.

كيف نوفق إذاً بين المكاسب التي حقّقتها عالمياً، والإخفاقات التي ما فتئت تثقل كاهلها يوماً بعد يوم؟

يبدو أن عوامل شتى أسهمت، بشكل أو بآخر، في زعزعة المكانة المتميزة التي كانت تحظى بها اللغة العربية، حتى عهد قريب، في الدول العربية والإسلامية.

وإذا كانت الدول العربية والإسلامية قد أفلحت في استرجاع أرضها المسلوبة من الاستعمار الغربي، فإنها أخفقت في التخلص من إرث ثقيل، يتمثل في ما يُمكن أن أنعته بوطأة الفرانكفونية أو الأنجلوسكسونية.

إن المشكلة الأساسية تكمن، حسب رأيي المتواضع، في الحيف الذي يلحق اللغة العربية جرّاء تقلص استعمالها في الإدارات والمؤسسات وفي بعض الأوساط الثقافية والمنابر الإعلامية، وذلك لصالح لغة دخيلة، أصبحت تُشكل في بعض المجتمعات مظهراً من مظاهر الترف الثقافي، فأقبل الناس عليها نظراً لما تتوفر عليه من آليات مغرية.

والحقيقة أن المنافسة غير المتكافئة بين اللغات الأجنبية والعربية ليست، في واقع الأمر، إلا إحدى تجلّيات هذا التردي المتنامي للغة العربية، والتي بدأت تتجسد في الطريقة التقليدية التي تُدرس بها اللغة العربية في المؤسسات التعليمية.

ففي الوقت الذي تُستثمر فيه كل الوسائل الديداكتيكية، بل أرقاها، لتعليم وتلقين اللغة اللغات الأجنبية، وتحبيبها للأطفال، فإن حظ اللغة العربية من ذلك بئيس، ويبعث على الشفقة، ولا يزيدها هذا التهميش إلا ضُعْفاً ووَهْناً، خاصة أن أي مقارنة عابرة وأولية وسطحية بين منهجية التدريس تشي بالكثير من الدلالات.

ولا يقف الاختلاف عند حدود إستراتجية التعليم، بل يتعدى ذلك، بخصوص اللغات الأجنبية إلى العمل على تسويقها وفق خطة تجارية مدروسة ومحكمة لا مكان فيها للارتجال أو الخطأ.

أضف إلى ذلك ما يُصاحب تعليم هذه اللغات من توفير للقصص المشوقة، ومن تشجيع دائم على القراءة، ومن حث المتعلمين على اقتناء المعاجم اللائقة والاحترافية، ومن التعامل اليومي مع الأقراص المضغوطة وغيرها من وسائل التكنولوجيا الحديثة، وذلك لتصحيح النطق أو التوجيه نحو نطقها بطريقة سليمة.

وقد أسهمت كثيراً المعاهد الأجنبية في التعريف بهذه اللغات عن طريق تنظيم الندوات، والملتقيات، وكذا بعض العروض المسرحية الترفيهية، حتى أصبح الحديث بهذه اللغات والإقبال عليها، بشغف، يُعتبر مظهراً من مظاهر التحضر والتمدّن والتقدّم، وليس وسيلة من وسائل الاستلاب.

إلا أن وضعية التردي التي آلت إليها اللغة العربية في الوقت الراهن، تكالبت عليها عوامل أخرى كان لها أثرها الكبير في ذلك، تتمثل على سبيل المثال، في شيوع العامية في كتابات التلاميذ، وفي تلقيهم للغات مختلفة دون وجود إستراتيجية قادرة على تدبير ومعالجة التعدّد.

وعوضاً عن أن تتوجّه الأنظار نحو دعم حقيقي للغة العربية، وجدنا أنفسنا في العِقْد الأخير أمام ظاهرة جديدة يحركها اقتصاد السوق، والمقصود باقتصاد السوق أن وسائل الإعلام والاتصال لا تتردد، سعياً منها لاستقطاب أكبر عدد من المتلقين (مستمعين أو مشاهدين أو قراء)، في الترويج لما يُسمى بإذاعة القرب، أو الإذاعات الخاصة، والمحلية، بل لا تجد حرجا في تبني اللهجات المحلية في برامجها خدمة لهذا الهدف.

غير أن الطريق السالك نحو إضعاف اللغة العربية الفصحى سيتم بصورة أكثر وضوحاً مع ظاهرة الرسوم المتحركة الغربية أو الآسيوية المترجمة إلى العاميات الشرقية، ومن غزو المسلسلات التركية أو المكسيكية للبيوت العربية (بما في ذلك أوساط الأطفال والشباب) محققة أعلى نسبة مشاهدة، بسبب دبلجتها إلى اللهجات المحلية، وصارت كبريات الشركات تتنافس، جرياً وراء الربح المادي، من أجل استعمال اللهجات في ملصقاتها وإعلاناتها المختلفة.

وما يزيد الطين بلّة هو استعمال الحرف اللاتيني، وما يتيحه من اختزالات، لبعث الرسائل القصيرة عبر الهاتف النقال، وعبر البريد الالكتروني، وفي مواقع التواصل الاجتماعي. من ( فيسبوك (Facebook) تويتر (Twitter) يوتيوب (YouTube) لينكد إن (Linked in)  بنترإيست (Pinterest) جوجل بلس (Google Plus) تمبلر (Tumblr) إنستغرام (Instagram) ماي سبيس (Myspace).. … ).

إن الإقبال المتزايد على استعمال الحرف اللاتيني في مثل هذه النصوص، وتدوين بعض الحروف العربية التي لا مقابل لها في اللغات الهندوأوروبية بأرقام، يُرسّخ في أذهان عموم العرب الناطقين بالعربية عجز هذه اللغة عن مسايرة العصر، وتخلفها مقارنة بغيرها من لغات العالم.

على الرغم من كل الإيحاءات التي تحملها كلمة حماية اللغة العربية، والتي قد تبدو بالنسبة للبعض بأنها غير مناسبة، إلا أنها تبقى، مع ذلك، هي الكلمة الأنسب لوصف وضعيتها في الوقت الراهن.

فما يُهدد اللغة العربية ليس الانقراض، فارتباطها بالقرآن الكريم، والشعائر الدينية من صلاة وأدعية وابتهالات يحول دون تراجع استعمالها أو اندثارها، كما حَدَثَ ويحدث للمئات أو الآلاف من لغات العالم.

إن أسوأ ما نخشاه أن تتحول تدريجياً، بوعي منا أو بغير وعي، إلى مجرد أداة للكتابة، فيكون مصيرها شبيهاً بمصير اللغة اللاتينية، وتنقلب في هذه الحالة، العاميات العربية إلى لغات وطنية.

ولا مناص، في إطار رد الاعتبار للغة العربية، من مقاومة كل أشكال “التلهيج” التي غزت حياتنا اليومية، ومن السهر على إدراجها في صلب العملية التعليمية، وهذا الأمر لا يتحقق إلا من خلال التحسيس بأهمية التدريس باللغة العربية في وسائل الإعلام المختلفة، والدعوة إلى الاهتمام بتعلمها، وإقناع الأجيال القادمة بأنها لا تقل في شيء عن باقي اللغات الحية، فمن المؤكد أن عدم الاقتناع بجدواها وفاعليتها لدى الآباء والمربين تنعكس سلبا على نفسية التلاميذ، وتجعلهم يتقاعسون عن تعلمها، ويماطلون في تحسين مستواهم فيها، كما يجب فتح مراكز لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في مختلف الجامعات، لتشجيع الطلبة الأجانب على تعلمها، ولن يتم ذلك بالشكل الصحيح، إلا من خلال وضع برامج مرافقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التعليمة.

* الدكتورة كـريمة نـور عـيـساوي/ أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات، كلية أصول الدين، جامعة عبد المالك السعدي بتطوان

أستاذة تاريخ الأديان كلية أصول الدين جامعة عبدالمالك السعدي – تطوان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *