وجهة نظر

الإنتاج الدرامي الرمضاني .. أي نوعية وأي مستقبل؟

يحتد الجدل في كل موسم رمضاني عن جودة الانتاجات التلفزيونية التي تقدم للاستهلاك كمادة إعلامية تنتج خصيصا للبث في هذا التوقيت، وقد يرى الكثيرون من متتبعيها أنها لم تعد تراعي هبة الشهر الفضيل، فمنذ ما يزيد عن عقيدين تقريبا ونحن نتلقى محتوى رمضاني فارغ من الروح الرمضانية، ليضحي سباقا دراميا ضخما يراعي فقط نسب المشاهدات وميولات الجماهير المتأثرة بتوليفة أوروبية أمريكية، شرقية وأسيوية بعيدة أو تكاد عن ثقافة هذا المجتمع الذي له خصوصية لغوية وثقافية واجتماعية ودينية لا يمكن إنكارها، والتي ضاعت وسط هذا الهجوم الإيديولوجي الغير صحي الذي يقترب من إخفاء معالم الهوية المغربية ويلخصها في الفنون الشعبية واللباس التقليدي والأكل المحلي والطقوس الاحتفالية وكل مظهر فلكلوري فرجوي واستعراضي، مبتدع أو مبالغ فيه في كثير من الأحيان، فلم نعد نتذكر أساسا أن التراث جزء فقط من هوية الأفراد والتي من المفترض أن تسقل باستمرار لتحافظ على القيم والأخلاق فهي الضامنة لسمعة الشعوب والأفراد على حد سواء.

ولنتفق أولا أن للإعلام دور تتفيفي وتوعوي هام جدا، وأن كل المكونات الاعلامية المعروضة والمتسللة إلى أذهان المتلقين بجميع فئاتهم دون استثناء بما في ذلك الجمهور الناشئ تؤثر وتأطر سلوكهم ، وفي غياب دراسات متخصصة ودقيقة تحدد مدى هذا التأثير على الأذهان والتركيبة النفسية والسلوكية يبقى على المحيط مسؤولية تقديرها وتحليلها والتعامل مع المعطيات لتقديم الحماية اللازمة لمن هم في حاجة إليها بما أنه قوى ناعمة، ضاغطة ومتسللة دون استئذان يذكر.

ولعل المتصفح لمواقع التواصل الاجتماعي اطلع على حجم النقاش الدائر حول المسلسل المغربي “لمكتوب” الذي يعرض على القناة الرسمية الثانية وهو إنتاج مشترك بين هذه الأخيرة وشركة كونيكسيون ميديا والذي تعدت حلقاته الأخيرة 4مليون مشاهدة على منصة اليوتوب وحدها فقط.

يعرض المسلسل لقصة مغنية شعبية “شيخة” ومحاولاتها الحثيثة لحماية ابنتها الوحيدة والدفع بها للخروج من الوضع المالي الصعب، وهو يحاكي من خلال الشخوص الصور النمطية المرتبطة بتلك المهن الغير مرغوب فيها اجتماعيا “تشياخت” نموذجا وكل ما يرافقها من وصم اجتماعي لكل وضع اعتباري وثقافي غير مريح أو مقبول من خلال الشخصية الرئيسية ” هند” التي لم تسلم من التسمية التقليدية “بنت الشيخة” على طول تسلسل أحداث العمل الدرامي، بالرغم من كون معالم الشخصية رسمت بكثير من المثالية لتقترب من “الشخص الإله” المتعارف عليه في الكتابة الدرامية.

وبالرغم من انقسام الرأي العام الوطني بين معارض و مؤيد حول بث هذا النوع الدرامي الرمضاني -إن صح القول-، إلا أن العمل في حد ذاته لم ينجح في صقل الصورة النمطية القاتمة والمترسخة في الذاكرة الجماعية المغربية؛ بما أن شخصية “الشيخة” كتمثل درامي داخل هذا العمل لم تقدم أي معالم سلوكية و إنسانية ترقى بها وتخرجها من دائرة الوصم بل بالعكس تماما ظلت وفية ومنغرسة ومندمجة في محيطها على الرغم من عدم احتياجها لذلك ماديا على الأقل، اللهم ما قدمت من حماية وسند فطري كأي أم بشكل طبيعي.

وجاءت النهاية مخيبة لكل الانتظارات، حيث أنها لم تسجل سرد أي درس أخلاقي بتاتا بخلاف ما هو متعارف عليه في الكتابة الدرامية عموما، فانتصرت للعقلية النفعية المتجردة من كل قيمة او مبدأ مما يتنافى وثنائية الخير والشر بما أن لكل عمل خير جزاء ولكل عمل شر عقاب، وهذه رسالة يفترض أن يمررها كل عمل درامي جاد.

هذا ولابد من الإشارة إلى أن اختيار أغنية الجنيريك لم تكن موفقة هي الأخرى، حيث أنها لا تتوافق والبناء الدرامي للمسلسل بل وتروج مرة ثانية لكل ما هو فلكلوري بشكل مجاني.

عموما وبعيدا عن قتامة كل ما ذكر وترسيخا لمبدأ للحياد فإن هذا الإنتاج الرمضاني لاقى إقبالا واسعا وذلك لأن وراءه فريق عمل ناجح من ممثلين وكتاب سيناريو وتقنيين ومخرجين، ولا يمكن إنكار أنه اجتهاد على أكثر من صعيد ولو أن توقيت بثه لا يراعي القدسية الدينية لدى المغاربة كما أنه يحاكي الإنتاجات الدرامية التركية المستوردة.

ختاما… ونظرا لأهمية دور الاعلام في إبداع صور فنية تستطيع تغيير رؤى المتتبع وتحيله على عوالم أرحب، ولأهمية الصورة التي ترسخ في الأذهان عبر التلفاز باعتباره أهم النوافذ الخارجية التي تطل على الجميع بدون فرز، فمن الضرورة بمكان تسليط الضوء على الظواهر الاجتماعية ألمختلفة و مناقشتها بالجدية المطلوبة وتقديمها بالشكل الصحيح الذي يستطيع أن يساهم في محاربة الصور النمطية والتنمر والوصم الذي تعاني منه فئات عريضة لا لشيء إلا لأنها تتواجد خارج الإطار المتفق عليه بسبب ما يمرره الاعلام من رسائل مغلوطة أو ملغومة أحيانا، عوض التركيز على الهدف الأسمى ألا وهو التوعية والتثقيف ثم الترفيه بدرجة أدنى لعلنا نحصل على إعلام يحاكي فينا الإنسان بمفهومه الشامل ويدافع عنا كأفراد ويساهم في حمايتنا بالفضاءات العمومية والخاصة.

* إعلامية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *