وجهة نظر

“الصباح” وأوهام السلطوية

كلنا نتذكر كيف انتحل مدير جريدة ” ليكونوميست ” في أحد الأعداد الصادرة الأسبوع الماضي شخصية الفقيه الدستوري ليمارس التحريف والافتراء على الدستور فتحولت حينها افتتاحية الجريدة إلى ” ركن للمفتي”، الإفتاء الدستوري وليس الإفتاء الديني.

حاولت افتتاحية الجريدة آنذاك أن تكشف عن مظهر خادع يوحي برصانة الفقهاء المتشبعين بــ”الحكمة الدستورية” فاهتدت إلى تخريجة “فقهية دستورية” حاولت من خلالها التغطية على تحيزها السياسي وتوجها الاستئصالي، وعلى المنطق التحكمي الذي تتكلم باسمه والثقافة التسلطية غير الديمقراطية التي تسكنها .

ورأينا كيف قدمت تأويلا متعسفا للدستور اتضح أن هناك إجماعا على رفضه واستهجانه، حيث “نصحت” – وما بالعهد من قدم – من أجل تجاوز ما يسمى بــ “البلوكاج” بتعيين شخص آخر غير بن كيران رئيسا للحكومة مكلفا بتشكيلها، بل إلى تعيين شخصية من خارج الحزب في حال فشل الحزب في ذلك، مستندة بغير وجه حق على الفصل 42 من الدستور الذي يشير إلى أن الملك باعتباره رئيس الدولة هو حكم بين المؤسسات -نعم بين المؤسسات وليس بين الأحزاب – فوقفت عند ” وَيْل للمصلين “، حيث لم تنتبه أو لم ترد إلى الفقرة الموالية المنسجمة مع مقتضيات الفصل 47 والتي تنص على أن الملك يسهر على صيانة الاختيار الديمقراطي وحقوق وحريات المواطنين والجماعات وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة .

صحيفة “ليكونوميست” في افتتاحيتها ليوم الخميس 1 دجنبر 2016 ستسفر عن وجهها الحقيقي وستتكلم بخطاب استئصالي دون مساحيق هذه المرة ، كشف حقيقتها ونوع الحبر والمحبرة التي تكتب منها مثل تلك الافتتاحيات .

لم يعد الأمر هذه المرة يتعلق بتقديم فتوى فقهية دستورية للخروج من ” البلوكاج “، فالحزب الذي اقترحت أن يتم إسناد رئاسة الحكومة لفرد آخر منه غير أمينه العام بدعوى “فشله” في تشكيل الأغلبية الحكومية ، أصبح بين افتتاحيتين ، حزبا يطمح للهيمنة ويشكل خطرا محاقا على الديمقراطية !!

لقد اعتبر صاحب افتتاحية ” ليكونوميست ” أن تصدر حزب العدالة والتنمية للانتخابات وحصوله على حوالي 33% من أصوات من ذهبوا إلى صناديق الاقتراع ، و125 مقعدا من أصل 325 مقعدا هي العدد الاجمالي لمقاعد مجلس النواب ، اعتبر ذلك هيمنة ونذير شؤم على البلاد والعباد وعلى الاستقرار والسلم الأهلي !!

وهكذا، وَيَا للعجب !! فالصحيفة التي كانت “فتواها الدستورية ” قبل أسبوع ترشح أحد أعضائه كي يعين رئيسا للحكومة لإنجاز ما “أخفق” بن كيران في تحقيقه، قبل الانتقال الى شخص آخر من حزب غير حزبهما في حالة فشله هو الآخر، قد تغير مزاجها جذريا، وصارت فجأة تصنفه على أنه حزب مهيمن ويشكل خطرا على الديمقراطية !!

فجأة أصبح حصول حزب العدالة والتنمية على الصدارة في الانتخابات – من خلال أغلبية نسبية بسيطة بسبب نظام انتخابي يبلقن الخريطة الانتخابية – خطرا محدقا بالديمقراطية ، وتهديدا من قبل إيديولوجية أصولية صاعدة شطبت جميع الخطابات الليبرالية والإنسانية !!
المشكلة لا تقف عند هذا الحد ، ذلك أن خطاب العدالة والتنمية لم يعد خطابا يتباه مناضلوه وناخبوه فحسب أي المليون وستمائة ألف ناخب ممن صوتوا عليه، ولكن المشكلة أن قطاعا عريضا من الرأي العام والنخبة التي من المفترض أن تكون متضررة من خطاب الحزب أصبحت تشاركه وتتبناه .

هو نفس الصعود الأصولي الشمولي عاشته أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين وتعيشه تركيا المعاصرة – يقول صاحب الافتتاحية، هو تهديد للأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي، لأنه شبيه بتلك الحركات التي تنتهي – حسب كاتب الافتتاحية دائما – بالموت تحت وخز ضميرها الذاتي لكن بعد أن تخلف خسائر كبيرة، وبعنف كثير ضد المواطنين… البقية معروفة واللبيب بالإشارة يفهم.
من لغة فقهية دستورية خادعة إذن إلى منطق تحريضي استئصالي .. عادت حليمة إلى عادتها القديمة ، لغة التحريض والشيطنة ،
بعد لغة التبخيس للعمل الحكومي ونتائجه الذي سارت على نهجه الجريدة ومن يقف وراءها طيلة الولاية الحكومية السابقة وخاصة خلال السنة الفارطة، السنة الانتخابية التي خيبت ظن التسلطية وأقلامها وصحافتها، جاء خطاب الشيطنة الذي تلجأ إليه في العادة النخب الفاشلة في رؤاها وتنظيراتها وتحليلاتها المتعالية.

ومن استهداف الحزب وخطابه وتدبيره للشأن العام إلى نعت المواطنين الذين صوتوا عليه بالقصور وضعف التمييز، ونعت النخب والأحزاب السياسية والفاعلين الآخرين الذين أصبحوا حسب كاتب الافتتاحية – ضائعين لا يعرفون كيف يصنعون شرعيتهم .

فقط صاحب افتتاحية ” ليكونوميست ” في تعاليه ومن خلال برجه العاجي استطاع أن يمسك بتلابيب الحقيقة ويحيط بها من أطرافها لينذر المجتمع بمواطنيه ونخبه بشر قادم مستطير ، وفتنة لا تبقى
ولا تذر !

لحسن المفارقة، أنه في الوقت التي كانت آليات المطبعة تعد “الصحيفة” وافتتاحيتها ، كانت قد التأمت في مقر حزب الاستقلال ندوة تحت عنوان ندوة ” بناء الدولة الديمقراطية….. استكمال لمهام التحرير الوطني” تكلم فيها أشخاص وازنون و رموز لها وزنها وتجربتها وخبرتها بدهاليز الواقع السياسي وخباياه .

ويتعلق الأمر بكل من : الاستاذ محمد اليازغي ، والأستاذ اسماعيل العلوي ، والدكتور سعد الدين العثماني ، والأستاذ حسن السوسي، بحضور الأمناء العامين لحزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال ، وحزب التقدم والاشتراكية .
لم يعتبر أي واحد من أولئك المتحدثين الكبار على اختلاف مشاربهم والذين لا يمكن اتهامهم بالأصولية، أن المغرب مهدد من قبل أصولية زاحفة أو من هيمنة حزب صاعد هو حزب العدالة والتنمية .

اتفق هؤلاء في تحليلاتهم المتنوعة والمتكاملة على عدة قضايا جوهرية منها :

– الالتقاء بين الملكية والأحزاب المنبثقة من رحم الشعب هو السبيل للبناء الديمقراطية ومواجهة التحديات الخارجية
– البناء الديمقراطي بناء متواصل من خلال مواجهة التحديات التي تواجهه
– لا ديمقراطية بأحزاب غير مستقلة فاقدة لقرارها ،
– لا ديمقراطية دون احترام الإرادة الشعبية المعبرة عنها تعبيرا حرا خلال الانتخابات ،
– لا بناء ديمقراطي بقراءات تسعى لإفراغ دستور 2011 من مضمونه الديمقراطي وتنقلب عليه
– لم يعد هناك مبرر لوجود أطراف ثالثة بين الملكية والأحزاب الوطنية للقيام بدور التوازن لان النزاع على المشروعية والمجادلة فيها لم يعد قائما، المعركة اليوم ليست معركة إيديولوجية بين حداثيين ولبيراليين ورجعيين إسلاميين ، وإنما الاصطفاف بين الديمقراطيين وخصوم الديمقراطية .

شيء واحد لم يكن للمتدخلين الوقت الكافي كي يتناولوه بالتحليل : لا ديمقراطية دون إعلام وصحافة مستقلة ، معبرة عن تطلعات الشعب وليس على أوهام السلطوية

لحسن الحظ أيضا أن الشعب لم يعد يأبه لصوت الاستئصال والتغليط…لقد قصفوه أرضا وبحرا وجوا، لقد استخدموا أساطيلهم الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمرئية، سواء منها القديم، وأخفقوا رغم ما أنفقوا ولفقو. ..