منوعات

“الإقلال” .. أسلوب لمقاومة طغيان السلوكيات الاستهلاكية أم صيحة جديدة لتعزيزها؟

القيم الاستهلاكية كانت دائما موجودة في المجتمعات الإنسانية، لكنها في القديم كانت محصورة في نخبة الأثرياء، قبل أن تتوسع تدريجيا لتصبح أسلوبا للحياة في المجتمعات. وخلال القرن الماضي تعرض العالم لهجمة شرسة لثقافة الاستهلاك الغربي، والتي هيمنت بأسلوبها في العيش على عادات وسلوكيات الأفراد والأسر، والتي لم تسلم منها حتى المجتمعات الفقيرة، والتي سجلت تحولا جذريا في ثقافة الاستهلاك من ثقافة الشراء للحاجة، إلى ثقافة الشراء من أجل تملك السلع وتجديدها وتكديسها ولو بالاستدانة. وهذه الثقافة الاستهلاكية تعززت على مستوى الأفراد بالإدمان على التسوق.

ومع بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكرد فعل على طغيان ثقافة الاستهلاك، ظهر توجه جديد يدعو إلى أسلوب جديد للحياة يرتكز على “الإقلال” أو”المينيماليزم”، و يدعو إلى التخلُّص من الممتلكات الزائدة عن الحاجة، في محاولة لتبسيط الحياة والتركيز على الأمور الأهم وتقديرها وحماية الروح الإنسانية من الغرق في طوفان الماديات.

وحسب الجزيرة نت، تنتشر اليوم مئات الكتب والمدونات حول “المينيماليزم”، وإذا بحثت عن هاشتاج #minimalism على منصة “إنستغرام” أو “بينترست” فستجد ملايين الصور، لكن اللافت للنظر هو أنها تبدو جميعا متشابهة بدرجة أو بأخرى، وكأنها تعرض نسخا مكررة لتصاميم يغلب عليها اللون الأبيض، وعناصر الطبيعة، وملابس متشابهة بألوان محايدة. وكأن المينيماليزم تحوَّل من اتجاه لتحسين الحياة إلى سلعة جديدة وإجابة سهلة، وفخ جديد يدفعنا نحو الاستهلاك.

الجذور الأولى

تعود جذور “المينيماليزم”، أو الدعوة إلى تبسيط طريقة الحياة، إلى العديد من الأديان والفلسفات القديمة. في اليونان، وتحديدا في القرن الثالث قبل الميلاد، عاش ديوجين، أحد رواد الفلسفة الكلبية، الذي وصفه الشهرستاني في كتابه  “الملل والنحل”  بأنه “كان حكيما فاضلا متقشِّفا لا يقتني شيئا ولا يأوي إلى منزل”. كانت كل ممتلكات ديوجين عبارة عن عباءة وعصا وجراب جلدي، وكان ينام في جرة خشبية أشبه بالبرميل، بعد أن رفض التوافق مع قيم المجتمع وقتها المُتمثِّلة في مراكمة الممتلكات، والتنافس على ترقية الوضع الاجتماعي.

كما تظهر جذور التبسيط والتقشف أيضا في الفلسفة الرواقية التي تتعلق بدرجة ما بعيش حياة سعيدة دون ممتلكات، واعتبارها أمرا زائلا وعلى وشك التلاشي. وبالطبع فإن ملامح التجرد والزهد نفسها هي التي نرى طيفها في الديانات السماوية كالإسلام والمسيحية، وفي حديث عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: “أَخَذ رسولُ اللَّه ﷺ بِمَنْكِبِي فقال: كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ”.

أما مصطلح “المينيماليزم” نفسه فقد ظهر في الستينيات من القرن الماضي، تحديدا عام 1965، في مقال للفيلسوف ريتشارد ولهايم أشار فيه إلى اتجاه فني بدأ في نيويورك يبتعد عن الأساليب التعبيرية والتجريدية السائدة في ذلك الوقت نحو عناصر أكثر بساطة. وقد تزامن ذلك مع اتجاه معماري مماثل بدأ في أوائل القرن العشرين تحت اسم “باوهاوس” بشَّر بهياكل وخطوط أكثر تواضعا وانسيابية وخلوا من الزخارف الزائدة، وهو الأسلوب الذي امتد فيما بعد إلى التصميم الداخلي أيضا.

لاحقا، انتقل المصطلح من الحقل الفني إلى مجال تحسين الحياة مع جوشوا فيلدز ميلبورن ورايان نيكوديموس، وهما صديقان عاشا في الولايات المتحدة حياة فاخرة، وتمكَّنا من امتلاك مفردات الحلم الأميركي، من سيارات فارهة ومنازل ثمينة ووظائف مرموقة برواتب خيالية، ورغم ذلك عانى كلٌّ منهما من الاكتئاب والضغوط. وفي عام 2009، وبعد مشاهدة مقطع ملهم لشخص يُدعى كولين رايت يمتلك عددا بسيطا من المقتنيات ويجول حول العالم، أدركا أن ما يعيشانه ليس حلما، بل هو كذبة ووهم مضلل.

بدأ الصديقان في رحلة لتبسيط حياتهما والتخلُّص من نحو 90% من ممتلكاتهما في اتجاه أطلقا عليه اسم “المينيماليزم”، وقد سجَّلا رحلتهما الملهمة في مدونة تابعها الملايين حول العالم، وفيلم وثائقي على منصة “نتفليكس” ألهم الملايين لاتباع التوجُّه نفسه.

ماري كوندو.. سحر الترتيب وشرارة الفرح المزعومة

في وقت لاحق، أصبحت المُنَظِّمة المحترفة “ماري كوندو” أحد أهم أركان هذا التوجُّه، مع صدور كتابها “سحر الترتيب” الذي بيعت منه ملايين النسخ، وتُرجم إلى العديد من اللغات من بينها العربية. كما قدَّمت كوندو مجموعة من سلاسل حلقات تلفزيون الواقع التي تزور فيها بيوتا مختلفة تساعد أصحابها على التخلُّص من الفوضى وتنظيم مقتنياتهم بأسلوب شبه طقوسي.

باختصار، يقوم أسلوب كوندو على المرور بجميع مقتنياتك بترتيب محدد سلفا، وتحديد ما إذا كانت كل قطعة تلهمك مشاعر الرضا والسعادة أم لا، مع التخلُّص من كل ما لا يلهمك السعادة وما لا تستخدمه. وتُقدِّم طريقة كوندو لمتبعيها أسلوبا جذريا للخلاص من الفوضى، وإعادة اكتشاف هويتهم بعيدا عن الممتلكات.

لكن بقليل من التأمل، تبدو طريقتها بسيطة كبساطة الرسوم في كتابها. فإما أن تحب الغرض وأن يثير فيك ما سمَّته بشرارة الفرح، وإما أن تتخلص منه فورا، دون طرح تساؤل حول العناصر التي قد تتغير علاقتنا بها بمرور الوقت، أو حول العلاقة النفعية المجردة ببعض العناصر. لكن ماذا لو كان دخلك المادي لا يضمن لك إمكانية شراء حذاء جديد، هل تتخلص من كل أحذيتك التي لا تُثير في قلبك شرارة الفرح المزعومة تلك؟ ماذا لو كنت لاجئا أو مهاجرا، تفرض عليك الظروف التمسُّك بالممتلكات، التي قد تُشكِّل في تلك الحالة طوق نجاة أكثر منها عبئا؟ هل تكفي شرارة الفرح في هذه الحالة للحكم على علاقتك بالممتلكات؟ حسنا، لا تخبرنا كوندو عن الإجابة في هذه الحالات.

المثير للسخرية أن أسلوب ماري كوندو تحوَّل إلى سلعة في حد ذاته، فعلى الموقع الرسمي المعروف باسم “كونماري” بإمكانك أن تشتري الكثير، بداية من الكتب ومرورا بمنتجات التنظيم والسلال مرتفعة السعر، وحتى منتجات التجميل العضوية والملابس، وكذلك المساقات والشهادات التي تُخوِّلك لأن تصبح منظما محترفا على طريقتها. فهل تحوَّلت “التقليلية” إلى سلعة أخرى؟

حسنا، تتربَّع ماري كوندو اليوم على رأس قائمة طويلة من الكُتَّاب والمؤثرين الذين تبنوا فلسفة “المينيماليزم” أو التقليلية. لكن اللافت أن أغلب الكتب المنشورة في هذا الاتجاه تتبنَّى ما هو أشبه بهيكل موحَّد، تبدأ بالأزمة التي أدَّت بالمؤلف إلى اللجوء إلى التقليلية، ثم التحوُّل الذي جرى، وكيف تغيَّرت حياته إلى الأفضل، وجميعها تقريبا تحمل أغلفة متشابهة بألوان محايدة وتصميمات بسيطة متقشفة، وهكذا انزلقت حركة “المينيماليزم” نحو التسليع والتكرار، وتحوَّلت من فلسفة لتهذيب النفس إلى شكل من أشكال الرفاهية التنافسية.

كذبة التخلي

في واحدة من أشهر الصور الأيقونية لستيف جوبز، يجلس المدير التنفيذي الأيقوني متربِّعا على الأرض مُرتديا سترة بسيطة وبنطالا من الجينز، لتُجسِّد تلك الصورة مع مقولته السابقة توجُّه المينيماليزم الذي ترجمته آبل بنجاح من خلال أجهزتها. لكن لا تجعل بساطة الصورة تخدعك، جوبز يجلس في منزل واسع جدا بالنسبة لشخص وحيد، وهذا المصباح الذي يظهر ليس مجرد قطعة نفعية، لكنه قطعة ثمينة من تيفاني، أما نظام الستيريو فقد كلَّفه 8200 دولار طبقا لمجلة “وايرد”.

في كتابه “التوق إلى الأقل ” (The longing for less)، يُحلِّل كايل تشايكا هذه الصورة ويتناول أجهزة آبل بوصفها تمثيلا للبساطة الخادعة، ففي مقابل بساطة التصميم ورشاقته تختفي شبكة معقدة من المصانع الصينية التي ينتحر فيها العمال، والمناجم التي دُمِّرت لإنتاج القصدير، والبنية الفوقية المعقدة من الأقمار الصناعية والكابلات الموجودة تحت سطح البحر، لتتحوَّل جمالية البساطة إلى عباءة تُخفي الإفراط غير المستدام.

الخلاصة هي أنه في ظل نظام عالمي قائم على الاستهلاك، وقادر دائما على احتواء كل حراك ينشأ لمقاومته، ليُحوِّله إلى ترس في عجلته التي لا ترحم، نتجت نسخة مُفرَّغة من المعنى من توجُّه المينيماليزم، أفرزت مفردات وسلعا متشابهة تمحو عناصر التفرد الثقافي المحلي والأسلوب الشخصي للأفراد. لتظهر سمات هذا التوجُّه في أثاث سويدي مع خلفيات أحادية اللون وستائر فاتحة، في علامة تجارية تحوَّلت إلى امتياز لا يملك تكلفته سوى الأثرياء.

صحيح أن المينيماليزم أو التقليلية بدأت بوصفها سؤالا حول المنظور الجديد الذي ترى به العالم عند التخلي عن الفائض، لكنها سرعان ما تحوَّلت إلى إجابة متغطرسة، توفر طرقا أخرى لتمكين أنماط جديدة من الاستهلاكية.

يُركِّز أنصار هذا التوجُّه اليوم على التحسين الشخصي، ويوجِّهون لومهم إلى الأفراد بدلا من الأنظمة القائمة، ويتجنَّبون الخوض في مشكلات منهجية مثل الفقر أو استكشاف أفكار جديدة لإعادة توزيع الثروات، ليفرغ الاتجاه في النهاية من مضامينه الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الروحية، ويتحوَّل إلى ظاهرة استعراضية تعكسها الصور المُنمَّقة على منصات التواصل الاجتماعي.

صحيح أن الإدراك والوعي الذي يجلبه تبني نمط التبسيط إلى حياتنا يمكن حقا أن يساعدنا في خفض استهلاكنا، وفي خلق حياة بسيطة، وعلاقة صحية مع الممتلكات التي نحتاج إليها حقا، مع التحرر من إملاءات ومنطق السوق، لكن ذلك يتطلَّب أن نحافظ على وعينا به في إطار كونه وسيلة لا غاية، وسؤالا مفتوحا دون إجابات جاهزة كتلك التي تُباع حولنا اليوم في كل مكان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *