وجهة نظر

خرافة المراجعات وبطلان مشروع تفكيك خطاب التطرف العنيف

لماذا يسهب الباحثون، في “التطرف” و “الارهاب”، في الحديث عن ضرورة التصدي “للتطرف” و “التطرف العنيف”، بتفكيكه و بيان فساد مفرداته و مفاهيمه، و تصورات منظريه و داعميه؟ و لماذا ينكبون على الاشتغال عليه بكل هذه الضراوة؟ هل يستحق الامر كل هذا العناء؟ و هل الدراسات الصادرة في هذا المجال لها تأثير في موضوعها، و قادرة على محاصرة هذا النمط من التفكير و الحد من تداعياته و آثاره؟ و هل الرد على الخطاب و بيان نسبيته، بل و عدم واقعيته كاف، أو على الاقل سيساهم في صرف الناس عنه و عن تبنيه؟ اما آن الاوان ان نتسلح بالشجاعة الكافية فنعترف بأن المقاربات التي يتوسل بها هؤلاء الباحثون في هذا السياق، ليست إلا خرافات و نتائجها ليست إلا أوهاما؟

أما أن الباحثين يسهبون في اللون من الأبحاث و يسرفون فيه، فهذا مرده إلى الطلبات التي توجه إليهم في إطار الخدمة التي يعكفون عليها و في إطار الاهداف التي يراد منهم إنجازها، خاصة إذا نظر إلى المحتويات التي تتضمنها تلك الدراسات و المضامين التي تشملها، و هي للإشارة مضامين يتم الخلوص إليها من خلال النماذج الغربية الناجزة و الجاهزة، و التي لا يفعل الباحثون العرب الكسالى غير شحنها بمعطيات محلية.

و أما أن هذا الامر يستحق هذا العناء، فنعم إنه يحتاج إليه و اكثر، لأن هذه الافة تعري بشاعة و عمق أمراضنا الاجتماعية و الاقتصادية، و السياسية بالأساس، و بالتالي، فهي تحتاج فعلا إلى وقفات مطولة، و دراسات حقيقية و موضوعية، نقف بها ومن خلالها على حقائق هذه الأمراض و أسرارها التي تسهم فعلا في السيطرة عليها و تجنب آثارها الكارثية. و أما أن هذا اللون من البحث و الدرس كفيل بمواجهة هذا التطرف و حقيق بأن يمكن من الانتصار عليه، فهذا ما يجب التشكيك فيه و التعامل معه بكثير من الحذر.

أعتقد أن المدخل الرئيس الذي يجب ان يؤسس عليه، لمواجهة التطرف” و “التطرف العنيف” ليس هذه المقاربات النظرية الضعيفة و المهلهلة، و ليس هذا النوع من الفذلكات الرامية إلى بيان أعطاب “التصور المتطرف” و خطاياه، فذلك كله لا يغني من الحق شيئا .

إنه مما لا شك فيه أن مثل تلك الدراسات قاربت الظاهرة، و قدمت توصيفا لها يتضمن إدانة واضحة و صارخة للنظام السياسي القائم حتى و لم تصرح بذلك بالقصد، و ذلك من خلال إشارتها إلى أن المنتسبين إلى التيار المتطرف ليسواـ في غالبهم ـ ذوي مستوى تعليمي أكاديمي كبير و جيد، مما يجعل أطروحاتهم محل شك وارتياب، و أنهم ـ جلهم على الاقل ـ ينتمون إلى الطبقة الاجتماعية الدنيا، مما يجعل تطرفهم نابعا من السخط الذي يضمرونه في قلوبهم، و ليس مرده إلى مصادر الدين نفسه.

إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، و بإلحاح في تقديري، في هذا السياق، هو المتعلق بمدى نجاعة هذه الردود، التي يوقفها أصحابها على فضح خطاب التطرف”، في إفشال مخططات قادته و رموزه، و القضاء على أهدافهم المعلنة و الخفية. ”

لا نتجاوز الصواب هنا إذا صادرنا المطلوب، و أعلنا من البداية أن هذا اللون من الكتابات، و أقصد تلك التي يكون الغرض منها مواجهة هذا الخطاب و منازلته على أرضه، لن يسهم في القضاء عليه إلا قليلا، و لن يلعب أي دور مهم إلا قليلا أيضا، و نحن نستثني هذا القليل تجاوزا و تسامحا و ليس غير.

أقول إن هذا النوع من الانتقادات سواء تلك التي تصدر عمن كانوا “متطرفين” سابقين أو مثقفين و باحثين، و هذا لا يعود إلى ضعف في حجة هؤلاء أو قلة بضاعتهم و حيلتهم، لا.

إنني أعتقد أن قوة هذا الخطاب لا تكمن في تماسك منطقه و قوة بنائه النظري، و إنما تكمن في كونه إيديولوجيا تخاطب الوجدان و تحرك المشاعر شأنها في ذلك شأن كل الاديولوجيات الانقلابية، إذا استعرنا من المفكر السوري نديم البيطارعبارته.

من هؤلاء المتطرفون الذين تحاربهم الانظمة السياسية القائمة و تستعين في ضربهم و التحريض عليهم بالسحرة من أشباه المثقفين ؟ و من أين أتوا؟

في إطار حربها المعلنة عليهم، تروج الانظمة المستبدة أن هؤلاء ينتمون إلى الاحياء المهمشة، أو أحزمة البؤس كما يحلو لسحرتها أن يقولوا، و مستوياتهم المدرسية ، لأنهم غادروا قاعات الدرس في سن مبكرة، أولأنهم لم يتيسر لهم الالتحاق بالمدرسة أصلا، و أنهم يمتهنون حرفا في غاية الحقارة و الوضاعة، إلى ما هناك من مثل هذا الكلام.

و هذا الكلام كله لا غبار عليه و لا شك فيه. إنهم كذلك بالفعل، و هم يعانون كل هذه المعاناة بفعل السياسات الاقصائية و الاجرامية التي تنهجها الدولة في حقهم وحق شرائح عريضة من أبناء الشعب، إنهم على هذه الحال نتيجة الامعان في إذلالهم و حرمانهم من حقوقهم “كمواطنين” كاملي “المواطنة”.

إذا كان الامر كذلك، و هو كذلك لا شك و لا ريب، فهم في موقف الخصومة للدولة، و هم في موقف العداء لها، لأنها تتحمل كامل المسؤولية فيما يعانونه و يقاسونه، إذ تمكن لعناصرها و”أزلامها” و تمدهم بأسباب العيش، بالألف و اللام، في حين أنها تحرم من دونهم، و لم يحظوا بفرصة الاشتغال في أسلاكها، بل، ربما شجعت الكائنات الطفيلية التي ليس لها أي “فضل” سوى الانتساب إليها، على احتقار الذين دونهم و ابتزازهم في يومياتهم.

التطرف إذن ليس إلا ردا مضادا على تطرف سابق أشد و اقسى و أنكى، يصدر عن الدولة ،و هؤلاء ” المتطرفون” ليسواـ في واقع الأمرـ إلا ضحايا للسياسات الفاسدة و الفاشلة لدولة متخلفة و منحطة، و فاقدة للشرعية، و هم إنما يعبرون عن رفضهم لنظام بئيس و ساقط، بمفردات تمتح من التراث الديني، لانهم عاشوا في فترة هيمن فيها الخطاب الديني الثوري و الراديكالي، و لو أنهم عاشوا في حقبة سابقة، كتلك التي هيمن فيها الخطاب اليساري، لكانوا كذلك ،و لكانوا يستثمرون مفردات ذات حمولات يسارية ثورية، ك”الرجعية” .

إذا كان الرد على “الخطاب المتطرف” من جهة النظر العقلي غير ذي معنى و غير ذي فائدة للسبب الوارد أعلاه، أي لأنه ـ في الاصل ـ لا يتأسس على العقل و لا يخاطبه، و إنما يتأسس على الوجدان و العاطفة و يخاطبهما، فإن بيان حدود هذا الخطاب و تناقضاته الداخلية لا يؤثر عليه و لا يهدد مستقبله، لأنه في حقيقته إيديولوجيا، و مجرد إيديولوجيا ،أي فكر غير مطابق للواقع، كما يبين عبد الله العروي، و بالتالي يكون الحديث عن تهافتها من داخل بنيتها لا قيمة له و لا أهمية.

الغرض من هذا الكلام هو التنبيه إلى أنه لا حل لهذه الآفات إلا بالقضاء على أسبابه أي إلا بالعمل على إنجاز التغيير المطلوب و المنشود و خلق دولة تستحق اسمها و توزيع عادل للثروات و ترسيخ قيم العدالة الاجتماعية الحقة

يروى أن أحد الولاة في عهد عمر بن عبد العزيز كتب إليه يطلب منه مالا لبناء أسوار يحمي بها مدينته أو ليرمم ما خرب منها، فرد عليه عمر متسائلا و ما تغني الاسوار؟ و أمره بتحصينها بالعدل و تنقية طرقها من الظلم، و لا شيء آخر. في عهد هذا الأخير كذلك، سكن الخوارج و توقفوا عن الثورة عليه وعلى دولته، و قيل يومها انهم استحوا ان يحملوا سيفا في وجهه لأنه جسد العدل و لزمه ما وسعه.

الشاهد هنا، أن “التطرف” كغيره من الآفات و الامراض، لا سبيل لتجاوزها و لا سبيل للقضاء عليها إلا بالعدل، والاجتهاد لضمان حياة كريمة لكل ابناء الشعب، والتوزيع العادل للثروة. و بغير هذا الشرط، فإن هذه الامراض ستزداد استفحالا و تفاقما، و سيزيد من استفحالها و تفاقمها، أن المعلومة ـ اليوم ـ متاحة و ممكنة.

الذين ينكبون على هذا اللون من النقد و يجتهدون فيه، نطالبهم بتوجيه انظارهم جهة النظام القائم، ومطالبتهم إياه إعطاء الناس حقوقهم، و منع عناصره من التعدي عليهم ، و الاستعانة على ذلك التعدي بقوة الدولة و سلطتها، والضرب على أيديهم.

و الذين ينخرطون في المراجعات غير المشروطة، إنما يقدمون تنازلات رخيصة و مجانية، لأنها فقط من جانبهم . فحتى تكون المراجعات لها مصداقيتها ولها قيمتها ومعناها، لا بد ان تقابل بمراجعات من النظام القائم، يتعهد فيها بالتوقف عن ظلمه و عسفه و غشمه. إن القيام بهذا النوع من المراجعات هو إقرار بأن انتقاد النظام السياسي و معاداته على جرائمه خطيئة يحاسب مقترفوها و يعاقبون.

أختم هنا بالتنبيه إلى أنني لا أتحدث عمن اجترحوا افعالا تسببت في الاضرار بالناس و مصالحهم فأولئك شأنهم مع القضاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *