أخبار الساعة، منوعات

الوساوس الدينية.. إليك ما يقوله علم النفس وما يقوله الفقهاء

حالات من الناس تنتابهم الشكوك والوساوس حول أداء بعض الشعائر الدينية والقيام ببعض العبادات، هل قاموا بها أصلا أم لا؟ هل قاموا بها على وجهها الصحيح؟ هل وفروا شروط صحتها؟ فمثلا في فريضة الصلاة تنتابهم الشكوك والوساوس حول النية والوضوء، وعدد الركعات، وهل قرأوا الفاتحة؟ …

ويعاني هؤلاء في حياتهم من عدم اليقين، مما يدفعهم إلى إعادة عباداتهم، عدة مرات. ورغم الإعادة تنتابهم الشكوك حول ما إذا أدوا واجبهم الديني على أحسن الوجوه.

إن الشك أو النسيان المحدود أمر طبيعي، قد يحدث لأسباب مختلفة غير الوسوسة، مثل القلق أو قلة التركيز أو قلة النوم… إلخ.

لكن حين ينبع ذلك السلوك من وساوس متكررة وتُبقي المرء شاعرًا بالذنب ومتشكّكًا بأدائه الديني بشكل متكرر، ويُفسِد على الإنسان قدرته على التركيز في أي شيء آخر، فهذا، حسب الجزيرة نت، يندرج في علم النفس تحت مفهوم “الوساوس الدينية” أو ما يُدعى بالإنجليزية”Scrupulosity”.

يتناول هذا المقال، حسب الجزيرة نت، هذا المفهوم من نواحٍ مختلفة، من حيث تعريفه وأنواعه ومدى شيوعه، قبل تناول موقف الفقه الإسلامي منه، ويعطي بعض الخطوات العملية التي قد تساعد بشكل كبير في التغلّب على الوساوس الدينية والتخلّص من هذه الوساوس القهرية والشكوك العقدية الّلاإرادية التي تقتحم تفكيرك بدون إرادة أو رغبة منك.

ما ينبغي أن تعرفه عن الوساوس الدينية والوسواس القهري الديني

حتى نشرح الوساوس الدينية، لا بدّ أن نشرح معنى الوساوس في بادئ الأمر. الوساوس في علم النفس هي أفكار أو خواطر أو نزعات أو صور متكررة وطفيلية واستحواذية لا يمكن التحكم بها (يحاول المرء مقاومتها ويفشل في الكثير من الأحيان)، رغم علم المرء بعدم منطقيتها وإدراكه عدم صحتها أو صحة التفكير فيها أو فعلها.

وتشكّل الوساوس الخطوة الأولى من دائرة اضطراب الوسواس القهري (OCD)، والذي يتكوّن من وساوس يتبعها قلق، ومن ثم أفعال قهريّة للتخفيف من هذا القلق؛ ما يحرّر الإنسان مؤقّتًا فقط من قلقه، قبل أن يعود للوساوس نفسها بعد وقتٍ ليس بالبعيد.

أما الوساوس الدينية، فتُعرَّفُ بأنها الوساوس التي تتعلق بالأفكار أو المشاعر أو السلوكات أو الشعائر والمواضيع الدينية، أيًّا كانت. ويقع جزءٌ كبير منها ضمن نطاق اضطراب الوسواس القهري في الطب النفسي. ومن المهمّ التنبّه هنا إلى أن وصفها بالدينية لا يعني أنّها تنشأ من الدين أو بسببه بالضرورة، بل أنّها تتعلّق به موضوعًا.

ويمكن للوساوس الدينيّة أن تكون متعلّقة بسلوكات تعبّدية أو متعلقة بالأفكار والعقائد. فإذا كانت الوساوس عقَديّةً، فيجب التفريق هنا بدقّة بينها وبين الشكّ والتساؤل بوصفه حالةً إنسانية طبيعيّة وترتبط بتساؤلات معرفية أو وجدانية. فالوسواس هو حالة متطرّفة من الشكّ والأفكار الطفيلية التي تستحوذ على الإنسان بشكل واضح دون أن يستطيع التفكير بشكل منطقي حيالَها أو موازنتها أصلًا.

ويخلط البعض أحيانًا بين التديّن والأفعال الوسواسية، بسبب أنه نمط من أنماط الحياة المنضبطة ويحتوي على عدد لا بأس به من القواعد والخطوط العامّة والشعائر التي يجب أن تُفعَل بطرق معينة وسياق محدد. لكن من المهم جدًّا هنا ملاحظة الفرق الأساسي بين الانضباط والقواعد من جهة والوسواس من جهة ثانية. فرغم أنّ الحدّ المتطرف للانضباط والقواعد قد يتحول إلى وسواس (حيث إن الاضطرابات النفسية جميعها لها جذور في الطبيعة الإنسانية)، فإنّ هذا لا يساوي بين الأمرين.

من جهة أخرى، من المهمّ ملاحظةُ أن معظم الوساوس المَرضيّة (بما فيها الدينية) تتسبّب بمشاعر سلبية عارمة لدى الإنسان، وقلق متواصل، كما أنّ من شروط تشخيصها أن تكون غريبة وغير مقبولة ثقافيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا. على سبيل المثال، لا تدخل الأفعال التعبّدية المتكرّرة التي يشعر الإنسان بعدَها بالرضا والسعادة تحت تعريف الوسواس (مثل قول المسلمين “أستغفر الله” أو ذكر الله بشكل متكرّر). فالوسواسُ الدينيّ لا يعني كثرة الصلاة أو العبادة، بل نمطًا إشكاليًّا معيّنًا من السلوك التعبّدي أو التفكير المتعلق بالدين، وغالبًا ما يكون متعارضًا أصلًا مع مقاصد الدّين بشكل واضح، وسببًا لمعاناة ذاتية لدى الشخص.

من المهم فهمُ الأفكار السابقة، لأنّ تقاطع التديّن مع اضطراب الوسواس القهري (في شخص متدين مصابٍ به مثلًا) لا يعني اندماج مساحتَي “الديني” و”النّفسي”، وهذا ما فهمه الكثير من الفقهاء المسلمين منذ القدم كما سنذكر لاحقًا، فعرفوا أنّ المشكلة آنذاك في الوسواس بوصفه حالة مرضية نفسية، لا في السلوك التعبّدي المجرّد بحد ذاته.

لماذا أعاني من الوساوس الدينية وهل هي مشكلة نفسية؟

يُمكِن أن نُجيب عن هذا السؤال من خلال طرح السؤال التالي: هل يمكن للدّين نفسه أن يكون سببًا في الشكوك الدّينية والوساوس القهرية؟ حسنًا، نّ زيادة نسب اضطراب الوسواس القهري بين المتدينين مقارنة بغيرهم هو موضوع خلافي في أبحاث علم النفس، ولم يُحسَم بعد. تشير بعض الأبحاث إلى زيادته، بينما تنفي أخرى ذلك. من جانب آخر، نجد في الأديان المختلفة دلائل نظرية على اهتمام الدين بردع الإنسان عن الدوران في حلقة الوسواس والأفعال القهرية حال حدوثها، وإخباره عن سوئِها وتعارضها مع مقصد الدين.

وقد وجدت عدة أبحاث أنّ اضطراب الوسواس القهري يأخذ حالَ حدوثه شكلًا يتلاءَم مع شكل حياة أو سلوكات الإنسان، فإذا كان الإنسانُ متديّنًا، تزداد احتمالات أن يكون الوسواس دينيًّا. وهذا مشابه لما يحدث لدى مرضى الفصام في علاقة الأوهام بخلفيتهم الثقافية والاجتماعية. كما أن هناك دراساتٍ بيّنت أن الأعراض تكون أكثر شدّةً لدى المتديّنين من غيرهم في حال حدوث اضطراب الوسواس القهري والمقارنة بين المجموعتين، وهناك عوامل وسيطة يسعى الباحثون لدراستها في هذه المقارنات.

أما عن معدّلات انتشار الوساوس، فتبلغ نسبة المصابين بالأنواع المختلفة من اضطراب الوسواس القهري تحديدًا (وهو أهم اضطراب متعلق بالوساوس) 1% تقريبًا من سكّان العالم (مع زيادة في النسبة بعض الشيء لدى النساء مقارنةً بالرجال). بينما تتفاوت نسبة الوساوس الدينية من الوساوس ككلّ بين الدراسات المختلفة. وتتفاوت كذلك بحسب البلد، فتزداد كلما زاد عددُ المتديّنين لدى دولة معينة، ففي مصر والسعودية يبلغ معدل الوساوس الدينية 60% و50% -تقريبًا- على التوالي من الوساوس ككلّ، بينما في أميركا فيبلغ 33% على الأكثر.

ولعلّك تتساءل: ماذا يقول العلماء والفقهاء المسلمون عن الوساوس الدينية؟ في الحقيقة، تنبّه العديد من العلماء المسلمين السابقين لقضية الوساوس من جوانب مختلفة، بما فيها النفسي الطبي وليس فقط الجانب الأخلاقي والديني منها. فقد شرح أبو زيد البلخي في القرن التاسع الميلادي أعراض اضطراب الوسواس القهري بطريقة مشابهة جدًّا لفهمنا الطبي النفسي الحديث له، وقد فصّل في كتابه “مصالح الأبدان والأنفس” تفصيلًا مهمًّا في مدى سوء هذه الحالة وتأثيرها على الإنسان بوصفها مَرضًا يمكن دفعُه وعدم التعامل معه إذا تكرّر على أنه أمرٌ عابرٌ وغير مهمّ.

ومن جهة أخرى، اعتنى علماء آخرون بمفهوم الوساوس وتفصيل معناها من زاوية دينية بحتة، كأبي حامد الغزاليّ الذي عرّفها في كتابه “إحياء علوم الدين” بالخاطر المذموم (أي الداعي إلى الشر). وتناولت كتب وأبحاث أخرى قديمة وحديثة الفرق بين الشك والوسوسة. فالشك تردد في تصديق الفكرة من عدمه، أو التردد في الوقوع في الفعل من عدمه، بحيث يتساوى تقريبًا الدافع في الاتجاهين، ويكون الشكّ لسبب معتبرٍ منطقيًّا، وغالبًا ما يكون حالةً طبيعيّة وانتقالية لا تستحوذ على عقل الإنسان وحياته، بينما تكون الوسوسة استحواذية دائمًا، وتأتي دون سبب منطقي معتبر، بل من أسباب غير عقلانية يعلم الشخص نفسه أنها كذلك، ولذلك غالبًا ما يشتكي منها ويسعى لتغييرها.

ومن المهمّ التنبّه هنا إلى أن عددًا من الفقهاء نظروا إلى الوسوسة الشديدة باعتبارها حالة مَرَضية يسقط معها تكليف الإنسان في الكثير من الأمور ولا يأثم عليها ما دام أنه سعى للتخلص منها وحلّها.

ماذا أفعل كي أتخلّص من الوساوس الدينية؟

تأتي الوساوس الدينية على أعزّ ما يخصّ المتديّنين، أي دينهم؛ وهذا ما يجعلهم في حيرةٍ ومشاعر مختلطة من الخجل والتقصير والحزن وغيرها. لكن الحلّ موجود، وهناك عددٌ من الخطوات العملية المهمّة التي قد تساعد الإنسان ليتخلّص من هذه المشكلة، ومنها:

  • أولًا: حاول تحديد طبيعة ومساحة المشكلة ووصفها جيدًا

يبدأ حل المشكلة دائمًا من وصفها بشكل صحيح، وتحديد مساحتها. اعرف أكثر عن معنى الوساوس واضطراب الوسواس القهري وطبيعته لكي تستطيع تمييزه عن غيره من الظواهر. فالشكّ أو امتلاك شخصية انضباطية ليس كالوسواس مثلًا، والوسواس المتعلق بفترة معينة ناجمة عن ضغط نفسي يختلف عن الوسواس القهري المستمرّ الذي لا يتعلّق بفترة زمنية معينة، والوساوس السلبية والمقلقة تختلف عن الأفعال التي لا تشكّل مشكلةً للإنسان بل يشعر بعدها بالطمأنينة والرضا. لذلك، علينا أوّلًا أن نحاول وصف المشكلة وتحديدها بأكبر قدرٍ ممكن من الدقّة: ما هي؟ وما طبيعتها (أفكار، نزعات، صور… إلخ)؟ وكيف تشعر حيالَ حدوثها؟ وهل تتعلّق بجانب تعبّدي سلوكي أم بجانب عَقَديّ فكريّ؟

هذه الأسئلة كلها هي مقدّمة ستجعلك أكثر قدرة على التعامل معها.

  • ثانيًا: حاول تتبّع المسار الزمني للشكوك وحدّد العوامل المُحفّزة لها

يمكن أنّ تعمّق فهمك للمشكلة وتسهّل حلّها من خلال تتبّع مسارها الزمني وفهم أوقات حدوثها وإلى أي مدى تستحوذ على حياتك ووقتك وجهدك. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الوعي بالعوامل التي تخفّف أو تزيد من الوساوس سيجعلك أكثر قدرة على توفير الظروف الأفضل لتجنّبها. فإذا شعرتَ -على سبيل المثال- بأنّها تزداد حضورًا عندما لا تنام بشكل جيّد (وهو أمر شائعٌ في الوساوس)، فستكون أكثر حرصًا على النوم بشكل أفضل للتخفيف من حدوثها وشدّتها.

  • ثالثًا: لا تعذّب نفسَك بالشعور بالذنب

إنّ الحلّ الأساسي الذي يقترحه العلاج النفسي للوساوس هو ما يُدعى بعلاج “التعرض ومنع الاستجابة (Exposure and Response Prevention [ERP])”، وهو عملية احترافية لا يستطيع المريض إجراءها بنفسه دائمًا، وتحتوي على العديد من التفاصيل والمكوّنات التي يجب أن يخوضها المريض مع المعالج، تبدأ من التعرّض للوساوس المزعجة، ومن ثمّ تعليم المريض كيفية التعامل معها وترشيدها وعدم التسليم للاندفاعات السلوكية والنفسية التي تنتج عنها. إلّا أنّ الجوهر الرئيسي فيها والذي يمكن أن تحاوله هو مقاومة النّزعة نحو الأفعال القهرية والسلوكات التعويضية التي تنتج بعد الوساوس، وقد يكون هذا مشابهًا لما قاله الرسول محمّد -صلى الله عليه وسلم- في حديث عن الوساوس والتعامل معها بالاستعاذة ومقاومة ما قد تؤول إليه من سلوكات قهرية. ومن المهمّ تذكّر ما ذكرناه سابقًا في هذا المقال، وهو أنّ الاستجابة السلوكية القهرية للوساوس لا تؤدّي لما يفيد في التعامل معها وكسر هذه الدائرة السلبية، بل لتعزيزها والبقاء في أسرها.

من الجيد أيضًا ألّا تحمّل نفسك عبء الشعور بالذنب، فهذا مَرَضٌ يمكن أن يصيب أي إنسان مهما كان، ومن زاوية دينية، فهو ابتلاءٌ قد يزيد من ثوابك حين تسعى لعلاجه ومقاومته.

  • رابعًا: الجأ إلى الطبيب أو المعالج النفسي، وكذلك استشر عالِمًا دينيًا تثق به

قد تختفي العديد من الوساوس على اختلاف أشكالها بعد فترة من الزمن، أو تقلّ حدّتها وتأثيرها على الإنسان، لكن في حال تأثيرها على الحياة وتعطيلها الوظائف الاعتيادية لدى الإنسان بشكل ملحوظ، أو تسبّبها بمشاعر سلبية جدًّا ومعاناة مستمرّة، واستهلاك وقت وجهد الإنسان بشكل كبير؛ فلا بدّ من مراجعة متخصص نفسي (طبيب أو معالج نفسي)، فهم الأكثر قدرةً على التعامل مع هذه المشكلات بطريقة علمية ومنهجية للتغلب عليها بأسرع وقت ممكن وأقلّ أثر على المدى الطويل، وثِق تمامًا بإمكانية العلاج.

من الجدير بالذكر هنا أن اللجوء لعلماء الدين أو الفقهاء هو أمرٌ يشجّع الكثير من المتخصصين والباحثين عليه، بشرط أن يكون هذا العالم أو الفقيه موثوقًا في المجال النفسي، لأنّ التعامل مع الوساوس ليس أمرًا سهلًا دائمًا، وقد تختلف المقاربة بحسب نوع الوسواس وشدّته. والتدخّل العلاجيّ العلمي لا يكون بمعارضة أو تحدّي المعتقدات أو السلوكات الدينية ككلّ، بل بالتعاون معها والتعويل على مقاصدها لعقلنة وترشيد هذه السلوكات والأفكار والنّزعات، بما يتّسق مع نظام الأخلاق والقيم الخاصّ بالمريض.

حتى الآن، ما زال التعاون بين علماء الدين والمتخصصين في مجالَي علم وطب النفس محدودًا مع الأسف، لكنه أصبح أكثر شيوعًا في الدول المتقدّمة لدى علاج المتديّنين أو الأشخاص المنتمين لدين معيّن، بسبب خصوصيّة بعض المشكلات النفسية، والتي تتطلّب أكثر من مستوى من التدخّل لإفادة المريض وفهم الجوانب المختلفة لمعاناته.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *