خارج الحدود

حرائق تنظيمية أم تسوية وطنية .. لماذا أعلن الغنوشي استعداده لترك قيادة النهضة؟

أن يعلن رئيس حركة النهضة التونسية استعداده للتنحي عن قيادة الحركة فذلك له دلالات سياسية كبيرة على اعتبار المكانة التي يحتلها حزب النهضة في المشهد السياسي، والأدوار الحيوية التي لعبها في الديناميكية السياسية في تونس، وتزامن الإعلان مع تطورات سياسية وتشريعية تتجه نحو تكريس دكتاتورية الرئيس التونسي قيس سعيد.

لكن الإعلان يكتسي أهميته أيضا بالنظر إلى ما يعتمل داخل الحركة من اختلافات كبيرة حول عدة قضايا سياسية وتنظيمية، ويكون لقائد يتزعم الحركة مند أزيد من 4 عقود دلالات داخلية كبيرة.

ورغم وضوح الشرط السياسي الذي وضعه، فهل إعلان راشد الغنوشي استعداده للتخلي عن رئاسة حركة النهضة أملته التفاعلات السياسية في المشهد السياسي الوطني، أم بدافع إطفاء “الحرائق” الداخلية؟

في سبيل إيجاد تسوية سياسية وطنية

أعرب رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي، حسب الجزيرة نت، عن استعداده للتخلي عن رئاسة الحركة في حال “تقدم أي طرف بتسوية للمشكل التونسي”، مشددا على أنه ليست لديه مشكلة شخصية مع الرئيس التونسي قيس سعيد، بل مع الحكم المطلق والاستبداد.

واعتبر الغنوشي -الذي شغل منصب رئيس البرلمان قبل حله من طرف سعيد- أن “أغلبية الشعب التونسي في حالة مقاومة” لمسار رئيس البلاد قيس سعيد، وأن التأقلم مع الوضع الجديد “غير مطروح”.

وأضاف في مقابلة مع وكالة الأناضول أن “الثورة المباركة (17 ديسمبر 2010-14 يناير 2011) لم تأت بها أميركا ولا فرنسا، بل فوجئنا بها، ودستور 2014 أتى به الشعب التونسي، ويجب ألا نشوه ثورتنا”.

وتابع الغنوشي “الثورة المضادة هي التي تقول إن ثورات الربيع العربي هي ربيع عبري”.

ومنذ 25 يوليو/تموز 2021 تعاني تونس أزمة سياسية حادة حين اتخذ سعيد إجراءات استثنائية، منها إقالة الحكومة وتعيين أخرى، وحل مجلس القضاء والبرلمان، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وتمرير دستور جديد للبلاد عبر استفتاء في 25 مايو/أيار الماضي، وتقديم الانتخابات البرلمانية إلى 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل.

وتعتبر قوى تونسية -منها “النهضة” صاحبة أكبر كتلة في البرلمان المنحل- أن هذه الإجراءات تمثل “انقلابا على دستور 2014 وترسيخا لحكم فردي مطلق”، فيما ترى قوى أخرى أنها “تصحيح لمسار ثورة 2011”.

أما سعيد -الذي بدأ عام 2019 فترة رئاسية تستمر 5 سنوات- فقال أكثر من مرة إن إجراءاته قانونية وضرورية لإنقاذ تونس من “انهيار شامل”.

توحيد المعارضة وزعامة الحركة

وبخصوص تشتت المعارضة رغم اتفاقها على رفض الاستفتاء ومسار 25 يوليو/تموز عامة، قال الغنوشي إن “المعارضة موحدة في أهدافها، هناك مجموعتان على الأقل تحملان نفس الأهداف وإن لم تتحركا في مسيرات واحدة، فالتلاقي هو مسألة زمن لأن الناس يجتمعون في الأفكار والأهداف ثم تلتحم صفوفهم”.

وحول الانتقادات التي توجه إليه لاستمراره في رئاسة حركته واشتراط بعض القوى انسحابه، أجاب الغنوشي بأن “الأحزاب كيانات لها ماكينتها، ومؤسساتها هي التي تحدد سياساتها وقياداتها”.

وأضاف “لا نتدخل في حزب آخر في أن يبقي هذه القيادة أو تلك، والحركة (النهضة) هي الحزب الوحيد في البلاد الذي أنجز حتى الآن 10 مؤتمرات (عامة) في تاريخه، فيما هناك أحزاب تكونت بل حكمت دون أن تعقد مؤتمرا واحدا”.

وتابع “رئاسة الحركة ورئاسة المجلس أو أي رئاسة أخرى هي أمر هين وقليل أمام مصلحة تونس، ولذلك لو تقدم لنا أي طرف بتسوية للمشكل التونسي تتطلب هذه التضحية منا فهذا أمر يسير، ولكن أن نبادر نحن بالتنازل عن موقعنا فلمصلحة من ولرغبة من؟”

واعتبر تصريح الغنوشي الذي ربط تنحيه عن قيادة الحركة بوجود تسوية سياسية لحل مشكلة البلاد، محاولة لإيجاد مبررات خارجية لاستمراره على رأس النهضة لأزيد من 4 عقود، بوضع شروط تعجيزية.

وقال الغنوشي “ليست لنا مشكلة مع شخص السيد قيس أو مع أي شخص، بل لنا مشكلة مع نمط من الحكم يركز السلطات كلها في يد واحدة (..) لا تغرّنا الكلمات والألفاظ إنما ننظر لجوهر الموضوع: هل الحكم فردي أم شوري؟”.

انتهاك السيادة الوطنية

وبشأن المواقف الخارجية المنتقدة لنسبة المشاركة المتدنية في الاستفتاء على مشروع الدستور (30.5%)، قال الغنوشي “قبل الحديث عن مواقف الدول الغربية من الاستفتاء نحن معتزون بمواقف الشعب التونسي إزاء الانتخابات، إنه قاطعها تعبيرا عن وعيه”.

واعتبر أن “الشعب انتخب سعيد (73%) عام 2019، ونزل به إلى 23% في الاستفتاء (الرقم الرسمي 30.5%)، مما يدل على أن السيد قيس فقد شعبيته التي صعد بها”.

وأضاف “العالم كان توج الثورة التونسية والانتقال الديمقراطي التونسي بجائزة نوبل وجائزة السلام لغاندي وجوائز أخرى كثيرة تسلمها رؤساء تونس وإذا به يُفاجأ بانقلاب.. العالم كما مدح تونس في ذلك الوقت الآن ينتقدها”.

واعتبر الغنوشي أن “السيادة الوطنية تُنتهك في مجالات أخرى.. عندما تشترط مؤسسات دولية على تونس شروطا معينة كأن تغلق المؤسسات العمومية وتمنع التوظيف وتمنع زيادة الأجور ونخضع لذلك لا أحد يقول هذا تدخل دولي”، في إشارة إلى مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي وما يشترطه من إجراءات مقابل مساعدات مالية.

وأضاف “أما عندما ينتقدنا أحد لأننا زورنا الانتخابات ولأننا صادرنا الحريات واعتدينا على حقوق الإنسان نقول دعونا نبطش بشعبنا كما نريد واصمتوا ولا أحد يتدخل”، وفق تعبيره.

الدستور والانتخابات

وبخصوص ماذا ستفعله النهضة بعد إقرار الدستور وتوجه سعيد إلى إقرار نظام سياسي جديد وإجراء انتخابات برلمانية، قال الغنوشي إن “ما حصل من استفتاء لم يغير موقفنا بل أكده، نحن كنا رافضين لهذا الاستفتاء”.

وتابع “هي الثورة المضادة التي تآمرت على الثورة، وعلى مدار 10 سنوات من الثورة اعتبرتها سنوات سوداء وخرابا لتبرر الانقلاب”.

وأضاف “قلنا من البداية سنقاوم، وكنا منذ سنة لوحدنا في ساحة المقاومة، والآن أغلبية الشعب التونسي في حالة مقاومة للانقلاب وما ينجر عنه”، وفق تعبيره.

وبالنسبة لاتهام سعيد معارضيه بالخيانة والعمالة، قال الغنوشي “عندما كنا في الساحة نناضل ضد (الرئيس الأسبق الحبيب) بورقيبة (1956-1987) وضد بن علي لم يكن هؤلاء الذين يصفوننا بالخيانة موجودين”.

وبشأن الدستور الجديد قال الغنوشي إنه “أمر واقع نعم، هذا الدستور وهذا الاستفتاء هما أداتان لفرض أمر واقع لشرعنة الانقلاب، لكنه يبقى انقلابا، ومن واجبنا وواجب الشعب أن يقاوم الانقلاب”.

“حرائق” البيت الداخلي

+ سياق تاريخي

عاد الغنوشي إلى تونس في نهاية عام 1960 ووجد الرئيس الحبيب بورقيبة يتخذ تدابير متعددة لعلمنة المجتمع التونسي، مع دعم الدراسة الدينية في النظام التعليمي لمواجهة التوجهات الماركسية.

وحسب الجزيرة نت، شارك الغنوشي في جمعية المحافظة على القرآن رفقة عبد الفتاح مورو وأحميدة النيفر وحبيب المكني وصالح كركر، الذين أسسوا فيما بعد الجماعة الإسلامية في أبريل/نيسان 1972 في مدينة المرناق جنوب غرب تونس.

كانت المجموعة المذكورة نواة حركة الاتجاه الإسلامي، حيث بدأت التواصل مع المجتمع والنخبة من خلال صحيفة المعرفة (التي صدرت عام 1974) التي اتهم الغنوشي من خلالها الرئيس الحبيب بورقيبة بمحاولة تركيز العلمانية في تونس بمحاربته الإسلام.

اعتقل الغنوشي وحوكم مرات عديدة، فحكم عليه أول مرة بالسجن 11 سنة، قضى منها ثلاثة سنوات (1981-1984) وخرج بعفو عام، فعاد للاحتجاجات والنشاط السياسي، فحكم عليه للمرة الثانية بالأعمال الشاقة والسجن المؤبد عام 1987، وهو ما اعتبره بورقيبة غير كاف وطالب بمعاقبته بالإعدام.

حال انقلاب زين العابدين بن علي يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 دون تنفيذ الحكم، وأطلق سراحه في 14 مايو/أيار 1988.

ندد الغنوشي بالعنف وأكد أن الإسلاميين لن يخترقوا الجيش والشرطة واعترف بقانونية مجلة الأحوال الشخصية واعتبرها في المجمل “إطارا نقيا ينظم العلاقات العائلية”، وقدم في بداية 1989 طلب الترخيص القانوني لحركة الاتجاه الإسلامي لكنه قوبل بالرفض.

ساءت العلاقة مع النظام الجديد حينها، فغادر تونس في 11 أبريل/نيسان 1989 إلى الجزائر بعدما حكمت عليه المحكمة العسكرية مع قيادات أخرى بالسجن المؤبد بتهمة “التآمر” ضد رئيس الدولة، وانتقل بعدها إلى السودان حيث حصل على جواز سفر سوداني دبلوماسي.

+ رئاسة الحركة مند 1991

أصبح رئيسا لحركة النهضة عام 1991 بعد استقراره في مدينة أكتون بضواحي العاصمة البريطانية لندن، حيث حصل في أغسطس/آب 1993 على حق اللجوء السياسي.

أعيد انتخابه عام 2007 رئيسا لحركة النهضة، وبعد 21 عاما في المنفى عاد إلى تونس يوم 30 يناير/كانون الثاني 2011 بعد ثورة التونسيين وإسقاط بن علي، ووجد في استقباله عشرات الآلاف من أنصار الحركة في مطار تونس قرطاج الدولي.

بعد فوز “النهضة” في انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 بتسعين مقعدا في المجلس التأسيسي من أصل 217 مقعدا، رفض أن يتولى أو يترشح لأي منصب، وتمَّ ترشيح حمادي الجبالي لرئاسة الحكومة التونسية الجديدة.

ساهم بعلاقاته وحواراته مع مختلف الأطراف السياسية التونسية في حلحلة بعض الإشكالات السياسية والفكرية المعقدة التي كادت تربك المرحلة الانتقالية، من قبيل مسألة تطبيق الشريعة وكونها مصدرا للتشريع أثناء كتابة الدستور الجديد وغيرها.

وفي الانتخابات التشريعية التي نظمت في أكتوبر/تشرين الأول 2014، حل حزب حركة النهضة في المركز الثاني بعد حزب حركة نداء تونس الذي تصدر المشهد السياسي.

ويوم 22 مايو/أيار 2016 أعاد المؤتمر العاشر لحركة النهضة انتخاب راشد الغنوشي مجددا رئيسا للحركة، وأعلن رئيس المؤتمر علي العريض فوز الغنوشي متقدما على منافسين اثنين بفارق كبير.
وقال العريض إن الغنوشي حصل على ثمانمئة صوت، في حين حصل فتحي العيادي على 229 صوتا، وحصل محمد العكروت على 29 صوتا

+ الحراك الداخلي

لحركة النهضة بنية ديمقراطية داخلية واضحة، وهي تسهر على تنظيم المؤتمرات الحزبية الدورية دون إغفال العلاقة التنظيمية وأحيانا الإنسانية التي تجمع ما بين أنصار الحركة وقادتها، لكن رغم هذا الترابط، لم تكن النهضة بمأمن عن الخلافات الداخلية التي نشأت بين أعضائها منذ ظهور حركة التحالف الحكومي “الترويكا” بعد الثورة، وركَّزت المناقشات حينها على قضايا التحول الثوري، مثل دور “التكنوقراط” غير المُنتَخبين في الحكم، وصياغة قانون العزل السياسي لأعضاء النظام القديم واستهداف السلطات للمتدينين، أكثر من القضايا الكلاسيكية التي ترتبط بالفكرة الإسلامية نفسها وعلى رأسها تحكيم الشريعة.

سيتأكد هذا الاهتمام بالشأن العام في مرحلة ما بعد الثورة خلال مؤتمر النهضة التاسع سنة 2012، حين ظهرت الخلافات الأيديولوجية بين طرف مُتشبِّث بأن تكون الشريعة أساس التشريع في الدستور التونسي، وطرف ثانٍ طالب بمقاربة أكثر مرونة. ولكن سرعان ما اتفق الطرفان على ضرورة مكافحة الفساد وتطهير المشهد السياسي كأولوية قبل الحديث في القضايا الأخرى، ولكن مع مرور السنوات، واشتداد التحديات، خرجت الخلافات الداخلية في الحركة إلى العلن، ولم تقتصر هذه الخلافات على القضايا السياسية أو الأيديولوجية، بل وصلت إلى طريقة تسيير حركة النهضة نفسها، حيث طالت الانتقادات راشد الغنوشي رئيس الحركة، واتهمه بعض المنشقين بالانفراد بالقرار.

وصلت هذه الخلافات ذروتها في سبتمبر/أيلول الماضي، حينما أعلن 113 عضوا من الحركة، من بينهم نواب ووزراء سابقون، عن استقالتهم من مهامهم الحزبية، محتجين على ما سمّوه بـ “الخيارات السياسية الخاطئة لقيادة الحركة”، و”تعطُّل الديمقراطية الداخلية للحركة واستفراد مجموعة من الموالين للغنوشي بالقرار داخلها، وهو ما تسبَّب في عقد تحالفات سياسية غير منطقية بل ومتناقضة مع التعهُّدات المُقدَّمة للناخبين”. كما اعتبر المستقيلون أن قرارات قيس سعيد “غير الدستورية” لم تكن لتنجح ولا لتنال دعما شعبيا لولا الصورة “المُترهِّلة” التي أبان عنها البرلمان، ولولا الإدارة الفاشلة للغنوشي.

وقد علَّق “عبد اللطيف المكي”، القيادي السابق في النهضة ووزير الصحة السابق، على هذا الخروج الجماعي من الحركة بالقول إنه كان بديلا عن عملية الإصلاح من الداخل التي لم تعُد مُمكِنة، مؤكِّدا أن عددا من الأعضاء الآخرين سيلتحقون بركب الخارجين، فيما يأمل البقية بأن يتغيَّر الوضع وتتغيَّر القيادة في الحزب (في إشارة إلى الغنوشي) لتلائم التطلُّعات الجديدة. أما الغنوشي، فلم يخرج كما توقَّع البعض من أجل بخس هذه الاستقالات قيمتها، بل أكَّد أنها ستؤثر على الحزب، لأن النهضة استثمرت لسنوات طويلة في الكوادر التي خرجت، مُعرِبا عن أسفه من أن الأعضاء المستقيلين لم يختاروا الحوار داخل مؤسسات الحركة لإيجاد حل وسط، كما شدَّد رئيس الحركة على ضرورة تطوير مؤسسات النهضة الداخلية لتكون قابلة لاستيعاب الأفكار والتوجُّهات المتنوعة.

يعلم الغنوشي أن التحدي الأكبر الذي يعيشه في الوقت الحالي هو محاولة حشد الجبهة الداخلية لمواجهة الرئيس قيس سعيد الذي يمضي قُدُما في التضييق على خصومه السياسيين، لكن الإشكال لن يقف هنا، فحركة النهضة تقف على مفترق طرق، فقد أنهك الحكم سُمعَتها الداخلية كما حدث في أكثر من تجربة إسلامية بالعالم العربي، دون إغفال مشكلة البحث عن قيادة جديدة تخلف الرعيل الأول الذي أسَّس الحركة الإسلامية التونسية (وهي المشكلة نفسها التي يعاني منها الإسلاميون في العديد من الدول العربية من مصر إلى المغرب)، وهي أزمة وجودية للنهضة ولفكر الغنوشي شخصيا الذي حاول التبشير به منذ سنوات، ويبدو أن الأحداث تختبره الآن، لا في تونس أو داخل أروقة دولتها فحسب، ولكن داخل أروقة حركة “النهضة” نفسها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *