وجهة نظر

التغير المناخي: حرائق هنا وفيضانات هناك.. إنه فعلا مجتمع المخاطر والكوارث

ماذا يحدث على صعيد كوكب الأرض؟ فمن جائحة كورنا المستمرة، إلى التقلبات السريعة للمناخ، حيث بات هذه الأيام كوكب الأرض على صفيح ساخن مع أحداث بيئية متعاقبة؛ فمن موجات الحر واندلاع الحرائق في الغابات بفعل ارتفاع درجة الحرارة، إلى الفيضانات والسيول في منطق شتى من أنحاء العالم، وهلم جرا مما هو قادم لسمح الله من موجات جفاف وبرد قارس.. !

إنه لا شيء يخرج عن المتوقع، فقد تحدث العلماء من عدة تخصصات عن نتائج الحتمية للتغير المناخي، حيث أكدوا عن حتمية هذا التغير، إذا لم تتخذ الاجراءات الضرورية لوقف نزيف البيئة في الوقت المناسب. وها هي المصائب البيئة بات تأتي مثنى، وفرادى، تضرب هنا وهناك بلا هوادة. فما السبب؟ كل ما يصب الانسان في اقليمه من كوارث طبيعة، هو نتيجة متوقعة علميا، والسبب سلوك وتعامل الانسان مع محيطه البيئي، خلال القرنيين الماضيين.

في السياق الحديث عن بعض الأحداث المناخية التي ألمت ببعض الأقاليم في العالم، سنحاول تسليط الضوء على هذا الموضوع بالاعتماد على بعض الأطروحات التي كان موضوعها المركزي المخاطر والكوارث والأزمات المحتملة والمتوقعة في العصر الحديث. وهنا يمكن الإشارة إلى مجموعة من المفكرين وعلماء الاجتماع الذين أولوا اهتماما خاصا بالمخاطر والأزمات المحذقة بالمجتمعات الحديثة.

ينهل علماء الاجتماع في تناولهم للأزمات والمخاطر البيئية من نتائج علماء البيئة والمناخ والمختصين في هذا الحقل، الذين أنذروا حكومات دول العالم مبكرا من تبيعات التغير المناخي الجاري، وعلى ما هو مقبل عليه كوكب الأرض من ظواهر مناخية متطرفة؛ سيكون لها تأثيرات وخيمة على حياة وعيش المجتمعات.

ومن بين الحوارات في حقل علم الاجتماع التي يمكن الإحالة لها ، حلقة الحوار التي دارت حول “حالة الأزمة” في المجتمع الحديث، بين كل من عالم الاجتماع الايطالي كارلو بوردوني(1949-)، وعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان(1925-2017)؛ ففي ثنايا صفحات هذا الحوار، يقول بوردوني، عن حالة الازمة: « ما إن تنتهي أزمة ما حتى تظهر أزمة أخرى أو ربما تكون الأزمة الكبيرة نفسها تتغذى على نفسها وتتغير عبر الزمن، وتحول نفسها وتولد نفسها من جديد مثل كيان فظيع ماسخ يلتهم ملايين البشر ويغير قدرهم، ويجعل ذلك قاعدة الحياة لا استثناءها، ويصير عادة يومية لابد أن نتعامل معها، وليس مجرد مشكلة مزعجة مؤقتة يمكن تخلص منها بأسرع طريقة ممكنة»(1). أما زيجمونت باومان الذي حدد معالم ” الحداثة السائلة”، و”الحياة السائلة”؛ حيث هذه الأخيرة هي «حياة محفوفة بالمخاطر يحياها المرء في حالة من اللايقين الدائم »(2). ففيها صعدت المخاوف البيئية(3)؛ الناجمة عن سوء التعامل مع موارد كوكب الأرض.

ومن أشهر علماء الاجتماع، الذين ربطوا المجتمع الحديث، بمفهوم المخاطر، نجد عالم الاجتماع الألماني اولريش بيك(1944-2015)، الذي قدم نظريته حول مجتمع المخاطر، المعبر عنها، في كتابه الموسوم ب”مجتمع المخاطر”(4). حيث تحدث بيك عن مجموعة من المخاطر التي سيكون لها ما لها من تبيعات على المجتمعات؛ إذ أشار لواقع تدمير البيئة، وظاهرة الاحتباس الحراري، وإلى الظواهر الاقتصادية والاجتماعية، كالأزمة المالية، وأزمة الديمقراطية…إلخ.

لقد أنذر بيك المجتمع الحديث وصانعي القرار بما نحن مقبلون عليه. فأثناء مناقشته نظرية مجتمع المخاطر، يرى بيك، «إننا نعيش في عالم يجب أن يتخذ قرار بشأن مستقبله وفقا لشروط عدم الأمان المصطنعة والمصنعة ذاتيا. ويندرج ضمن هذا كون العالم لم يعد قادرا على التحكم في الاخطار التي تنتج عن الحداثة، وبكلمات أدق: إن الاعتقاد بأن المجتمع العصري يمكنه التحكم في الاخطار التي يتسبب فيها، اعتقاد قابل للدحض_ ليس بسبب الإخفاقات والهزائم التي عرفتها الحداثة، بل بسبب انتصاراتها. فالتغير المناخي، على سبيل المثال، يعد نتاج التصنيع الناجح، الذي أغفل تبعاته على الطبيعة والانسان بشكل منظم.» (5). ويقارب بيك مجتمع الحداثة بمفهوم المخاطرة، والكارثة. يقول بيك حول كلمة مجتمع المخاطرة: «أن كلمة مجتمع المخاطرة، التي وجدتها وجعلتها عنوان لكتابي عام 1986 لا تضع مصطلحا لحقبة من حقب المجتمع العصري الحديث، مجتمع لا يتجرد فقط من أشكال الحياة التقليدية، ولكنه يسخط كذلك على الاثار الجانبية للتحديث الناجح: أي مع السير الذاتية غير الآمنة والاخطار التي يصعب ادراكها وتطول الجميع، ولا يستطيع أحد أن يؤمن نفسه بشكل مناسب ضدها »(6). أما في تحديده للمفارقة بين المخاطرة والكارثة يقول بيك: «لا تستوي المخاطرة والكارثة من حيث المعنى والأهمية. فالمخاطرة تعني التنبؤ بالكارثة. أي أن المخاطرة تتعلق بإمكانية أن تطرأ أحداث وتطورات مستقبيلة، (…) وفي اللحظة التي تصبح فيها المخاطرة واقعا، أي عندما ينفجر مفاعل نووي، أو عندما يحدث هجوم إرهابي، فهي تتحول إلى كارثة. والمخاطر هي دائما أحداث مستقبلية، ربما تكون تنتظرنا وتهددنا. ولكن نظرا لأن هذا التهديد الدائم هو ما يحدد توقعاتنا، ويمتلك عقولنا ويوجه أفعالنا وسلوكنا، فإنه يصبح بمثابة القوة السياسة التي تغير العالم»(7).

من بين أهم الفلاسفة وعلماء الاجتماع المعاصرين الذي انخرطوا في النقاش الدائر حول الأزمات الراهنة؛ الفيلسوف وعالم الاجتماع السولوفيني سلافوي جيجيك(1949-)، الذي انتشرت تحليلاته بكثافة خلال عمق أزمة جائحة كورونا من سنة 2020. يرى جيجيك بأن حياتنا لن تعود كما كانت، و« بأننا نعيش تجربة استثنائية، يمكن أن تكشف عن الأسوأ أو الأفضل فينا، ولمواجهة الوحدة، ربما يكون الحل الأمثل هو المضي قدمًا في روتين يمنعنا من الاستسلام للفوضى والحفاظ على النظام لنكون على استعداد للغد»(8).

من خلال التصورات السابقة، يبدو جليا أن هناك من أنذر العالم مبكرا حول مآلات تغير المناخي على كوكب الأرض، وقدم مجموعة من الدلائل على نوعية التحديات التي من شأنها أن تقلب حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية رأسا على عقب، ويحسب لأولريش بيك؛ رسم خريطة طوبولوجيا المخاطر الكونية(9): “الأزمات الايكولوجيا(البيئية)”، و”الأزمات المالية الكونية”، و”الأخطار الإرهابية”…إلخ.

ها هو مشهد اختلال البيئي اليوم، يضرب في شتى مجالات وأقاليم الأرض، ولا يستثني لا دول الشمال ولا دول الجنوب الكلي على صعيد واحد، ففي دول أوروبا وامريكا وشمال افريقيا موجة حر، وحرائق؛ كانت وراء عشرات الضحايا، والتهمت آلاف الهكتارات…إلخ. وفي مناطق اخرى سيول وفيضانات لا تبقي شيء امامها واقفا، كما حدث مؤخرا مع بعض دول أسيا وافريقيا، ضحايا الغرق بالعشرات، تدمير بالنيات السكنية، دفع السكان نحو النزوح…وهلم جرا من تبيعات الكارثة.

منذ سنوات والأمم المتحدة، تأخذ مسألة المناخ على محمل الجد، وتطلب الحكومات ودول الصناعية الانخراط في مشروع انقاد الكوكب من التدهور البيئي. وعقدت لذلك مجموعة من القمم؛ كان أهمها حسب رأي البعض، قمة المناخ بباريس سنة 2015. أو اتفاق باريس حول المناخ؛ الذي شكل بريقة أمل للكوكب، هذا الاتفاق الذي أشار إلى خطة تتعلق بخفض انبعاثات الكاربون والغازات دفيئة في الجو. لكن هناك من قادة الدول الصناعية الكبرى، من يرى في التزام بسياسة المناخ مجرد مؤمرة على اقتصادات تلك الدول…إلخ. أصيب مناصري كوكب الأرض والبيئة بالصدمة جراء اعلان رئيس أقوى دولة في العالم، رئيس الولايات المتحدة الامريكية_دونالد ترامب_ في فترته الرئاسية من الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ.

إن ما نحن عليه من وضع بيئي اليوم، هو نتاج قرنين من طرح الكاربون. فالتلوث الحاصل على صعيد الكوكب هو ناتج عن النشاط الصناعي، الذي يستخدم الطاقات غير المتجددة(الفحم، البترول، الغاز الطبيعي…). هذه هي رواية العلم. ومنذ سنوات وعلماء المناخ وخبراء البيئة، يقدمون، دراسات استشرافية تؤكد على أن واقعة تغير المناخي حقيقة علمية غير قابلة للشك، ويقدمون محاكاة لوضعيات مجالية معينة، تقرب الصورة لصناع القرار، من أجل فهم ما يحدث في كوكبنا. لكن هذا الخطاب العلمي، تم تعامل معه من قبل البعض بنوع من الاستخفاف ربما؟

وكان أكثر من استجاب لخبراء العالم فيما يتعلق بالبعد البيئي، هيئات ومنظمات المجتمع المدني في العالم، حيث أصبح النضال البيئي أحد أوجه الحركات الاجتماعية في جميع دول العالم. حيث ساهمت هذه المنظمات والهيئات في نشر ثقافة الحفاظ على البيئة، وضغط على صانعي القرار في بعض العواصم من أجل سن تشريعات تحترم البيئية. كما نجد مجموعة من القنوات والمنابر الإعلامية والانتاجات التلفزية من برامج وثائقية، وأفلام سنيمائية وأعمال درامية، صلب موضوعها تدور عن حقيقة تغير المناخي.

في هذه الأيام، ونظرا لواقع هذا الصيف الساخن، حيث لا تجد نشرة إخبارية بدون نبأ عن حرائق الغابات، أو السيول والفيضانات، أو جفاف الأنهار …وهلم جرا، من الأحدث البيئية التي ضرب أقاليم عدة من دول العالم. تجددت الدعوات من قبل هيئات ومؤسسات، تدعوا إلى الاصطفاف والاتحاد من أجل سلامة كوكب الأرض، فالشواهد ووقائع التغير المناخي ها هي تضرب طولا وعرضا في أقاليم العالم. فهل من مستجيب؟

يؤكد علماء التغير المناخي، على أن كوكب الأرض لا ديبلوماسية معه، فهو يسير نحو نقطة اللاعودة، تلك النقطة التي حذر منها العلماء، حيث لا ولن يكون هناك هامش للمناورة أو التحكم في مفاصل الفوضى المناخية، إذ تم تجاوز نقطة الاحتواء، وبتالي سنكون في حالة انتظار الكارثة وفقط. حيث تتوقع بعض السيناريوهات أن تكون بعض الكوارث لا سمح الله، أسوء من كوارث عدة مرت على كوكب الأرض، و”على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.

السؤال المهم، من سينقد كوكبننا من ارتفاع درجة الحرارة، والغرق والجفاف…؟ هناك من يقول، الابتكار والتحول نحو الطاقات المتجددة، والحد من انبعاث أكسيد الكربون بنسب معقولة. وفي حالة ما لقدر الله أن استمر الوضع على ما هو عليه؛ من سيدفع الثمن؟

من المفارقات والتحليلات في قراءة نتائج الكوارث مسباقا؛ أن الدول التي لا ناقة لها ولا جمل في تلوث المناخي، هي من ستنعكس عليها الأزمة بشدة، ومن بين المجالات مجالات العالم الثالث؛ حيث البنية التحتية لدول العالم الثالث غير مهيئة لتحمل تطرف الاحوال الجوية والمناخية؛ فاذا كان العالم الأول بكل امكانياته المتاحة والمتوقع بناؤها مستقبلا، سيلقى قدرا وفيرا من الأضرار والتحديات جراء تقلب المناخي، فما بالنا نحن أبناء العالم الثالث، هل سنصمد امام السيول والحرائق والحر، والجفاف…مع العلم انه من ملامح مجالاتنا غياب الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء الشروب، ومباني السكن المهيئة ضد المخاطر المجالية…إلخ.

هل الأسوأ وقع؟ وهل هو قريب أم بعيد حدوثه؟ هناك اشياء لا تقال، دئما تبقى طي الكتمان ومحجوبة عن العامة. حتى لا يذعر الناس ويتصرفون بشكل غير مرغوب فيه.

نختم، بالإشارة إلى احد حلقات احدى المسلسلات الامريكية الكوميديا(مسلسل The Newsroom، حلقة الثالثة من الموسم الثالث: من الدقيقة33 إلى 37)، ففي

هذا المشهد الممتد لحوالي 4 دقائق من الحلقة، يقدم تصورا عاما عن مسألة تغير المناخي بشكل كوميدي ومريب في نفس الوقت؟؟

…………..المراجع………..

(1) للمزيد حول الموضوع أنظر: النقاش الدائر بين عالمي الاجتماع باومن وبوردوني في: زيجمونت باومان و كارلو بوردوني، حالة الأزمة، ترجمة حجاج أبو جبر، ط1(بيروت، الشبكة العربية للأبحاث وانشر، 2018)، ص 15.
(2) زيجمونت باومان، الحياة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، ط1(بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016)، ص 22.
(3) زيجمونت باومان، الحياة السائلة، المرجع السابق، ص 33.
(4) أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي: بحثا عن الأمان المفقود، ط1 (القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2013).
(5) أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي: بحثا عن الأمان المفقود، المرجع السابق، ص 29.
(6) أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي، المرجع السابق، ص 30.
(7) أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي، المرجع السابق، ص 33.
(8) للمزيد أنظر الرابط على موقع الجزيرة: https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2020/4/8/%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D9%8A%D8%AD%D8%B0%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%B4%D9%8A%D9%88%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9
(9) أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي، المرجع السابق، ص 41.

إسماعيل الراجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *