منتدى العمق

العلماء والاستعمار

لازال البحث في التاريخ الاجتماعي يكتنفه شح الأبحاث التي اهتمت بالبنيات الاجتماعية، وهو الأمر الذي أرجعه عديد الباحثين إلى صعوبة البحث في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمغرب، بسبب تعقد تشكيلته الاقتصادية والاجتماعية. ومن البنيات التي لا تزال يكتنفها الغموض فئة “العلماء” بالمجتمعات الإسلامية ومنها المغرب، خاصة خلال الفترات المعاصرة على وجه التحديد.

لم يتناول الباحثون المستشرقون الذين درسوا “التاريخ الإسلامي” أو “المجتمع الإسلامي” موضوع “العلماء” باعتبارهم مجموعات متجانسة اجتماعيا وفكريا، بل في إطار بنى اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، مما جعل “الدِينَ” -الإسلام- عاملا تاريخيا ثانويا في المسار التاريخي. هذا الاتجاه سيتراجع لصالح تيار جديد ظهر خلال ستينات القرن العشرين، مزود بمناهج معرفية ومقاربات جديدة قاربت الموضوع من اتجاهات متعددة، كديناميتهم الاجتماعية أو ردود فعلهم من التيارات السياسية والثقافية المعاصرة.

على هذا الأساس، يمكن القول إن موضوع “العلماء” -كما أشار إلى ذلك أحد الدارسين- لم يدرس إلا عرضا أو في سياق محاباة الإنسان لذاته. كما أن “الدِينَ” لازال يلعب دورا تاريخيا جديرا بالاهتمام والبحث، نظرا لتفاعله مع مختلف العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، خاصة في المجتمعات الاسلامية.

لقد حظيت فئة “العلماء” طيلة تاريخ المجتمعات الإسلامية، بدرجة عالية من الحظوة الاجتماعية بوصفهم صفوة المجتمع والمتحدث باسمه، باعتبارها تستمد مشروعيتها من المرجعية الدينية، وباعتبارهم “ورثة الأنبياء” وكونهم سلاطين بدون تيجان، يتحلق حولهم العباد في المساجد والمدارس والزوايا. وفي تاريخ المغرب، حظيت هذه الفئة -ومنذ عصر المرابطين- بدور بارز في التوجيه والتأطير الديني والسياسي، إذ عمدوا الحفاظ على الأصالة المغربية والتراث الحضاري الإسلامي، بل إنهم حافظوا على خصائص شرعية الدولة بوصفهم أوصياء على مصالح الأمة، ففي حالة إهمال السلطان لواجب صيانة الأمة، كان من حقهم استبداله بمن يستحق الجلوس على العرش.

ولاغرو، فقد حددت الآراء الفقهية والفتاوى الشرعية طبيعة العلاقة بين سلاطين المغرب وعلمائه، إما بصورة صراع ومعارضة تلزمها العقوبة، أو صورة توافق الرأي وخدمة المصلحة واستشارة، يتحدد فيها الرأي بالقبول أو الرفض دون ردة فعل قاسية.

وإذا كان تدخل العلماء قبل الاستعمار، رهين نوازل وقضايا متعددة، فإن اصطدام المغرب المباشر بأوربا، دفعه إلى ضرورة الدفاع عن حرمة البلاد وتصديهم للغزو الأوربي(مابين سنة 1830 التي تشكل أول تدخل مباشر بمنطقة المغارب، و1956 سنة حصول المغرب على استقلاله). ولم يكن ذلك سوى دور طبيعي وأساسي ضمن نطاق مسؤوليتهم، وبحكم فاعليتهم في توجيه الأحداث التي عرفها المغرب طيلة القرن التاسع عشر وبداية العشرين، وإلى حدود استقلاله. رغم الهزات التي تعرض لها العلماء فترة الحماية، لاسيما بعد ظهور نخبة جديدة صنعها الاستعمار تقوم ببعض الأدوار التي كانت حكرا عليهم، كما إنبنت وجهات نظرهم على واجب صيانة الجماعة الإسلامية من التفتت والتلاشي الذي يؤدي إلى الاضمحلال.

على هذا الأساس، نشأ فكر الاستعداد للمواجهة ضد الوجود الأوربي لإبعاد الخطر الذي لا يتم إلا بتكوين حزام وقائي وتخليص الوضع الداخلي من الأزمات التي يعيشها، والتي لم يزدها التقارب والاحتكاك والأخذ بالقوالب الأوربية إلا تعقدا واستفحالا، بعدما أخذت البلاد تخطوا نحو الهاوية وأصبحت تتحقق التكهنات التي تنبه إليها العلماء.

ولا مراء من أن الاستعداد شكل مفردا حضاريا، يندرج من مضمون العسكرية الخاصة بالحشد العسكري والتهيؤ للمواجهة العسكرية، إلى مضمون التغيير للمواجهة الشمولية على جميع المستويات، كما يندرج مضمون الاستعداد من الدلالة التقليدية إلى الدلالة التحديثية، مما يفيد أنه مفهوم تطورت من  خلاله أفكار العلماء مع تطورات العصر.

إزاء هذا الوضع، قام العلماء الرافضين للتدخل الأجنبي، بالتحريض واستنهاض الهمم وتزعم حركة المقاومة والجهاد، فالتفت حولهم القبائل باعتقادهم أن مواقفهم مبنية على الكتاب والسنة، ملتزمين بفتاويهم ذات الصلة بالجهاد والهجرة إلى آخر نفس ومهما كلفهم الأمر من تضحيات.

كما أكد موقف العلماء أن التدخل الأجنبي سبب تعاسة وانحطاط المغاربة، فأنكروا أية فائدة من الاتصال به، وعندما اشتد عوده على بلادهم لم يجدوا سوى المجاهرة بالدعوة إلى مقاومته بشكلين متكاملين: الدعوة إلى الهجرة، والدعوة إلى الجهاد.

ولاشك أن موفق الرفض للأجنبي والدعوة لمواجهته، انبنت على مواقف علماء السلف –وعلى رأسهم الونشريسي- وانطلاقا من المرجعية الدينية التي تنبني عليها أفكارهم ومواقفهم. كما أن علماء الجنوب، كانوا أكثر مبادرة لمناهضة الأجنبي من نظرائهم في المدن -الذين كانوا بعيد معركة إيسلي قادة لفكر الاستعداد- وهو ما مثله موقف “الكتاني” صاحب كتاب “نصيحة أهل الإسلام” المناهض للأجنبي، حيث كانوا قادة للمعارك سواء في قيادة المجاهدين أو عن طريق التحريض على الجهاد بالتأليف.

عموما، العلماء المغاربة واجهوا التدخل الأجنبي مواجهة فكرية -أبرزتها كتاباتهم ومؤلفاتهم- ومواجهة مسلحة، أوضحتها مشاركتهم في قيادة المعارك أو إثارة حماس المجاهدين عن طريق المؤلفات التي كتبوها، وهذا يفسر بشكل أو بأخر المقاومة الطويلة التي لقيها الفرنسيون والاسبانيون، والتي امتدت على الأقل إلى سنة 1934.

على غرار المواقف التي عبرت عن رفضها ومواجهتها للتدخل الأجنبي، برز موقف أقل تصلبا من الاتجاه الأول، حاول التعاون مع المستعمِر، إما من منطلق نفعي شخصي أو وطني، أو بناء على ما عاناه بعض العلماء من تهميش، ووجدوا في الحماية فرصة للبروز وإبداء الرأي وتأطير المجتمع انطلاقا من توجيهات خارجية استعمارية، بغية التمكين للحماية الاجنبية في وطنه.

ولم تخرج مواقف مجموعة من العلماء عن هذا الإطار، فقد فضل “أحمد بن المواز” أحد محرري “البيعة الحفيظية”، و”أحمد الصبيحي” و”عبد السلام بنونة”، التعاون النفعي مع سلطات الحماية، وأعطوا فكرة الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي أولوية في تصوراتهم لتهيئ جيل تسند إليه مسؤولية النظر في مصير البلاد بعد الحماية، فكان منطلقهم أن الاستعمار بمعناه اللغوي يعني: الإعمار والإنتاج. فالاستعمار في تصوراتهم بني على حفظ الشرع والعوائد، فأصدروا مجموعة من الفتاوى التي تبيح التعامل مع أوراق البنك والتعامل بالتأمين، والاستناد إلى الوسائل العصرية مثل التلفون والتلغراف في نشر الخبر الديني، وهو الأمر الذي اعتبره علماء آخرون حرام. كما كانت فتاواهم تلك تصوغ أن لا تعارض بين “الدِين” والمدنية، وبالتالي فلا يجب على المسلمين رفض الحماية جملة وتفصيلا، بل أن يأخذوا منها ما يهيئون به أنفسهم للتخلص منها في مرحلة لاحقة، وطالبوا بإلحاق أبنائهم بالمدارس العصرية.

هذا الموقف المعتدل الذي رضي بالأمر الواقع، كانت سمته في البداية أن ينفتح على العصر وعلى المستجدات، رغم أن مواقفه بدأت تتحول إلى نوع من التطرف المعتدل بعد تجاوز الحماية لما التزمت به. فآلت مواقف هؤلاء العلماء إلى معارضة مخططاته ومناهضته.

لقد انبنى موقف العلماء المهادن للتدخل الأجنبي على أساس فرض الأمر الواقع، القاضي بقوة أوربا وضعف المغرب، فحاولوا الاستفادة قدر الإمكان من الأجنبي والتعامل معه باعتباره المخرج الوحيد من الأزمة التي يعيشها المغرب قبيل احتلاله.

الواقع، أن العلماء المغاربة لعبوا دورا أساسيا في التطور التاريخي للبلاد، عن طريق بلورة فكر الحركة الوطنية واحتضان أبنائها، بل قيادتها إلى استقلال البلاد. بالرغم من تقلص وظيفتهم التاريخية بعد أن صنع الاستعمار نخبة جديدة، ذات تكوين جديد تنافسهم في مهامهم ووظائفهم ومواقفهم.