وجهة نظر

الحوار الوطني حول التعليم

إن مسألة الإصلاح التعليمي بالمغرب تحتاج إلى إرادة سياسية تقتضي أولا فهم الواقع التعليمي وتشخيص مشكلاته من خلال مشاركة ديمقراطية لكل المتدخلين والمعنيين بالقطاع في القرارات والاستراتيجيات والسياسات.

فبالرغم من التجارب والمحاولات السابقة حول إصلاح التعليم، مازال تعليمنا بعيدا المنال عما يطمح إليه المغاربة ، لأن الرتب المتأخرة التي يحصل عليها المغرب سنويا بناء على تقارير عدة ، منها تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية، تجعل محاولات الإصلاح المتكررة للنظام التعليمي ، التي باشرتها الحكومات السابقة، لم تحقق النتائج المرجوة ؛ رغم الجهود والموارد المالية المستنزفة ، مما يدعو الجميع إلى الانخراط الفعلي لإيجاد حلول ناجعة لهذا القطاع الحيوي ، قوى سياسية ، هيئات نقابية ، مجتمع مدني بما فيه جمعيات أمهات وآباء و أولياء التلميذات و التلاميذ و نساء ورجال التعليم بدون استثناء ، لإجراء حوار وطني حول إصلاح التعليم ، وهي خطوة ضرورية لمستقبل مصيري لقطاع حيوي بالمغرب.

ومن الموضوعات التي يجب أن تكون محط تساؤلات على مائدة الحوار: أي نوع من التعليم نريد؟ وما هي النماذج الدولية المتقدمة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال ؟ وكيف نرسم الأهداف حتى نصل إلى تعليم متقدم ومتطور؟ وماهي المناهج والوسائل والآليات التي قد تساعد على تحقيق تلك الأهداف ؟ وكيف نجعل من التربية والتعليم سبيلا لإعادة بناء الشخصية المغربية لتسهم في بناء الوطن؟

إن التربية والتعليم هما أساس نهوض الأفراد والمجتمعات، فهما من يكونان قيم الفرد ومسئولياته ومبادئه، و يضبطان سلوكياته وأفعاله، وبالتالي فقضية تطويرهما يجب أن تكون في أجندة القضايا المطروحة على الحوار المحتمل.

ونشير أيضا إلى أن العقد الأخير قد شهد بعض مظاهر تطوير أساليب التعليم مثل الاعتماد على التكنولوجيا فى التعليم ومنصات التعلم عن بعد، و هي أمور تستوجب تطوير المناهج وطرق التعلم للانتقال بالتعليم المغربي من تعليم يعتمد- في أغلبه – على المناهج التقليدية إلى التعليم الذي يعتمد على البحث والابتكار والتكنولوجيا الرقمية ، من خلال مع وضع برامج ومشاريع تعزز مكانة التعلم الرقمي والاستفادة من مجالات الثورة الصناعية.

وحتى يكون للحوار الوطني نتاجات طويلة المدى تخدم الوطن ومستقبل أجياله القادمة. كما أن نجاح الحوار الوطني يتطلب تحقيق حد مقبول من الإجماع حول قضايا رئيسية و مصيرية تشكل قاعدة للنهوض بالاستثمار في العنصر البشري عن طريق التربية و التعليم ببلادنا وبناء عقول أبنائنا ومستقبلهم في عالم الغد. فبعض البلدان حققت طفرات في التنمية لكونها استثمرت في العنصر البشري الذي يختزن داخله طاقة متجددة و جبارة، من خلال التربية و التعليم ، انطلاقا من المدرسة التي توفر الخدمات البشرية و الأطر المؤهلة لقيادة البلاد وإحداث التغيير.

وهناك أمثلة عديدة في هذا الصدد ، نذكر منها مثلا التجربة اليابانية في مجال التعليم ، لكونها تجربة رائدة على المستوى العالمي، انطلقت منذ عهد الإمبراطور “ميتسوهيتو” ، سنة 1868م . و التجربة الماليزية في ميدان إصلاح التعليم ارتكزت على استراتيجية إصلاحية تمتد على مدى عشرين عاما، و تنبني بالأساس على تأهيل العنصر البشري . وفي كوريا الشمالية يعد المعلم بطل العمل، حيث ارتفعت نسبة الكوريين الشماليين القادرين على القراءة و الكتابة من أقل من %50 في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي إلى %90 في أوائل التسعينيات منه. و فنلندا التي أصبحت بلدا ذا اقتصاد معرفي متقدم في ظرف ثلاثة عقود، من خلال إتاحة الفرص للجميع في كل مستويات التعليم و في كل مناطق البلاد ، و كانت نتيجة ذلك أن أنهى %99 من الفنلنديين التعليم الأولي و الإلزامي، و أنهى %95 منهم التعليم الثانوي، و أصبح %90 منهم يتوجه إلى التعليم ما بعد الثانوي.

فالحوار الوطني حول التعليم يظل ضروريا و لا محيد عنه من أجل تطوير التربية والتعليم ببلادنا . وهذا يقتضي وضع خطط استراتيجية وبرامج كبرى تولي عناية لتجديد التعليم، والمساعدة على القيام بعمليات تجويد وإصلاح منهجية ومنظومة نسقية لنظم التعليم تشمل كل مكوّناتها ، والاستفادة من التعلّم الرقمي ومستجدات الثورة الصناعية الرابعة ، و تحسين وضعية نساء و رجال التعليم و توفير لهم الوسائل الضرورية لإنجاز عملهم في أحسن الظروف و الأجواء .

وأخيرا، فإننا نرى أن السياسات العمومية أو الاختيارات الوطنية المتعلقة بقطاعات التربية والتكوين والبحث العلمي لن تحقق أهدافها ما لم يكن هناك حوار وطني يسهم فيه كل المتدخلين والمعنيين بهذه القطاعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • مصطفى هطي
    منذ سنة واحدة

    يفترض أن يكون أي قانون إطار يريد القطع مع مزاجية الوزراء في تدبير القطاع، مثل القانون الإطار 17.51 للتربية والتكوين، أن يكون محل إجماع وينهي الجدل عند تطبيقه. لكن هذا لم يحدث وسيبقى هذا الجدل وراءه بسبب لغم الهندسة اللغوية فيه. لقد نص الدستور المغربي، في التصدير على مجموعة من الالتزامات منها: "تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والاسلامية، وتوطيد وشائج الأخوة والتضامن مع شعوبها الشقيقة"(دستور المملكة المغربية 2011 التصدير ص 3) . وهذه الفقرة تحيل على معطيات اجتماعية وثقافية هوياتية، تقوم فيها اللغة بدور حاسم لكونها أحد أهم محددات الهوية والثقافة من المنظور الحديث، كما أن كل لغة تمتلك نسقا مفهوميا خاصا يعكس رؤية متكلميها للعالم (انظر سابير، وووف نقلا عن أحمد الشارفي 2017 ص 469)، وتُعتبَر اللغة والثقافة جزء جوهريا من هذه الرؤية. بالنظر إلى أن اللغة وحدة اجتماعية وثقافية، حيث إن عيش الإنسان في جماعات هو الذي فرض "وسيلة غاية في التعقيد، مثل اللغة، للتواصل فيما بينهم" (أحمد الشارفي، 2017، اللغة واللهجة مدخل للسوسيو لسانيات العربية، الجزء الأول)، فإن أحد أهم مداخل تطبيق هذا الالتزام الدستوري المتعلق بتعميق الانتماء للأمة العربية والاسلامية، هو اللغة العربية، كونها اللغة التي تمكن الشعوب في جغرافيا العالم العربي والاسلامي من التواصل، والتعرف على ثقافات كل بلد، في ظل التعدد اللهجي الكبير الذي يحول دون تواصل فعال بين هذه الشعوب. لذلك حاول الفيلسوف الألماني هابر ماس 1970 "الاستدلال على أن إقامة تراض عقلاني في جماعة ، حول عدد من المسائل المتعلقة بالواقع أو القيمة، يقتضي وجود ما يسميه "الوضع الكلامي المثالي"(عبد القادر الفاسي الفهري، 2013، السياسة اللغوية في البلاد العربية،دار الكتاب الجديد المتحدة، الطبعة 1 ، ص 104). ونعتقد أن اللغة العربية المعيار في الجماعة التي يؤكد الدستور على تعميق آواصر الانتماء إليها، هي اللغة العربية المعيار التي تمثل الوضع الكلامي المثالي صرفا وتركيبا ودلالة ومعجما بين مختلف الدول العربية والاسلامية، مما يحتم النهوض بها للوفاء بهذا الالتزام. ذلك أن وضع تشريعات "تحدد أين وكيف ومتى يتم استعمال لغة أو لغات ما " غدا ضرورة ملحة، وخصوصا في "التربية والإعلام على الخصوص"( المرجع نفسه ص117). والمطلع على أغلب دساتير الدول العربية يجدها تتفق حول مبدأ وضع تشريعات تحدد كيفية توظيف وتنمية اللغة العربية المعيار، والدستور المغربي لسنة 2011 واضح في هذا الإطار. فإذا لم يتم تدريس العلوم باللغة العربية فكيف تقوم بهذا الدور الذي نص عليه الدستور؟ أليس حريا بالقانون الإطار للتربية والتكوين أن يبقى وفيا للدستور؟ وإذا لم نستطع تحقيق فعدم المصادقة على ذلك القانون أفضل من المصادقة عليه بتلك المادة المتعلقة بالتناوب اللغوي التي تفجر القانون من الداخل وتقضي على كل إيجابياته. إن تأمل نتائج امتحانات الباكالوريا اليوم يكشف لنا حجم الظلم والغبن الذي يلحق بشرائح واسعة من أبناء المغاربة في المغرب العميق والعالم القروي وكل الأسر التي ليست لها القدرة على مجاراة تدريس العلوم بالفرنسية. فضلا عن الإشكال الحضاري العميق لربط مدارسنا باللغة الفرنسية ووضع خريجيها رهن الفضاء الفرنكفوني وضياع الأدمغة. مصطفى هطي. #خارطة_إصلاح_التعليم

  • مصطفى هطي
    منذ سنة واحدة

    "إن الذين يدبرون ملفات التعليم عندنا مشدودون إلى فضاء حضاري آخر لا علاقة له بهموم الأمة وبِمُمِكناتها. إنهم مهووسون باستيراد النماذج الجاهزة في كل الميادين، بما فيها اللغة، فهم يعتزمون الآن استيراد اللغات الأكثر مردودية في السوق على حساب لغة وطنية هي التي صنعت جزءا كبيرا من تراث هذه الأمة" سعيد بنكراد. وتحملني حيرتي وظنوني، سيرة التكوين. ص115. إحلال اللغة الإنجليزية محل اللغة الفرنسية لن يحل لنا المشكل مطلقا، إذ السؤال هل سندور مع اللغات حيثما انتشرت إحداها وتقلصت الأخرى؟ بهذا المنطق فاليوم مع الإنجليزية والغد مع الاسبانية وبعدها الصينية وهكذا!! مصطفى هطي #خارطة_إصلاح_التعليم