منتدى العمق

ملحمة الأسود

دوي الطبول وزئير الجمهور المغربي جعل المباراة تنطلق بدقائق قبل صافرة البداية. صار للهواء وزن يثقل صدر كل مشاهد، فيحس الجميع برغبة جامحة في الهتاف، وسرعة في الانفعال. يدخل الأسود للميدان الأخضر فتراهم يرددون تشيدهم الوطني معلنين أن الملعب عرينهم. تشير الساعة إلى الرابعة مساءا عند كل المغاربة، معلنة عن انطلاق عملية الصيد.

تبدأ الكرة بالدحرجة بانتظام عنيف، وسرعان ما يهيج كل من بالميدان دفعة واحدة. مد وجزر أشد رهبة من ذاك بالمحيط. تارة تدافع الأسود بشهامة وثقة عن معقلنها، وتارة تراها تمرق كالسهم بين صفوف غرائمها، مكشرة عن مخالب تتحدث بلغة الخطر والتهديد.

لا يقل غريم الأسود ضراوة عنهم، بل يبين عن بأس شديد وتاريخ عتيد من المجد. فتبدو هجماته كأمواج ثابتة غير آمنة، لكنها لم تكن كافية لاخراس حناجر الأسود. الجماهير تتذكر ثقة ثمرة الأفوكادو الحكيمة التي أوحت أنها لا تستهين بالغريم وتحترم تاريخه، وتتوعده بتكشير كل الأنياب وكل المخالب. فيقوم بوفال، أسد الجناح الأيسر بمناورات ذكّرت الإسبان بالكر والفرّ في معركة أنوال. والتي تعلم منها الإسبان أن لا يستهينوا بأسود الجبال. بينما يلهوا حارس الأسود بمصير كل المشاهدين بنزواته الغريبة، فيكاد يخطئ، لكنه يصيب.

يعطي الحكم صافرة بداية الشوط الثاني دون أن يرتاح جفن للأسود، وكأن القدر ابتلع دقائق ما بين الأشواط برضى الجميع. وتستمر المباراة باستحواذ الإسبان على ميدان الصيد، يهب في المباراة نسيم ينذر بالسوء. بينما لا يتزحزح ثبات الأسود قيد أنملة.

تمر الدقائق بسرعة تنافي قواعد المنطق والعلوم. وفي كل لحظة، يزداد مد الإسبان تهديدا واستعمارا للعرين. تستقر المعركة باستحواذ المستعمر، لكن دون أية جدوى تذكر. ثم تصيح حبة الأفوكادو بوحي طال انتظاره…

فجأة، يتغير اتجاه الرياح بما لا ندري، أبما تشتهيه سفن الأسود؟ أم أن الوضع سيزداد سوءا؟ تختلط المشاعر بينما تقترب عملة الصيد من نهاية شوطها الثاني. وترى محاولات الأسود تزداد حدتها رويدا رويدا، فيعود جزْر الأسود لينافس مدّ الغريم.

يتصبب العرق من المدربَين وكأنهما مَن يقومان بالصيد. فيحولان المباراة من منافسة عدوٍ وقنصٍ إلى تكتيك. ويستمرّ حارس الأسود ومُرابطهم في إنقاذ مقرّهما من محاولات غادرة لا ترحم. ثم يوقف الحكم النزيه المباراة، لم يكن الشوطان كافيين لتحديد الظافر بالميدان، فأعلن عن شوط ثالث لعلّه يحسم النتيجة. وتنطلق صافرة الشوط الإضافي فترى الأسود أكثر عزما، يهيمن الأسود في تلال الجماهير مثبّتين أزر أسودهم، بينما يستمر الغريم في الغدر.

تدخل المباراة دقيقتها المائة. فيستدعي الغريمون كل وحوشهم الضارية، وينهالون على دفاعات الأسود بمحاولات الصيد. وما أن يتسلل القلق والخوف صفوف الجماهير المغربية، حتى يقرر عرين الأطلس أن يشعل زخم الجماهير بهجوم نبيل، يذكر المستعمر أنه خوفٌ عليهِم وأنهم قد يحزنون. ثم يعود بهم المد للدفاع بضراوة وشجاعة.

يتراطم مرج البحرين الملتقيين في الشوط الحاسم، وتعلو قوانين الغاب فوق الجميع، أن تَقتل أو تُقتل، أن تكون الصياد أو تكون الفريسة، خطأ واحد قد يكلّف الكثير. تضمّد الأسود جراحها دون أن تتكئ، مستمرة في المقاومة والصمود، بينما يدخل الجمهوران في حالة مخاض رهيب.

يحضر قاضي المعركة مناديا بالحسم، سيهاجم الفصيلان الآن بعدل، وواحد منهما فقط من سيظفُر. ركلات الترجيح تهددهما بتكافئ. لا ناقة للحكم الآن ولا جمل. لحظة ما قبل الفوز أو ما قبل الخسارة، إن للنهاية لسكرات.

بكل هدوء يسجل الأسد أولى الترجيحات فيصيب بها كرامة الحارس بروّية. فتصيح الجماهير دون هوادة. ثم يفتر جميع الصياح دفعة واحدة. إنه دور الإسبان في التسديد. يعود التردد وتعود الريبة، يسدد الإسبان الكرة، فتصيب العارضة. يظهر جليا للأسود أن الخوف قد نال من الغريم فيأبى إلا أن تسكن كراته الشباك، وفي كل هدف لهم وكل دفاع ناجح، تَسمع هزيم الجماهير المرعب.

بدت ركلات الترجيح وكأنها ما خططت له ثمرة الأفوكادو منذ البداية. فابتسامة الأسد الحامي بونو كانت كالأغلال في أقدام الخصوم. لقد بسط سيطرته على المرمى من شرقه لغربه واستمر في كسر عزيمة رموز الهجوم الاسباني، تماما كما الخطابيُّ في جبال الريف. في ميادين الحروب أو ملاعب الكرة، التاريخ يعيد نفسه.

يفوز المنتخب المغربي، فتهتز السماوات السبع والأراضين. وتزأر كل الحناجر المغربية بفرحة لا نظير لها، بينما يخطوا الأسود لغرفة التاريخ ليعيدوا كتابته بكل جرأة واستحقاق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *