منتدى العمق

“علاش الحكرة” ؟

إن الاحتجاج فعل وممارسة ينمّان عن خلل في المشهد السوسيوسياسي،فالاحتجاجاتُ ممارسة تنشدُ إعادة التوازن إلى النّسق وما اختل وتوعّك من أوضاعه، إنها إجابة عمليّة موضوعيةعن الحرمان النسبي أوالمطلق للمحتجين والمقهورين الذين لا يجدون سوى حناجرهم المبحوحة للتعبير عن أوجاعهم .. إذ لسان حالهم يقول؛نحنهنا نحتج لأننا لدينا مشاكل،فلا احتجاج بدون مشاكلوأعطاب اجتماعية، إذ الأخيرة من مولدات هذا الفعل بالضرورة والفعل الاحتجاجي يختلف حسب تضاريس المجتمعات، فاذا كان الاحتجاج في الدول الثالثية من أجل الخبز ورفع العسف أي من أجل الحاجّي الضروري بعبارة ابن خلدون صاحب “المقدمة” قد يكون احتجاجا في الدول الشمالية من أجل حقوق المثليين الجنسيينوالبيئة ..(مرحلة الاستمتاع الحضاري).

إن الفعل الاحتجاجي فعل لا ينبغي النظر إليه باعتباره حدثا عارضا أومعزولا عن عناصر النّسق والسياق المجتمعي العام، وما يعرفه من احتقان وتوتر وغليان،إنه متّصل بالضرورة وغير مفكوك عن كلّ عناصر النسق، وماهو – قبلا وبعدا -إلا مَحصلة ونتيجة موضوعية لشروط الأزمة القائمة وتجلّ من تجلياتها وإنتاج من انتاجات الأزمة في مختلِف أبعادها ومستوياتها ..

بعين سوسيولوجية، لا يمكن للمتتبع للسلوك الاحتجاجي على هامش حراك مقتل “الشهيد محسن” شهيد الخبز والكرامة إلا أن تستوقفه الشعارات التالية؛”علاش الحكرة” “نعم للكرامة””نعم لمعاقبة المتورطين” كإحدى العناوين البارزة التي طبعت المرحلة، ورُفعت في حراك الشارع الأخيرالتي صدحت بها القواعد الجماهيرية الغاضبة احتجاجا على مقتل ذلك الكادح الريفيإلى جانب شعارات ومطالب اجتماعية أخرى تنمّ في عمقها الاحتجاجي عن حدة الاحتقان والبؤس الذي وصل إليه نبضالشارع المغربي،إنها تعكسُ حجم وكمية التبخيس والتحقير والميز واللاكرامةواللاّسوي من الأوضاع التي أصبح المواطن المغربي الكادحُ يعيشهاويستشعرهافي دواليب الإدارة بشكل يومي، وما يعانيه في المستوى الاقتصادي والاجتماعيبسبب غلاء المعيشة وتفكيك القدرة الشرائية للطبقات الشعبية البسيطة بعدما كان ينتظر التغيير الجذري الحقيقي إبّان”الحراك الفابرايري” والإصلاح الدستوري واتسعت آفاق انتظاره للتغيير كما رفع من سقف آماله في تحقّق العدالة الاجتماعية والمساواة وربط المسؤولية بالمحاسبة..

إن تفاعل مجموعة من المدن المغربية في الشمال والجنوب والشرق، واندلاقها العفوي للشارعوالتحامها من جديد بعيدا عن الحساسيات القبلية والأقْلَمَة الضيقةللتعبير عن امتعاضها وغضبها ليس حدثا عابرا، إنه حدث مفتوح على كل إمكانيات القراءة والتأويل كما يفيدنا بذلك الدرس السوسيولوجي، فمقتل “محسن فكري” بطريقة قاسية جدا ليست سوى تلك النقطة التي أفاضت الكأس بعد كل الذي أصبح الشعب المغربي بعامة يعيشه ويكابدهصباح مساء من أزمات “وصلت للعظم” كما يحلو بلسان المغاربة أن يعبروا، صحيح أن الشارع المغربيلجأ الى الصمت والسكوتكعناوينوسمتالفترات الأخيرة،لكن هذا لا يعني البتّة أن النار قد خمدت، وتحت الأكمة ما تحتها كماقيل قديماسيما بعد الوعود العريضة التي تلقاها من أجل التغيير ولم ير منها سوى النكوص والارتداد نحو الوراء.

لقد عرف المغرب في السنوات الأخيرة مع ولاية “حزب المصباح” في نسخته الأولى حسب الفاعلين والمتتبعين السوسيوسياسيين اصدار مجموعة من القوانين اللاشعبية القاسية التي ضربت مجموعة من المكتسبات الاجتماعية التاريخية لفئات عريضة من الشعب، دون حوار اجتماعي حقيقي توافقي وفق ما تقتضيه أدبيات الحوار الاجتماعي في الأعراف والمرجعيات الدولية المؤسّسة،الحوار الذي يرضي جميع الأطراف ويبحث عن حلول الأزمات بصيغ مشتركة توافقية إن نهج التفكير بصيغة المفرد وتسفيه الآخر وغياب الثقة بين كل الأطراف هو الشيء الذي يفسرة توترالعلاقة بين الحكومة وباقي الفاعلين المدنيين والاطارات النقابيةوالحقوقية وتبادل التهم ومنطق التخوين.. حكومتنا للأسف لا زالت تعتقد أن فوزها بغالبية الأصوات في الانتخابات (الدمقراطية العددية ) يخوّل لها أن تفعل في الشعب ما تشاء، دون احترام كل ما راكمته الطبقات الشعبية من مكتسبات بالدماء والتضحيات الجسام، ولسنا بحاجة لنذكر بشهداء الكميرا 84 وانتفاضة 2011 واحداث التسعينيات في الدار البيضاء..،

فالعمق الانتروبولوجي للشعب المغربي، وسيرورته التاريخية مليئة بالثورات والاحتجاجات والتمردات كلما أحس بالظلم والاهانة. فما معنى أن تفكك صندوق المقاصة وترفع الدعم عن المواد الأساسية دون مقاربة تشاركية حقيقية ؟ وما معنى أن تجهز على حق التقاعد وترفع في سن التقاعد وتقتطع من أجور الموظفين دون محاسبة وتقديم من افرغوا ونهبوا هذه الصناديق للعدالة كمدخل من مداخل الإصلاح ودون استشارة المعنيين بالأمر ؟ ماذا تنتظر حينما تكدس أبناء الشعب في حجرات الدراسة كعلب السردين الرديءوما يعرفه النسق التعليمي منإخفاقات بنيوية وفشل وخصاصا كبيرا في الموارد البشرية في الوقت الذي تتغنى بالجودة والمقاربات التي يكذبها الواقع التعليمي البئيس؟ ماذا تنتظر حينما تسمن أرصدة الشركات الرأسمالية و”الباطرونا” وتفقر الفقير ؟ماذا عساك تنتظر غير الاحتجاج والسخط حينما تصدر قرارا فوقيا يقضي بالتوظيف بالعقدة لضرب الوظيفة العمومية في السياق نفسه الذي “يتكرشح” فيه من رشحته الأمة لايصال أوجاعها للمؤسسات الرسمية بتوسيع الامتيازات وتقسيم الغنائم ..

إن الشارع المغربي وإن كان ذكيا في تتبعه للمحيط الجيوسياسي الإقليمي وما تعرفه دول الجوار من اضرابات وانزلاقات أمنية أصبحت معها حياة الناس مهددة، سيظل يعبر عن سخطه ورفضه بطرقه الحضارية الذكية، لكن لا مساومة في الكرامة فحينما يهان الانسان حدّ القرف،وحدّ الطحن والشحن في حاويات الأزبال يمكن لسلمية الأولويات حينئذ أن تتغير.

إن الكرامة هو الشيء الوحيد الذي لا ولن يقبل المساومة، إنها الكرامة أم الحقوق،وربما قبل الوطن، وعلى السلطة وكل الأجهزة السياسية ومنتخبي الأمة أن يعوا هذا الأمر ويستوعبوا الدروس والعبر من الحراك الشعبي الأخيرقبل أن يتسع الخرق ُ على الراقع، فلا صوت يعلو فوق صوت المقهورين .

آن الأوان لنقطع مع “الحكرة” والبيروقراطية الادارية والاستبداد وسياسة التميز والتسلط التي نُهجت لعقود، آن الأوان لنتصالح مصالحة تاريخية حقيقية مع الشعب، آن الأوان لنؤسس لعدالة اجتماعية حقيقية بعيدا عن الخطابات السوريالية الاستهلاكية الموجهة للخارج من أجل تلميع الصورة للحصول على تأشيرات حسن السلوك ، لا بد أن نعيد النظر في عناصر النسق الداخلية وكل ما يتصل بمصلحة المواطن مراجعة بنيوية هيكلية لتنمية شمولية مستديمة..

آن الأوان لنقطع مع منطق؛إما نحن والاستقراروالقبول بالوضع كما هو أو”داعش” والسيناريو الدموي السوري ..