وجهة نظر

الهدر المدرسي.. الجائحة الثقافية

يشي مفهوم الجائحة الثقافية المرتبطة بالهدر المدرسي، عن القصور الوظيفي للمدرسة المغربية في الإنخراط الفاعل في تحسين مؤشر التنمية البشرية. ويبدو أن هذا الموضوع أو “حديث المدرسة” بات يستهوي جل العلوم الإنسانية والإجتماعية، بل حتى داخل الأسر المغربية، ليس فقط من كونه قاطرة التقدم والإزدهار، بل أيضا كونه مجالا للتجاذبات ،مثيرا للسجالات والنقاشات.

منذ صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999)،شخصت أبصار المتتبعين وبات موضع تقييمات رسمية وأكاديمية تحلل المنطوق وأثره الميداني، خاصة وأنه رفع شعار التجديد طولا وعرضا. هذا التجديد غايته ملمح متعلم متشبع بالقيم الوطنية والإسلامية، ذو ثقافة كافية للتصريف في ميادين اقتصادية صرفة. غير أن العشرية الأولى من طرحه، كانت كافية لتعرية واقع المدرسة العمومية في شخص متعلم يغادر أسوارها قبل سن الخامسة عشر. فتمحور النقاش من جديد عن دعامة التفعيل والتنزيل، وعليه، تم استدعاء المخطط الإستعجالي (2012-2015)، من أجل تفكيك عقم المدرسة العمومية وجعلها فضاء جذابا لكن فكرة التفكيك والبحث عن الحلول أقبرت بشكل غير مفهوم ، ولا مجال هنا للرجوع إليها وتفصيل القول فيها. على أية حال، كان لصدور القانون الاطار 17.51 بتاريخ 19 غشت 2019 في اطار توافق وطني، بعد التقرير الصدمة الصادر عن المجلس الأعلى للتربية ولتكوين والبحث العلمي بتاريخ 2015، والذي عبر صراحة على أن المدرسة المغربية تعيش اختلالات مزمنة.

يمكن القول أن هذه الإختلالات المزمنة، لا يمكن قياسها إلا من خلال مخرجاتها الموسومة في متعلميها، هذه المخرجات وإن كانت مصدرة لكفاءات عليا، فإنها أيضا موسومة بالهدر المدرسي بالمجالين القروي والحضري. ولعل هذا أبرز إخفاق يعكس الوحل الذي تقبع فيه مدرستنا العمومية، وقد يتساءل سائل عن كيفية هذا الإخفاق، فنقول، أن المعارف ضخم مضمونها، والتلميذ مجهوده مضاعف، يقضي جل وقته داخل أسوار مدرسة ذات مردودية ضعيفة. هذا التباين الحاد في الثالوث الرئيسي للتنمية هو مرآة لظاهرة الهدر المدرسي.

من أجل التخفيف من حدة الظاهرة، وضعت الجهة الوصية خارطة اصلاح المدرسة المغربية في ثلاث استراتيجيات في افق 2026 ترتكز على التعلمات الأساس، والأنشطة الموازية، والحد من الهدر المدرسي ، مع إقرار ثلاث محاور: الأستاذ ،المدرسة، التلميذ. هذا الأخير في مختلف الفسفات التربوية يعتبر قطب رحى العملية التعليمية فبات الهدر المدرسي يشوه هذا المنحى على اعتباره ظاهرة تربوية تتقاطع فيتحليلها المعارف النفسية والسوسيولوجية و المعرفيات الإنسانية والتربوية التدخلية والعلاجية ، يصعب الإحاطة به بشكل كلي في مقال واحد ،ومن متخصص واحد، لكن يمكننا أن نتناول المفهوم بشكل تفكيكي فنقول: أنه فشل دراسي ناتج عن عدم تكيف دراسي وتقهقر في متابعة التكوين ، مما ينتج عنه خلل في البنية المجتمعية، خاصة وأن المغرب يصرح ب 30 في المائة كمعدل للامية. كما يمكن تقسيمه الى نوعيتين متكاملين: هدر مدرسي خارجي ، وهو الأكثر تدوالا والأدق قياسا ، ويعني مغادرة التلاميذ لمقاعد الدراسة في سن مبكرة  ما يعزز منحى الامية، و يضعف مؤشر التنمية البشرية، وهو ظاهرة تتقاطع فيها الأسباب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.

النوع الثاني: وهو الهدر المدرسي الصامت الأقل تداولا والصعب قياسه، نصفه بالصامت لكونه ينبني على دوافع داخلية،فالكثير من المتعلمين توقفوا عن التعلم منذ المرحلة الإبتدائية ومسألة استمرارهم في المدرسة محكوم بالرهبة لا بالرغبة ، وبالتالي إنتاج متعلمين جاهزين لمغادرة مقاعد المدرسة في سن مبكرة وإن اختلفت مستويات الانقطاع عن الدراسة ، فهو مزيد من النزيف الثقافي و موارد بشرية منطفئة العطاء.

300ألف تلميذ غادروا مقاعد الدراسة ،  ما بين 2016 و 2022 حسب الإحصائيات الرسمية ، منها 23 في المائة بالسلك الإبتدائي، و 24 في المائة بالسلك التأهيلي، في حين يسجل السلك الإعدادي 53 في المائة،و يبقى هذا الأخير الطور التكويني الذي يسجل النسبة الأهم لعوامل متداخلة منها ما هو تربوي واجتماعي ومنها ما هو نفسي وبيولوجي.

والواقع أن هذه الإحصائيات ، لها دلالات عميقة  وتداعيات جلية على المشروع المجتمعي الثقافي والإقتصادي للمغرب، كونها تفرمل المحاولات الجادة لتسلق سلالم التنمية البشرية، فبلدنا لا يزال يعيش مخاضا عسيرا في أفق تعميم التعليم وجعله متاحا أفقيا، للحد من التباينات المجالية والفوارق السوسيو اقتصادية. وعموديا، لتمرير فلسلفة النموذج التنموي. لكل ذلك، كانت غاية خارطة الطريق التي سنها البرنامج الحكومي ، الإرتقاء بالمدرسة من مقاربة تتمحور حول الوسائل والتدابير، إلى ثقافة إصلاحية تتمحور حول الأثر، من أجل تقليص الهدر المدرسي  سنة 2026 إلى دون 3/1.

إن تشريح الواقع، لا يعني الهجوم على المكتسبات المحققة، بقدر ما هو تشخيص لتخطي الصعوبات الراهنة، فننتقل إذ داك من أزمة المدرسة، إلى المدرسة الاجتماعية التي نريد، وهذا لن يكون حتما إلا بثلاث دعامات، إحداها ،جعل الإصلاح أفقيا يبتدأ بالمدرس ومع المدرس وفق مقاربة تشاركية. وثانيها، خلق مدرسة جاذبة، وظيفية ،اجتماعية، توجيهية. وثالثها، مراجعة المنهاج وتجاوز البرامج المزدحمة المعارف، إلى برامج ذات الجودة وفق خط تكويني ومنهجي فاعل، هكذا يمكننا أن نساهم في بناء المدرسة التي يراد لها أن تحتضن التلميذ في مقاعدها ، لا مدرسة الهدر المدرسي.

* ذ. يونس احممض -أستاذ التعليم الثانوي وباحث في علوم التربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *