وجهة نظر

اقتلوا السيدة فتنة لترتاح روح محسن وننعم بالخبز والكرامة والاستقرار

وكأن الأقدار تدبرت أمر جريمة قتل محسن فكري ليفتح المغاربة عيونهم أكثر على واقعهم المتعفن؛ واقع شديد العفونة كان الكثيرون يدركونه في أعماقهم وينكرونه علنا، والبعض الآخر كان غارقا في الوهم إلى أن كشفت له هذه الجريمة الجزء الظاهر من جبل الثلج؛ كانت هناك قشرة رقيقة تخفي تقيحات هذا الواقع لكنها لم تصمد أمام هول هذه الجريمة البشعة.

جريمة قتل محسن فكري ليست جريمة قتل شخص واحد في حد ذاته ولا جريمة مستقلة عن باقي الجرائم التي ترتكب في حق هذا الوطن ولا هي وليدة تلك اللحظة المشؤومة فقط؛ إنها جريمة قتل معنوي لكل من يحمل في قلبه الأمل والإصرار على العيش الكريم، إنها نتيجة حتمية لسلسلة من الجرائم التي ترتكب يوميا في حق الشباب المغربي الطامح إلى العيش الكريم؛ هي نتيجة طبيعية لسلسة من المظالم والمفاسد التي تجهض أحلام الشباب المغربي وكان لابد أن تحدث في أي وقت وأي بقعة من البقع المهمشة في المغرب؛ الصدفة فقط تكفلت بجعل الحسيمة مسرحا لها وفي يوم 28 أكتوبر ..

في الظاهر يبدو أن هذا الشاب قتل طحنا في شاحنة نفايات لأنه رفض أن يمتثل لأوامر الشرطة وستنتهي بمجرد ما سيحاكم كل من ساهم بشكل مباشر وفي تلك اللحظة في وقوع هذه الفاجعة، لا يا سادة؛ علينا أن نقر أنه هناك عدة جرائم تنتصب كأسئلة أمامنا قادتنا إلى هذه النتيجة؛ جرائم تتعلق بكيفية تدبير رخص الصيد البحري في أعالي البحار ولمن تُمنح وعلى أي أساس ومن سمح بصيد السمك وهو في فترة راحة بيولوجية وتفريغ حمولة المراكب أمام أعين المسؤولين في الميناء ثم منع صغار التجار بتداوله في الأسواق؟ وكيف أن مسؤولا في الشرطة استدعى شاحنة نفايات تابعة لشركة التدبير المفوض مسؤولة أمام المجلس البلدي وليس الشرطة؟ وكيف تتم عملية “إعدام” كمية الأسماك المحجوزة في الشارع العام وفي شاحنة أزبال وأمام الملأ في الوقت الذي ينص فيه القانون على أن مثل هذه المحجوزات توزع ومن داخل الميناء على الداخليات والمؤسسات الخيرية والسجن المدني؟….أليس هذا مؤشرا واضحا على أن ثمة لوبي قوي يتحدى القوانين المنظمة على علاتها ويستند إلى حائط من الإسمنت المسلح _شخصيات نافذة، فساد الإدارة، فساد القضاء والشرطة…_؛يصر على التحكم في عملية الصيد البحري من ألفها إلى يائها وحماية مصالحه بأي شكل ولو عن طريق وضع أعناق وأرزاق التجار الصغار بين فكيه..

هذه عينة فقط من أسئلة كثيرة تتناسل أمام كل من تابع ملف جريمة مقتل محسن ونظر إلى القضية من زوايا متعددة؛ والأهم من هذا وذاك؛ ما الذي جعل محسن فكري يحاول التجارة في سلعة يمنعها القانون في فترة معينة ؟؟ أليست الآفاق المسدودة أمامه في تلك المدينة التي نسيتها الدولة من “مشاريعها واستراتيجياتها التنموية” التي تهلل لها ولا نرى لها أثرا ملموسا على الواقع باستثناء بعض المشاريع السياحية البئيسة؟ أليست البيروقراطية المقيتة وعقلية “سير وآجي” التي تتعامل بها الإدارة العمومية المغربية أمام كل مواطن بسيط يحاول كسب قوت يومه بعرق جبينه ووفق المساطر القانونية العليلة أصلا؟

مقتل محسن فكري وهو يحاول الدفاع عن رأسماله البسيط الذي جمعه بشق الأنفس لا يجب أن يمر دون أن نستحضر ما قاله رئيس الحكومة في أكثر من مناسبة وهو يرد على المطالبين بالوظيفة العمومية؛ ألم يقل لهم السيد بن كيران بأنه “صافي ما عندوش” مناصب ؟ أن الوظيفة العمومية رزقها قليل وأنه على المواطن أن يلجأ إلى التجارة مثلا لأن رزقها واسع؟؟ فما الذي يحصل للمواطن البسيط حين تقفل أبواب الوظيفة العمومية في وجهه؟ يلجأ إلى التجارة ويستدين ليجد آلة البيروقراطية والرشوة المتغلغلة في مفاصل الإدارة المغربية في انتظاره لتطحنه رمزيا قبل أن تطحنه ماديا شاحنة أزبال مثلا أو يشنق أو يحرق أحدهم جسده بعد أن يكون قد خسر كل ما يملك وما اقترضهب ستة وستون “كشيفة”.

طحن محسن فكري وهو يدافع عن قوته اليومي وصمة عار على جبين كل مسؤول من أعلى الهرم حتى قاعدته، دليل قاطع على أن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في هذا البلد مجرد إشاعة، دليل على ان السؤول يمكنه ان يتجاوز القانون في هذا البلد وأن يتعسف في استعمال سطته دون أن يخشى أن تطاله يد المحاسبة لأنه متيقن أن الإفلات منها أمر سهل جدا لا يتطلب أكثر من تدخل مكالمة هاتفية؛ وهناك من هو أصلا فوق القانون والمحاسبة؛ يمارس سلطاته اللامحدودة بأريحية تامة.

الصدمة نبهت كل المغاربة إلى أن الظلم والإقصاء والتهميش الذي يتراكم عليهم هو إقصاءممنهج ومقصود وليس حدثا عابرا، تأكد المغاربة أن أنشودة الإصلاح ليست سوى كذبة كبرى تُضاف إلى سلسلة الأكاذيب المنومةالتي يطلقها من يتولون تدبير الشأن العام، وأن المؤسسات التي أنشئت لهذا الغرض ليست سوى قواعد لزرع الوهم وإطلاقه عبر مؤسساتها الإعلامية والدينية الرسمية، وأن سؤال أين الثروة كان تمويهيا والإجابة عنه توجد في جيوب من استأثروا بها ويدافعون عنها “بالقانون” _ثروة الملك وقضية أموال باناما وقضية خدام الدولة نموذجا_ والقوة حتى لو كانت طحنا بين فكي شاحنة أزبال…لا مشكلة؛ المهم هو أن “تحفظ ” التوازنات الحالية من أي سوء قد يمسها؛ توازنات يراها النظام القائم وجودية لينعم المغرب بالاستقرار الملغوم الذي يرقص المغاربة على إيقاعه رقصة الديك المذبوح؛ فإما أن يقبل الشعب بالوضع القائم، أو الفتنة؛ وفق قاعدة : إما نحن أو نحرق البلد.

لأجل كل ما سبق خرج المغاربة إلى الشارع وفي زمن قياسي بعد الفاجعة، خرجوا ليس فقط للتنديد بهذه الجريمة والمطالبة بمحاسبة كل من ساهم في مقتل شاب كان يمكن أن يكون أي أحد منهم يسعى إلى لقمة عيش كريمة؛ لا …خرجوا ليقولوا للنظام كفى من السخاء فيتوزيع القهر والإقصاء والحكرة على بسطاء الشعب؛ فإن كانت تفرقهم الجغرافيا واللغة والدين يجمعهم الإحساس بنفس المعاناة من تبعات الفساد والاستبداد وغياب العدالة والكرامة وتكافؤ الفرص …خرجوا في أبهى صور الرقي والتحضر رغم الألم الذي يعصر قلوبهم ليقولوا لحيتان البر والبحركفى من الاستحواذ على ثروات الوطن…نعم لتوزيع عادل للثروة بين جميع المغاربة …فهل هم مذنبون بمطالبتهم بحقوق طبيعية حولها لصوص الوطن إلى أحلام ليُتهموا بالسعي للفتنة؟

يا سادة؛ إن كان المغاربة قد خرجوا إلى الشارع بشكل عفوي فلأن الأحزاب والهيئات السياسية والمدنية التي تمثلهم داخل المؤسسات، ومعهم الطبقة المثقفة قد تخلوا كعادتهم عن دورهم التاريخي وتركوا الشعب في مواجهة مباشرة مع السلطة وبصدر عار، وإن تدخلوا فليلعبوا دور الإطفائي أو كاسحة الألغام من ساحة معركة الشعب مع معسكر الفساد والتسلط .

وإن كانت هذه “السيدة” فتنة فاتنة إلى درجة أن يُشهر أصحاب الطرح النكوصي فزاعتها أمام الشعب كلما اقتضت مصلحة القلة المستفيدة من هذا الوضع ذلك نائمة بيننا؛ فلأن هذا النظام يرفض الاستجابة لمطالب الشعب العادلة مكتفيا برتوش هنا وهناك سرعان ما تظهر عيوبها وزيفها، لأنه مصر على أن يبقى الوضع محتقنا ومرشحا للانفجار في أي لحظة حفاظا على مصالح 10 بالمائة من المغاربة؛ فأولى ألا تحرضوا المواطن على أن ينام معها لتتكاثر وتستقوي وتطحن الكل إن هي صحت يوما؛ أولى أن يقتلها المخزن وهي نائمة أو صاحية لينعم الجميع بالكرامة والعدالة الاجتماعية في ظل الاستقرار.

المفروض والطبيعي في مثل هذه الحالات الحرجة وحتى تفوت الفرصة على من تسميهم بالمتربصين بالوطن أن تقرأ الدولة مطالب شعب راكم في خاطره ويلات الفقر والمذلة وسياسة الكيل بمكيالين والانتقائية في تطبيق القانون إلى أن فاض به، لا أن تسخِّر أبواقها الإعلامية والدينية لتطلب من الناس أن يحمدوا الله على نعمة الخبز والبطاطا وسقف يأويهم وأنه “بحال اليابان بحال اليمن ..آرا غير الصحة والسلامة” ، أوأن حقهم إن لم يطالوه في الدنيا الفانية فهو محفوظ في الآخرة الباقية، ولتزرع بينهم أكذوبة أن الفقر قدر إلهي وابتلاء..

لا يا سادة …الفقر والتهميش في هذه البلاد وفي كل بلدان الفساد والاستبداد ليس قدرا إلهيا لنرضى به خنوعين؛ هو قرار سياسي ومشكل بنيوي، ولأنه كذلك؛ فإن معالجته يجب أن تكون بقرار سياسي من السلطات السياسة والاقتصادية في البلاد وعلى رأسها المؤسسة الملكية …أما وعود بفتح تحقيق في ظل غياب استقلالية القضاء عن تعليمات الداخلية ثم جر أكباش فداء فليست سوى خطوات تمويهية لينسى الشعب أن وزير الداخلية ووزير الفلاحة وكل من يؤازرهما يتربعون على رأس قائمة المتهمين في قضية القتل المادي والمعنوي للبسطاء منه… فكلنا نعرف أن ثلاجة المحاكم كانت في انتظار قضايا سابقة تمس حياة وقوت المواطن المغربي.