وجهة نظر

خدام الدولة الاستبدادية التسلطية وخدام الدولة الديمقراطية التعاقدية

خدام الدولة الاستبدادية التسلطية وخدام الدولة الديمقراطية التعاقدية، يشتركون في الخدمة، ويختلفون في الباعث والهدف والوسيلة، الأولون يخدمون الواقع الرديء، ويبررون إكراهاته، ويستفيدون من ريعه انتهازا وزلفى، والأخرون يخدمون الحقيقة ويبرهنون على نجاعتها، باعتبار الدليل هو منار السبيل، ويبذلون جهودهم ويضحون بلا مقابل.

هذه الصورة الحقيقية لما يعتري مصطلح الخدمة من تجادبات؛ أحداها ترهنه وتكبله وتوجهه لخدمة الزيف، موهمة العوام بأنها أكثر وطنية، والأخرى تحرره وتزكيه لخدمة الحقيقة، لكن هناك من يريد أن ينهج حربا قذرة، بأن يجرد دوال خيار خدمة الدولة الديمقراطية التعاقدية من دلالته، ويطلق عليه دلالة “مساخيط الدولة العدميين”، لما يوحى هذا الاصطلاح من دلالات قدحية منفرة ومحبطة ومخيفة، وتوهم العوام أن هؤلاء هم أعداء الوطن وخصومه.

إن لفظ “مساخيط الدولة العدميين” تجعل هذا النهج بلا أفق، ولا طريق سيار سوى بث الفوضى والعصف بالمكتسبات، وهز السلم المجتمعي والاستقرار، وجلب الدمار والخراب، وعندما يطلقه مهندسو النظرية الاستبدادية التسلطية على معارضي الاستبداد والفساد، فهم يريدون أن يشيعوا وسط المجتمع أن لا بديل عن الاستبداد إلا الفوضى، وأن حملة المشروع التغييري المناهض للاستبداد هم مجرد عدميين مساخيط وفوضويين، ولذلك فالشعوب عندما تخير بين الاستبداد والفوضى فإنها تنحاز للاستبداد، باعتباره أخف الضررين.
لكن في التحقيق العلمي أن الاستبداد والفوضى قرينان، فالاستبداد يفقد المجتمع روحه الدافعة، ويقضي على عقلانيته البانية، ويؤدي إلى ردود فعل فوضوية متخلفة، لتقوم هذه الأخيرة بتغدية الاستبداد وتسويغه، فالاستبداد هو الأب الطبيعي للفوضى والذي يغذيها بألبانه، والفوضى هي البنت الشرعية للاستبداد والتي ترعاه حين المرض أو الهرم، وتعيد له عافيته وشبابه، ولذلك تتحول الدولة – حسب صاحب طبائع الاستبداد- في مراحل الأزمات، إلى فيل هائج يخبط خبطة عشواء، ويدمر كل ما حوله، قبل أن يستسلم للفناء، أو تنقده هذه الفوضى الممنهجة، ليتعلق الناس بأستاره مرة أخرى، ويعيد فيهم تحكمه البربري!.. ولذلك فتاريخ الاستبداد هو تاريخ مغلق، ينتقل من العبودية إلى الفوضى، ومن الفوضى إلى العبودية!

إن لفظ “خدام الدولة”، يعيد بنا إلى نظرية الأسياد والعبيد، تلك التي انتقدها الفيلسوف الألماني هيغل، ويؤدي إلى فصل الحق عن القوة، والدولة عن الشعب، وجعل الدولة متخلفة عن استيعاب المجتمع وزخمه المتزايد، وجعلها أكثر قسوة، مما يؤدي إلى تآكل شرعيتها وهرمها.

وفي “سيكولوجية الجماهير”، كما تحدث عنها “غوستاف لوبون”، فإن مفهوم خدام الدولة الاستبدادية التسلطية “قديم وراسخ، قد ألفه الناس وتعايشوا معه”، أما مصطلح مساخيط الدولة وعدميوها، فهو مصطلح “حادث وسطحي ومثير للهواجس والمخاوف”، ولا يمكن أن يدفع الجماهير لتبنيه أو المدافعة عنه، لذلك فلابد لدعاة التغيير من إعادة بناء المفهوم، بتبني اصطلاح خدام الدولة الديمقراطية التعاقدية، قصد إحداث التأثير المطلوب لأفكارهم وبسطها في مستوى مدارك الجمهور وعواطفه.

لذلك فنحن لا نتكلم نفس اللغة عندما نستخدم لفظة “خدام”؛ فهناك خدام الدولة الاستبدادية التسلطية، وهناك خدام الدولة الديمقراطية التعاقدية، وكل يعمل على شاكلته، وكذلك فنحن لا نتكلم نفس اللغة عندما نستخدم لفظ “الوطنية”؛ فهناك –حسب “ألبير كامو”، في “رسالته إلى عدو صديق”- وطنية عمياء يحكمها حذاء ديكتاتور، هذه الوطنية لا يعرفها الأحرار، وهناك وطنية أخرى عقلانية، تجمع بين الوطن والعدالة في نفس الوقت، وترى في حب وطن بلا عدالة هو حب أعمى، لأن العدالة هي التي تجعل الوطن ينزع نحو السلم والتعايش والشراكة والانفتاح على الأخر والنظرة الإنسانية الإيجابية، ويرفض الحرب والعنف والإقصاء والإنغلاق والنظرة الشوفينية السلبية.

إن مفهوم الدولة في المقاربة الديمقراطية الراجحة، أن شرعيتها مكتملة من حيث البناء والأداء، وهي وحدها من تحتكر وسائل العنف الشرعي، من جيش يدافع عن حدود الوطن، وشرطة تحقق الأمن والطمأنينة، وقضاء ومؤسسات دستورية منتخبة، وهي تمارس نوعين من السيطرة؛ السيطرة على المحكومين لمنع الفوضى، والسيطرة على نفسها لتكون دولة الحق والقانون، مثل هذه الدول لا يمتلك أي مواطن شريف إلا خدمتها والدفاع عنها وحمايتها، أما الدولة التي تكتفي بالسيطرة على المحكومين، وتفتح المجال لشهواتها الهابطة لتكون فوق القانون والمحاسبة، فهذه ليست دولة وإنما غابة تحكمها الوحوش، ولا تستحق شرف التقدير ولا الاحترام فبالأحرى الخدمة.