ستة وعشرون سنة من الريادة الملكية في النهوض بحقوق المرأة: مسيرة تحديات وإنجازات

أولى صاحب الجلالة الملك محمد السادس منذ اعتلائه عرش أسلافه المنعمين في عام 1999 أهمية قصوى لقضية المرأة، وجعل من النهوض بحقوقها محورًا أساسيًا في المشروع الوطني للتنمية والتحديث. فقد آمن جلالته بأن تمكين المرأة ليس فقط مسألة عدالة اجتماعية وحقوقية، بل ركيزة حقيقية لتقدم المغرب واستقراره، ومنطلقًا لا غنى عنه لتحقيق التنمية المستدامة والمواطنة الحقة. ومنذ بداية حكمه حرص جلالة الملك محمد السادس نصره الله على إعطاء هذه القضية بعدًا استراتيجيًا وعمليًا، من خلال خطابات سامية، وإصلاحات تشريعية جريئة، وفتح آفاق الحوار والتشاور، وإشراك كافة الفاعلين، مع احترام التوازنات الثقافية والدينية، وهو ما مكن المغرب من تحقيق مكاسب نوعية في مجال حقوق المرأة، وإرساء منظومة متكاملة للعدالة والمساواة بين الجنسين.
وقد تميزت مقاربة الملك محمد السادس في النهوض بحقوق النساء بطابعها المبتكر والإرادي والبنيوي. فمنذ بداية عهده، تبنى جلالة الملك رؤية إصلاحية شاملة، تقوم على قراءة متجددة للدين، وفي وفاء عميق لقيم العدل والإنصاف والاجتهاد، مما مكنه من طرح قضية المرأة ليس كرهان ثانوي أو ظرفي، بل كركيزة مركزية في المشروع المجتمعي المغربي. وقد جاءت خطبه، بما تحمله من سلطة أخلاقية وسياسية، لتؤكد باستمرار أن كرامة النساء لا تنفصل عن تنمية البلاد واستقرارها. وقد تُرجِمت هذه الرؤية إلى قرارات جريئة ومؤسسة، أبرزها إصلاح مدونة الأسرة سنة 2004، والتنصيص الصريح على مبدأ المساواة بين النساء والرجال و المناصفة في دستور 2011 و احداث هيئة المناصفة و مكافحة التمييز ضد المرأة وكذا إرساء سياسات عمومية تراعي مقاربة النوع. وبعيدًا عن الخطابات الشكلية، أصبح الالتزام الملكي دعامة استراتيجية لتحديث الدولة، قائمًا على أولوية القانون، وعلى قيم وطنية أصيلة منفتحة على المعايير الكونية لحقوق الإنسان.
وتتجلى السمة الفريدة لمقاربة الملك محمد السادس أيضًا في قدرته على التوفيق بين مقتضيات التحديث واحترام التوازنات المجتمعية العميقة. وباعتباره ملكًا للبلاد وأميرًا للمؤمنين، فقد اضطلع جلالته بدور الحكم الواعي بين التيارات الحداثية الداعية إلى المساواة، والاتجاهات المحافظة المتمسكة بقراءة حرفية النص الديني . لم يعتمد جلالته نهج القطيعة، بل اختار مسارًا وسطًا، قائمًا على اجتهاد متجدد في تأويل النصوص، ومستندًا إلى مقاصد الشريعة ومبدأ المصلحة. وإدراكًا منه أن أي إصلاح حقيقي لا بد أن يحظى بقبول اجتماعي واسع، فقد أولى اهمية قصوى للحوار والتشاور وإعمال الآليات المؤسساتية. وهكذا، تم إحداث لجان ملكية وهيآت للتفكير والوساطة، من قبيل اللجنة المكلفة بإصلاح مدونة الأسرة سنة 2004، أو اللجنة الاخيرة المكلفة بمراجعتها، من أجل تأطير النقاشات وتجاوز الانقسامات الإيديولوجية وصياغة توافقات وطنية. وقد مكنت هذه المنهجية، القائمة على التدرج والحكمة، من تجنب التوترات المجتمعية، ودفع عجلة تحوّل العقليات، وترسيخ حقوق النساء في إطار شرعي وسلمي ومستدام.
ومن أبرز مقومات نجاح مسلسل إصلاح حقوق النساء في المغرب، المكانة المركزية التي خُصصت للمجتمع المدني، ولا سيما الجمعيات النسائية، التي لعبت دورًا محوريًا في الترافع، والتحسيس، والتعبئة، وإنتاج الخبرة والمعرفة. فمنذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش، انطلقت دينامية جديدة تميزت بالاعتراف الصريح بالدور الاستراتيجي للمجتمع المدني في بلورة السياسات العمومية و تقييمها وتعزيز دولة القانون. وقد استطاعت الجمعيات النسائية، بما تمتلكه من جرأة وخبرة ميدانية وشرعية مكتسبة من قربها من انشغالات المواطنات، أن تفرض حضورها في النقاش العمومي، وتقترح إصلاحات ملموسة، وتنبه إلى مظاهر الحيف البنيوي، وتبني تحالفات واسعة من أجل المساواة.
غير أن هذه الحيوية النضالية ما كانت لتؤتي ثمارها لولا الانفتاح المؤسساتي الذي أرساه الملك، من خلال إرساء آليات للحوار التشاركي، وإشراك المجتمع المدني في اللجان الملكية والاستشارات الوطنية، وإرساء ثقافة الحوار والتشاور في أوراش الإصلاح الاجتماعي الكبرى. وبهذه الرؤية، لم يكتف جلالته بإضفاء الشرعية على الفاعل الجمعوي، بل جعله طرفًا موثرا في عملية اتخاذ القرارو شريكًا حقيقيًا في الإصلاح. وتُعد هذه المقاربة المبتكرة، القائمة على الإدماج والاعتراف المتبادل وبناء الثقة، رافعة أساسية لترسيخ حقوق النساء ضمن دينامية مجتمعية عميقة ومستديمة، تتجاوز منطق الإصلاح المفروض من الأعلى.
إن الرؤية التي يحملها جلالة الملك محمد السادس في مجال حقوق النساء لم تقتصر على خطب توجيهية أو إصلاحات ظرفية، بل شكّلت الأساس المرجعي لبروز سياسات عمومية شاملة، متقاطعة المحاور، ومبنية على قاعدة مؤسساتية متينة. وقد مكّنت هذه التوجهات الاستراتيجية، المنطلقة من أعلى هرم الدولة، من ترسيخ قضية المساواة بين الجنسين ضمن الأجندة الوطنية كرهان للتنمية والعدالة الاجتماعية والحكامة الديمقراطية.
ومن المحطات المفصلية أيضًا، صدور القانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، الذي دخل حيز التنفيذ سنة 2018، والذي وإن كان لا يزال بحاجة إلى تطوير، فقد شكّل اعترافًا قانونيًا رسميًا بالعنف المبني على النوع، ورسّخ آليات لحماية الضحايا والتكفل بهن. كما تم اعتماد خطط قطاعية متعددة داخل وزارات الصحة والتعليم والعدل والتشغيل، في تجسيد عملي لمبدأ إدماج النوع في مختلف مناحي العمل العمومي. وعلى صعيد موازٍ، شجّعت الدولة على إرساء ميزانيات مبنية علىمقاربة للنوع الاجتماعي، بدعم من شركاء دوليين، قصد ضمان عدالة التوزيع المالي لصالح النساء.
وفي السياق ذاته، تم بذل مجهودات حثيثة لتعزيز حضور النساء في مواقع القرار السياسي، من خلال آليات التمييز الإيجابي كإحداث اللوائح الوطنية ثم الجهوية، وتعديل نظام الاقتراع على المستويين الجماعي والجهوي. وقد مكّنت هذه التدابير، رغم طابعها المؤقت، من كسر بعض الحواجز البنيوية أمام ولوج النساء لمراكز القرلر وفتحت المجال أمام بروز نخب نسائية جديدة.
وتعزيزًا لهذا المسار، شهدت القوانين الانتخابية والقانون التنظيمي المتعلق بالأحزاب السياسية تعديلات هامة لتكريس تمثيلية النساء في المؤسسات المنتخبة. فمنذ سنة 2002، شكّل اعتماد اللائحة الوطنية الخاصة بالنساء منعطفًا حاسمًا، مكّن عددًا متزايدًا من النساء من ولوج مجلس النواب. وقد تم لاحقًا تقوية هذا الإجراء عبر توسيع عدد المقاعد المخصصة واعتماد اللوائح الجهوية في انتخابات 2021. وعلى المستوى الحزبي، ألزمت التعديلات الأحزاب السياسية باعتماد آليات داخلية لترقية النساء داخل هياكلها، وضمان حضورهن في عمليات الترشح والقيادة. وقد ساهمت هذه الإصلاحات، التي كانت مدعومة ياردة ملكية في تحديث الحياة السياسية و رفع بعض العراقيل البنيوية التي كانت تحدّ من مشاركة النساء، ودفعت بالفاعلين الحزبيين الى مراجعة خطاباتهم وممارساتهم بشأن المساواة. رغم استمرار التحديات المرتبطة بتفعيل هذه التمثيلية على المستوى العملي، وبولوج مواقع القرار الفعلي، فإن هذه المكاسب التشريعية تُعدّ دون شك أرضية لا بد من ترسيخها وتعميقها.
لقد كان لتلك السياسات العمومية التي أُطلقها وأشرف عليها جلالة الملك محمد السادس أثر ملموس وواضح على واقع النساء في المغرب، وإنّ تدعيم المكتسبات لم يكن ممكنًا بدون مقاربة شمولية تراعي مختلف أبعاد التغيير. فعلى الصعيد السياسي، شهد المغرب قفزة نوعية في تمثيلية النساء في المؤسسات المنتخبة؛ إذ ارتفعت نسبة النساء في مجلس النواب من حوالي 1.8% عام 1997 إلى ما يقرب من 21.3% بعد انتخابات 2021، بفضل آليات التمييز الإيجابي مثل القوائم الوطنية والجهوية المحجوزة للنساء. كما تضاعف حضور النساء في المجالس الجماعية والجهوية، حيث بلغ تمثيلهن نحو 20%، ما ساهم في تعزيز صوت المرأة في صناعة القرار السياسي على المستويين المحلي والوطني.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد تحسنت مشاركة النساء في سوق الشغل، إذ ارتفعت نسبة النشاط الاقتصادي النسائي من 19.8% سنة 2004 إلى نحو 22.5% في 2023، رغم بقاء فجوة كبيرة بين الجنسين. كما سجلت المرأة تحسناً في ولوج القطاعات غير التقليدية وفي المقاولات النسائية التي أصبحت تشكل حوالي 15% من مجموع المقاولات المسجلة، مع تنامي برامج الدعم المالي والتكوين التي أطلقتها الدولة لدعم المبادرات النسائية. غير أن التحديات ما زالت قائمة، خاصة فيما يتعلق بمعدلات البطالة في اوساط النساء (14.3% مقابل 9.1% لدى الرجال) وظروف العمل غير المستقرة.
في الجانب الاجتماعي، مكنت السياسات العمومية من تقليص نسب الأمية بين النساء، حيث انخفضت من حوالي 54% في مطلع الألفية إلى أقل من 29% في 2020، مع تسجيل نسب نجاح أعلى للفتاة في التعليم الابتدائي والثانوي. كما أنَّ التوعية والقوانين الحديثة ساهمتا في زيادة الوعي بحقوق النساء ومحاربة الظواهر السلبية كالزواج المبكر الذي انخفضت نسبته إلى 15%، والعنف القائم على النوع، حيث تم إحداث مراكز الاستقبال والحماية التي استفادت منها آلاف النساء ضحايا العنف.
أما من الناحية الثقافية، فقد تحسنت صورة الم و برزت نساء قدن مبادرات ثقافية وفنية وحقوقية مميزة، ما ساعد على كسر الصور النمطية وتعزيز نموذج المرأة الفاعلة والمبدعة في المجتمع. كما دعمت برامج الدولة الفاعلة اللغة والثقافة الأمازيغية التي تعزز الهوية والخصوصية الثقافية للنساء في المناطق الريفية، ما ساهم في تعزيز انتمائهن وتمكينهن من التعبير عن ذواتهن.
ورغم المكاسب المهمة التي تحققت في مجال حقوق النساء بالمغرب، تظل العديد من الإشكالات والتحديات قائمة، تعرقل تحقيق المساواة الكاملة. فمن الناحية السياسية، ما زالت النساء تعانين من تمثيلية غير كافية في بعض المواقع الحقيقية لصنع القرار، حيث تبقى بعض المناصب الحساسة بعيدة عن متناولهن، مما يعكس نوعًا من التمثيلية الشكلية وعلى المستوى الاجتماعي، تستمر ظاهرة العنف ضد النساء بمختلف أشكاله، سواء كان جسديًا أو نفسيًا أو جنسيًا، ولا تزال حالات التحرش الجنسي في الفضاءات العامة والخاصة تمثل آفة مزمنة، تتطلب جهودًا قانونية وتربوية أكبر. وفي المجال الاقتصادي، تواجه المرأة المغربية تحديات عميقة تتعلق بالتهميش في سوق الشغل، والفجوة الكبيرة في الأجور بين الجنسين، إضافة إلى ضعف تمثيلها في المناصب القيادية والمهن ذات الأجور العالية. كما تكشف المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أن السياسات العمومية، رغم الدعم الملكي القوي، لم تتمكن بعد من تجاوز بعض الاختلالات البنيوية التي تؤثر على فعالية برامج التمكين النسائي. هذه المعطيات تدعو إلى إعادة تقييم معمقة لمناهج التنفيذ، وتعزيز آليات المتابعة والتقويم، مع تأكيد ضرورة التزام الجميع، من مؤسسات وحكومة ومجتمع مدني، بتكثيف الجهود من أجل بناء مجتمع مغربي متوازن يُكرم ويعزز مكانة المرأة في جميع المجالات.
و تُشير العديد من الدراسات و التقارير الوطنية، ومن بينها التقارير الصادرة عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، والمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي (IRES)، إلى أن استمرار بعض التحديات المتعلقة بحقوق النساء يعود إلى تراكم عوائق بنيوية وثقافية واجتماعية وسياسية. فمن الناحية البنيوية، لا تزال بعض القوانين والممارسات مؤثرة في تكريس الفوارق بين الجنسين، بالإضافة إلى ضعف البنية التحتية الداعمة لتمكين النساء، كشبكات الحماية الاجتماعية وفرص التعليم والتكوين المهني، خاصة في المناطق الريفية والهامشية. أما من الناحية الثقافية، فتتغذى هذه المعوقات على أنماط اجتماعية وتقليدية متجذرة تكرس أدوارًا نمطية تحد من حرية اختيار المرأة ومسارها المهني والاجتماعي، مما يعوق التغيير السريع في السلوكيات والمواقف المجتمعية. كما أن نسبة تمثيلية المرأة في المجتمع السياسي والاقتصادي لا تعكس بعد تنوع النساء وطموحاتهن، مما يحد من قدرتها على التأثير في القرارات المصيرية.
وتشير الدراسات إلى أن غياب التنسيق الفعّال بين مختلف القطاعات، وضعف المتابعة والتقييم المستمر للسياسات العمومية، يساهم أيضًا في ضعف تنفيذ الإصلاحات وفاعليتها. من جهة أخرى، تؤكد هذه التقارير أن من أهم المحركات الممكنة لتجاوز هذه العقبات هو تعزيز التعليم والتكوين الموجه نحو المساواة، وتوسيع برامج الحماية الاجتماعية والدعم الاقتصادي، بالإضافة إلى إرساء حكامة جيدة تقوم على الشفافية والمساءلة وتفعيل آليات المشاركة السياسية والاقتصادية للنساء. كما يُبرز الخبراء ضرورة العمل على تغيير الخطاب الثقافي والاجتماعي من خلال حملات توعية مستمرة تستهدف جميع الفئات، مع تمكين المرأة من الموارد والمعرفة التي تؤهلها للمساهمة الفاعلة في الحياة العامة. ويُعتبر تطوير التشريعات ذات الصلة، وخاصة تلك التي تتناول العنف ضد النساء وحقوق العمل، أحد الدعائم الأساسية للنهوض بالوضعية النسائية. و يشكل تضافر الجهود بين الطبقة السياسية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، والمنظمات الدولية، شرطًا أساسيًا للتقدم نحو مجتمع أكثر عدلاً ومساواة.
و لا ينبغي أن تبقى قضية المرأة قضية النساء فقط، بل يجب أن ترتقي لتصبح أولوية وطنية كبرى، كما عبّرت عن ذلك الإرادة الملكية السامية. فالمرأة ليست نصف المجتمع فقط، بل هي عماد التنمية ومحرك التقدم و اساس تماسك المجتمع. إن تحقيق حقوق النساء وتمكينهن هو مسؤولية مشتركة تهم كل أبناء الوطن، لا يمكن لأي جهة بمفردها أن تتحملها أو تحققها. علينا أن نعمل معًا، يدًا بيد، لنضمن أن تنعم هذه النصف بالمساواة والكرامة والفرص، لأن ذلك ليس فقط مطلبًا ديمقراطيًا بحتًا، بل هو ركيزة أساسية لاقتصاد قوي وفعال، وضمان لمكانة مشرفة لوطننا في محافل العالم. فالنهوض بحقوق المرأة هو ضمان لاستقرار مجتمعنا وتقدمه، ورافعة حقيقية لنشر قيم العدل والإنصاف والازدهار. وبهذا الفهم العميق، نستلهم إرادة جلالة الملك محمد السادس، ونلتزم جميعًا بأن نجعل من قضية المرأة همًّا جماعيًا يلامس وجدان كل مواطن ومواطنة، ونسعى بحزم وإصرار نحو مغربٍ أكثر عدلاً، وأكثر إشراقًا، وأكثر إنسانية.
خديجة الكور
رئيسة منظمة النساء الحركيات
اترك تعليقاً