مجتمع

“النخيلة”.. تجزئة سكنية بالخميسات تنتظر تراخيص البناء منذ أكثر من 20 سنة (فيديو)

تلعثم لسان الشيخ السبعيني الهاشمي محمد واختنق صوته بالعبرات، خلال حديثه لـ”العمق” عن معاناته مع هذا السكن الصفيحي، في ظل الحرمان من تراخيص البناء على الرغم من امتلاكه لقطعة أرضية بتجزئة “النخيلة” منذ أكثر من 20 سنة، ناهيك عن فقره المدقع الذي يشي به كل شيء يحيط به هنا. فحاول أن يداري دموعه بالصمت مليا، لكن صوته المتهدج كشف كل شيء.

أكثر من عقدين

هنا في هذا المكان المسمى “النخيلة” بجماعة البراشوة، على بعد 56 كيلومترا من العاصمة الرباط، تنبت دور إسمنتية بعضها غير مكتمل البناء، تتناثر إلى جانبها العديد من الأكواخ الصفيحية، تتجرع تحت سقوفها الواطئة العشرات من الأسر كؤوس المعاناة منذ عقود من الزمن.

تصوير ومونتاح: رشيدة أبومليك
سكان هذه الأكواخ، كانوا قد استبشروا خيرا بسكن يحفظ كرامتهم سنة  1992، عندما قرر المجلس الجماعي، في إطار سعي الدولة لمحاربة دور الصفيح، إحداث “تجزئة النخيلة”، آنذاك استفادوا من قطع أرضية بناء على مجموعة من المعايير، قبل أن يتم إطلاق تراخيص البناء سنة 1997، بعدما تم تجهيز التجزئة السكنية.

لكن حلم هذه الأسر بسكن يأويها ويحميها حر الصيف وبرد الشتاء وأمطاره، اصطدم بتوقيف فجائي للتراخيص الممنوحة، بعد بناء دور قليلة دون اكتمالها، إذ تبين لاحقا أن القطعة الأرضية التي استقر عليها المشروع السكني تدخل ضمن الملك الخاص للدولة. ومنذ ذلك الوقت وهؤلاء السكان يجترون معاناة لم تنفع معها احتجاجات ولا مراسلات للسلطات المحلية والإقليمية والحكومية حتى.

كهولة فشيخوخة

يمشي الشيخ السبعيني، الهاشمي محمد، في طريق مترب محفوف بأشجار الصبار، نالت نعاله نصيبها من ترابه. يدلف عبر باب كوخه القصديري، ثم تنشغل يداه بربط أسلاك كهربائية مهترئة، وما هي إلا لحظات حتى يضيء مصباح صغير كاشفا عن مكان قد يصلح لأي شيء إلا السكن.

عندما تقرر إحداث هذه التجزئة نهاية التسعينات من القرن الماضي، كان الهاشمي محمد، الذي استفاد من قطعة أرضية فيها، ما يزال كهلا، وها هو اليوم على مشارف الثمانين من عمره ولم يجد بعد سبيلا لبناء بيت يخلصه من سيول الماء التي تغمر كوخه كلما جادت السماء خلال فصل الشتاء، ومن أشعة الشمس التي يصيّرها السقف الصفيحي لهيبا حارقا كل صيف.

“الحكرة هي هادي، خاص الدولة تشوف فينا”، يقول الهاشمي بنبرة متهدجة تراوح بين الشكوى والاحتجاج وهو يغالب دموعه، “لا خدمة لا فلاحة لا كسيبة، تنعيشو غير مع الناس”، مطالبا بتمكينه وباقي المستفيدين من التجزئة من رخص البناء، وأيضا “يعطيونا فين نخدمو”. وواصل كلامه منبها إلى صعوبات ومخاطر هذا النوع من الأكواخ حيث يسكن، “القطرة علينا. وإذا شعلات العافية تنخافو توصلنا”.

مساكن صفيحية

على بعد خطوات من مسكن هذا الشيخ، تدفع السعدية بابا قصديريا صيره الصدأ بنيا، ثم تدخل حوشا محاطا بسور قصديري، فتخطو خطوات لتفتح بابا آخر لا يختلف عن الأول، يقود إلى كوخ صفيحي يكتنفه الظلام، وتحوله سياط الشمس المسلطة عليه إلى فرن، فيما تظهر كوى كثيرة وصغيرة في سقفه كنجوم في ليلة حالكة.

تحاول السعدية أن توضح حجم معاناتها ومدى فقرها فلا يسعفها لسانها، لكن كل شيء في كوخها ينطق بلغة فصيحة.. باب عبارة عن صفيحة معدينة رقيقة صدئة يصدر قعقعة مزعجة كلما فتح أو أغلق، يجد الداخل عبره نفسه تحت سقف واطئ مشكل من صفائح عدة، تستقبله على اليمين أوان بسيطة للطبخ، وعلى مقربة منها بطارية سيارة تستعمل كمصدر للطاقة الكهربائية، بينما توزعت في المكان أفرشة متواضعة، كما تكومت أخرى في ركن من المسكن.

فهذه المرأة الأرملة، وهي المعيل الوحيد لإبنيها بعد وفاة زوجها، تطالب السلطات المحلية بإيجاد حل لهذا المشكل الجاثم على صدور السكان قبل أكثر من عقدين من الزمن، منبهة في الوقت ذاته إلى مشكل البطالة المتفشية بكثرة وسط شباب المنطقة.

وضعية الكبيرة المهاري، وهي سيدة في أواخر عقدها الخامس، أكثر تعقيدا من وضعية جارتها السعدية، تحكي هذه المرأة  أنها تعيش في غرفة رفقة 5 أشخاص، بينهم طفلان يعانيان من إعاقة ذهنية وزوج وشاب عاطلين عن العمل. تطالب، مثل باقي جيرانها، بتمكينها من تراخيص البناء، وإيجاد حل لمشكل هذه التجزئة الذي عمر طويلا، وهو نفس المطلب الذي ردده العديد ممن التقتهم “العمق” هنا، وبينهم  المعطي المسعودي، ومصطفى المسعودي ، اللذان يتوفران على قطعتين أرضيتين بالتجزئة لكن لم يجدا سبيلا لبناء مسكنيهما.

“أصلي جالسة حتى لا يصطدم رأسي بالسقف الصفيحي”، هكذا تحدثت بحرية لـ”العمق”، وهي امرأة تجاوزت عقدها السادس، قائلة إن الفقر وظروف السكن غير اللائقة تضافرا ليصيرا حياتها جحيما: “حنا هنا ضايعين، لا خدمة لا سكن.. ولدي في الحبس والآخر عاطل عن العمل وأنا مريضة ولا أملك بما أعالج به نفسي”.

مراسلات وشكايات

علال لعرج واحد من المتضررين من توقيف البناء في هذه التجزئة، أسعفه تعليمه الجامعي وتكوينه القانوني في إعداد العديد من المراسلات للسلطات المحلية والإقليمية والحكومية، والتواصل مع المتضررين والتنسيق بينهم، راكضا وراء أمل في تجاوز هذه الوضعية التي هاضت العشرات من الأسر.

“وجهنا مجموعة من الشكايات للجهات المعنية، على رأسها المجلس الجماعي للبراشوة، وعمالة الخميسات, كما راسلنا وزارة الداخلية وولاية جهة الخميسات ومؤسسة الوسيط”، يقول لعرج لـ”العمق” متحدثا عن جملة الشكايات والمراسلات التي قام بها السكان، وهي الوثائق التي تتوفر الجريدة على نسخ منها.

“هذه الأمور كلها لم تأت بنتيجة، باستثناء مؤسسة الوسيط التي أصدرت توصية لعامل الخميسات توصي فيها بضرورة إيجاد حل عاجل لهذا المشكل، لكن للاسف هذه التوصية ظلت دون تفعيل”، يقول المتحدث مجددا مناشدته لوزير الداخلية ورئيس الحكومة، كما ناشد الملك لانصاف الساكنة، موضحا أ “جيل الآباء توفي، ونحن جيل الاأناء أصبحنا كهولا”، ومازال المشكل قائما.

ودعا المتحدث السلطات المحلية والإقليمية بالخميسات والمجلس الجماعي للبراشوة إلى الوفاء بالتزاماتها بتسوية الوضعية القانونية والعقارية لهذه التجزئة، والافراج عن الرخص التي احتجزت لأكثر من 20 سنة. فهذه التجزئة السكنية التي تم إحداثها في تسعينيات القرن الماضي، وعلى إثرها تم استخلاص مبالغ مالية من الساكنة بلغت 1500، تحولت اليوم “نقطة سوداء” بسبب. هذا المشكل.

فتوقيف تراخيص البناء للساكنة، يقول علال لعرج، “ولد مشاكل خطيرة تعاني منها الساكنة؛ منها توقف التنمية وتكريس الفقر والهشاشة والبؤس، ومنها كذلك هجرة الكثير من الأشخاص، وهذا شكل ضغطا على المدن وترك المنطقة تعيش في براثن الفقر، ناهيك عن انتشار تعاطي المخدرات بين العديد من الشباب”.

أشواط مهمة

“منذ أن توليت هذه المهمة وهذا الموضوع صمن صلب اهتماماتنا”، يقول رئيس جماعة البراشوة رشيد القدراوي في تصريح لـ”العمق”، مشيرا إلى أنه اكتشف أن الجماعة لا تتوفر على وثيقة تعمير، “منذ ذلك الوقت ومجهوداتهنا تصب في هذا الاتجاه”.

طرق القدراوي، بحسب ما صرح به لـ”العمق”، جميع الادارات المعنية بملف النخيلة، إذ كانت أول خطوة هي تفقد هذا الملف بمركز الاستثمار لحوالي خمس مرات بصحبة تقني الجماعة، “وخلال آخر لقاء بمدير مركز الاستثمار، قال إن هذه التجزئة قائمة وفيها كافة التجهيزات الضرورية، ووجهنا إلى حل هذا الملف مع مديرة أملاك الدولة”.

“مباشرة من مركز الاستثمار توجهت إلى المدير الجهوي لأملاك الدولة، فطالبني بجدول لجميع القطع الأرضية التي في نفوذ الجماعة وفي ملكية الدولة”، يقول القدراوي، “حاليا بالمقارنة مع مر فالملف تم الإفراج عنه من مكتب الاستثمار ولم يعد ملزما بعدد من الشروط”.

واستدرك، “لكن هناك مساطر، تقتضية خروج  لجنة تقييم تقدر قيمة الأرض، بعد  تنازل رئيس الودادية للجماعة للاضطلاع بالملف، لأن الودادية إذا تابعت الملف لن يحل ولا يمكن حله”.

القدراوي أكد أن الملف قطع أشواطا مهمة، مضيفا أن الجماعة هي من لها الحق لتفويت الأراضي في صالحها، “والودادية تبقى قائما إداريا لديها منخرطيها. الملف لم يعد بالرباط هو الآن لدى المدير الإقليمي لمديرية أملاك الدولة، وقد قمنا بجل الإجراءات”.

ويطلب من الجماعة، بحسب القدراوي، أن تعد ملفا يتضمن مجموعة من الوثائق، من بينها وثيقة التعمير وتنازل رئيس الودادية بالإضافة إلى مقرر للمجلس الجماعي، إذ أن “هذه العملية يجب أن يصادق عليها في دورة للمجلس”.

مسيرة طويلة

هشام السملالي واحد ممن عايش هذا المشكل منذ طفولته، هو اليوم شاب في الثلاثين من عمره ومزال ينتظر حلا، يحكي لـ”العمق” أن حناجر المتضررين بحت ولم يتلقوا شيئا غير الوعود. فهذا الشاب والكثير من أقرانه الذي يعمل بشكل موسمي في قطاع الفلاحة، سيتجاوز هذا المشكل حتما، عاجلا أم آجلا، لكن تنتظره مسيرة، قد تكون طويلة وشاقة، للهروب من الفقر والبطالة والهشاشة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *