وجهة نظر

إبداع التديـــــن وتديـــن الابــــــداع ..

 إبراهيم عبدالله صرصور ***

في معمعة النقاش الذي يطفو على السطح كثيرا من الأحيان وبطرق مختلفة في شارعنا العربي والاسلامي وفي صالوناته المتخصصة وغير المتخصصة، حول مسألة الابداع وعلاقته بالدين، نرى التيار العلماني الاستئصالي يتهم وبلا دليل ( الدين ) عموما والإسلام بشكل خاص بوقوفه في وجه الابداع وسعيه لتجفيف منابعه وحصار قلاعه وسد منافذه.

وجدت في تراث شهيد الفكر الإسلامي سيد قطب – رحمه الله –  ما يشفي الغليل في الرد على هؤلاء بشكل لا اعتقد ان أحدا يقدر عليه غير سيد قطب ، فيقول في مقدمته لتفسيره العبقري ( في ظلال القرآن ) :

“هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ، ثم يقولون لها: اختاري !!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة، وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج الله !!! وهذا خداع لئيم خبيث، فوضع المسألة ليس هكذا أبدا. إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني، إنما هو منشئٌ لهذا الإبداع وموجه له الوجهة الصحيحة ، ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض. هذا المقام الذي منحه الله له، وأقدره عليه، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه فيه، وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه، ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع، على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة ، وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله .” …انتهى ..

سأستبق الاحداث للإشارة إلى ان ما يعنيه (الابداع) في منظور العلمانيين الاستئصاليين العرب والمسلمين (لتمييزهم عن الاخرين المتنورين)، لا يعدو ان  يكون كَمَّا زائدا بقدر المستطاع من الانحطاط الأخلاقي والاسفاف الفكري والإرهاب القيمي الذي لا يتجاوز في أشكاله السائدة (جسد المرأة) وما يُنْسَجُ حوله من  عوالم المواخير وغرز الحشيش والعري والاباحية وطغيان الغرائز من جهة، والتمرد على عقيدة الامة وتاريخها وحضارتها وهويتها واعرافها الجميلة وتقاليدها الراسخة ورموزها الخالدة وثوابتها المُؤِّسِّسَة من الجهة الأخرى ..

من الملاحظ ان الابداع في عرف هؤلاء لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالاختراعات العلمية والابداعات الأدبية والإنجازات الحضارية التي سبقنا بها الغرب بأشواط. بل على العكس تماما، فهم يحاربون الابداعات العلمية والفنية الراقية بسبب شعورهم بالنقص في مواجهة عبقرية أصحابها التي يرون فيها الضوء الكاشف لانحطاطهم والفاضح لسقوطهم المدوي، الأمر الذي يدفعهم إلى العمل على إطفائها ما استطاعوا الى ذلك سبيلا، فنراهم اسبق الناس إلى إسناد الدكتاتوريات ودعم  أنظمة الاستبداد التي تقتات بدورها من (قيئهم) لتخدير الشعوب وإحكام السيطرة عليها والتحكم بها وصياغة هويتها بما يخدم مصالحها، وضرب قوى الابداع الحقيقي من رواد الفكر الثوري والابداع الحضاري ( إسلاميين وعلمانيين متنورين)، الذين يرون في الاستبداد وعكاكيزه العقبة الكأداء في طريق النهضة الحقيقية للامة، والمعوق الأساس لقيامها واستعادة مكانتها من جديد كقوة رائدة في الوجود كأمة واحدة صاحبة رسالة خالدة.  الابداع الحقيقي بهذا المعنى عدو الدكتاتورية والاستبداد، و (الابداع!) المزيف هو خادمها الذي يغسل على قدميها ويبشر بظلمها على انه الخَلاص وبجرائمها على انها ضمانة الامن والاستقرار.

منذ بدايات مراحل الاستقلال العربية وحتى الآن، حرصت الأنظمة المستبدة على الترويج (للإبداع!) الخاص بها كما عَرَّفْتُهُ سابقا، وربت على عينها جحافلَ من العلمانيين الذين لا صلة لهم بالإبداع وأصوله وفلسفته، ووضعوا في أيديهم مؤسسات الامة الثقافية والتوجيهية من وزارات الثقافة ووسائل الاعلام والتوجيه المعنوي على اختلاف شكالها وانواعها، إضافة إلى صناعة السينما والمسرح، فعاثوا فيها فسادا خدمة لنفوسهم المريضة وتنفيذا لأجنداتهم الهدامة، وإرضاء لأسيادهم من الحكام المتجبرين والمستبدين، حتى تحولت هذه المؤسسات الأشد خطورة في بناء الأمم ونهضتها، في أيديهم الى معاول هدم وفؤوس تدمير لقلاع الامة الحصينة،  فكانوا بذلك جزءا لا يتجزأ من الكوارث التي حلت بالشعوب العربية والإسلامية عسكرية كانت او سياسية او حضارية، حتى ما عاد لها ثقل مهما كان نوعه في موازين الحضارة والسياسة كما نرى اليوم.

رفع مدعو الابداع هؤلاء لبلوغ غاياتهم وتحقيق أهدافهم الخيانية لافتةً من اعجب اللافتات يظنون انهم قادرون بها على إقناع الشعوب الرافضة لهم ابتداء ب ( دينهم !! ) الجديد! على هذه اللافتة مكتوب : ” التدين والإبداع لا يلتقيان “،  وهذه – وأيم الله – فرية كبرى وكذبة عظمى يدحضها الواقع ويُعريها التاريخ وتصفعها الادلة  العقلية والنقلية .. وذهبوا في الترويج لهذه الفرية حَدًّ تخيير الامة بين “الابداع!” حسب تعريفهم الوضيع له، وبين الدين، ويا ليتهم تركوا للامة ان تختار! العكس هو الصحيح، لم يخيروا الامة  لكنهم فرضوا عليها وصايتهم وقالوا لها ما قال فرعون يوما : ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أرى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ) .. بل تجاوزوا فرعون في إلغائه لعقل شعبه فجعلوا السجون والتعذيب وتشويه الصورة واغتيالها معنويا، وسيلتهم إلى قمع القناعات واضطهاد الابداعات المخالفة والمنحازة الى هوية الامة وحضارتها العريقة، وحصار الارادات الحرة.

“التدين والإبداع لا يلتقيان”، شعار اتخذه الكثير من العاملين في المجالات الفنيَّة (والإبداعيَّة!!) كمصوغ فلسفي، يبيحون لأنفسهم من خلاله الانطلاق دون قيود دينية واخلاقية وقيمية تحترم  موروث الامة، للتعبير عما يسمونه ابداعا، وكأساس فكري نظري يستندون إليه في الدفاع عن هذا الابداع البِدْعِي. دليل ذلك ان الغالبية الساحقة من مُنْتَجِ هذا المشروع الضال والمضلل عقلا ومنطقا، ساقط بكل المعايير الإنسانية والمهنية وليس فقط الدينية. لذلك لا نتردد في القول أن هذه اللافتة التي يرفعها هؤلاء إنما جاءت كتعبير عن ردةَ فعلٍ مِن قِبَلهم تجاه المعايير والضوابط الشرعية، وليس انعكاسًا حقيقيًّا للتعبير عن موقف الدِّين من الإبداع والمبدِعين.

ليس ادل على ذلك من الصورة النمطية التي ترسخت في وعي عامة الناس في شارعنا العربي والإسلامي ل – (المبدع!) الجديد، حتى بات مفهوم ( الابداع الفني) مرتبطا في اغلبه الساحق بالانحلال الاخلاقي، والحياة العبثيَّة، وأضحت صورة (المبدع) ليس اكثر من فوضويٍّ متهتك شكلا ومضمونا لا يلتزم بأخلاق ولا بقيم، يتفاخر علنا بارتكاب المخالفات واجتراح السيئات ومعاقرة الخمر وإقامة العلاقات الجنسية المحرمة، مستهتر بالحياة الاسرية، فاقد للإحساس بهموم الامة وغير مبال بمعاناتها، غارق في الملذات لا يعنيه في هذه الدنيا الا المزيد منها لا غير.

هل هذا هو الابداع الذي نريده فعلا كأمة تعاني الامَرَّيْن ، وتواجه حرب إبادة على ايدي عملاء الداخل من الحكام المستبدين، وعلى أيدي اعداء الخارج ، وتدفع ثمنا باهضا من الدماء والاشلاء والمقدرات والالام والاوجاع وهو تكافح دفاعا عن كرامتها وهويتها ووجودها وحريتها ؟!!

طبعا لا ..

أذا، أي نوع من الابداع نريد ؟ ما هي معاييره؟ ما هي أهدافه؟ ما هي وسائله؟ وهل للدين دور في ترشيده وتوجيهه وإثرائه؟

مفهوم الابداع من المنظور الإسلامي عميق عمق الحياة والاخرة، وهو بطبيعته ليس عنصريا ( عربي واسلامي)، لكنه مفهوم إنساني يعتبر كل أبداع إنساني لا يتعارض مع ضوابط الدين وقواعده العامة، جزءا من الابداع الذي يلتزم به الإسلام ويتبناه ويعمل على ترويجه، لأنه ببساطة اعتبر كل منتج يرقى بالنفس البشرية ويسمو بها جزءا من مفهوم العبادة ووسيلة من وسائل التقرب الى الله ..

نظرة سريع الى تاريخ المسلمين الذي لم يخل من أخطاء كبيرة وخطيرة على اعتباره تجربة إنسانية يعتريها ما يعتري غيرها من التجارب البشرية، يضعنا امام حقيقة لا يمكن انكارها ..

الإسلام الحنيف أسس لثقافة جعل في جوهرها التدين إبداعا والابداع متدينا، فكان الابداع في بناء الانسان أولى أهدافه ، حتى أصبح ل – “إبداع التدين” في مرحلة تأسيس الكيان الإسلامي الأول في تاريخ البشرية، نتيجته المباشرة التي نقلت العرب في صحرائهم من فتات لا قيمة له ومن رعاة للغنم (ليس استخفافا برعاية الغنم وقد كان الرسول راعيا)، إلى سادة للشعوب وقادة للأمم.

في المقابل جعل الإسلام من “تدين الابداع” رافعة النهضة التي أسست لأعظم حضارة عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل، انفتح من خلالها المسلمون على حضارات العالم ينهلون من ابداعات الإنسانية حولهم مستفيدين منها ومضيفين عليها، حتى أضحت قلاعهم العلمية والحضارية عنوان العالم بما فيه الأوروبي، وأصبحت إبداعاتهم في العلوم والفنون قبلة عشاق المعرفة من كل الدنيا، وشكلت فيما بعد الأساس لنهضة أوروبا والعالم.

 يكفيني في نهاية مقالي ان أسوق بعضا من شهادات عباقرة الغرب حول ما اسميته “إبداع التدين” و “تدين الابداع” كما رأوه بعيونهم الغربية وعقولهم الحيادية والأكاديمية.

المؤرخ الانجليزي ويلز : كل دين لا يسير مع المدنية فى كل أطوارها فاضرب به عرض الحائط، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع المدنية أينما صارت هو الإسلام.. ومن أراد الدليل فليقرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية وقوانين اجتماعية، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخلق وتاريخ، وإذا طُلِب مني أن أحدد معنى الإسلام فإنني أحدده بهذه العبارة     (الإسلام هو المدنية)..

المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة: “إن هذه القفزة السريعة المدهشة في سلم الحضارة التي قفزها أبناء الصحراء ، والتي بدأت من اللا شيء لهي جديرة بالاعتبار في تاريخ الفكر الإنساني… وإن انتصاراتهم العلمية المتلاحقة التي جعلت منهم سادة للشعوب المتحضرة لفريدة من نوعها ، لدرجة تجعلها أعظم من أن تُقارَن بغيرها ، وتدعونا أن نقف متأملين  كيف حدث هذا ؟! وكيف أمكن لشعب لم يمثل من قبل دورا حضاريا أو سياسيا يذكر، أن يقف مع الإغريق في فترة وجيزة على قدم المساواة؟.” .

المفكر النمساوي ليوبولد فايس : “حسب المسلمين أنهم كانوا مثالاً للكمال البشري ، بينما كنا مثالاً للهمجية”..

الروائي والناقد الفرنسي اناتول فرانس : “أسوأ يوم في التاريخ هو يوم معركة (بواتييه) عندما تراجع العلم والفن والحضارة العربية أمام بربرية الفرنجة ، ألا ليت شارل مارتل قطعت يده ولم ينتصر على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي” ..

المؤرخ والكتاب الفرنسي إرنست رينان : “ما يدرينا أن يعود العقل الإسلامي الوَلود إلى إبداع المدنية من جديد؟ إن فترات الازدهار والانحدار مرت على جميع الأمم بما فيها أوربة المتعجرفة” ..

المؤرخ البلجيكي جورج سارتون : “المسلمون عباقرة الشرق ، لهم مأثرة عظمى على الإنسانية ، تتمثل في أنهم تولّوا كتابة أعظم الدراسات قيمة ، وأكثرها أصالة وعمقاً ، مستخدمين اللغة العربية التي كانت بلا مراء لغة العلم للجنس البشري… لقد بلغ المسلمون ما يجوز تسميته =معجزة العلم العربي”.. .

الباحث اليهودي فرانز روزينتال : “إن ترعرع هذه الحضارة هو موضوع مثير ومن أكثر الموضوعات استحقاقًا للتأمل والدراسة في التاريخ. ذلك أن السرعة المذهلة التي تم بها تشكل وتكوّن هذه الحضارة أمر يستحق التأمل العميق، وهي ظاهرة عجيبة جدًّا في تاريخ نشوء وتطور الحضارة، وهي تثير دومًا وأبدًا أعظم أنواع الإعجاب في نفوس الدارسين. ويمكن تسميتها بالحضارة المعجزة، لأنها تأسست وتشكلت وأخذت شكلها النهائي بشكل سريع جدًّا ووقت قصير جداً، بحيث يمكن القول إنها اكتملت وبلغت ذروتها حتى قبل أن تبدأ.” ..

تعالوا حتى نعترف ان الطريق الأقصر لنهضتنا لا يمكن ان تتم الا عبر هذه البوابة التي صنعت من شعوبنا امة مبدعة صنعت تاريخا وعلى مدى نحو 14 قرنا، فلما نجح الغرب وعملاؤه من أبناء جلدتنا في سلخ الامة عن أسباب قوتها عادت سيرتها الأولى فتاتا لا قيمة له تلهث وراء السراب منقطعة النفس، تعيش تحت اقدام غيرها راضية بالعيش في الحفر بينما مكانها الذي حدده الله لها هنالك بعيدا بعد النجوم!

*** الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *