وجهة نظر

في ذكرى رحيل الأيقونة “علي عزت بيغوفيتش”

“… و لكن قبل أن نحاول أن نصنف إشراقاته وأفكاره المختلفة، وقبل أن نكتشف عالمه الفكري لابد أن نشير أنه ليس مجتهدا وحسب، وإنما هو مجاهد أيضا…” بهذه الكلمات قدم الفيلسوف الإنساني الكبير عبد الوهاب المسيري عصارة فكر علي عزت بيجوفيتش التي أودعها في “الإسلام بين الشرق والغرب”.

في 19 من أكتوبر 2003م، ارتقت إلى بارئها روح رجل استثنائي لتستريح في ملكوت الله، مطمئنة لما قدمته للإنسانية طوال 78 عاما من بذل لم ينقطع يوما. فبيجوفيتش جمع كما قال المسيري بين الاجتهاد والجهاد، بين الفكر والسياسة، حمل هم الإنسانية جمعاء فيلسوفا، وشغله هم تحرر وطنه رئيسا.

قد يصعب على المهتم ببيجوفيتش السياسي، المتتبع لمسار تحرر البوسنة والهرسك تحت قيادة هذا الرجل، أن يستوعب أنه اشتغل بالفكر والفلسفة والتنظير، فكيف لرجل قضى كل حياته مناضلا ضد السياسة الشيوعية الشمولية الاستعمارية متمثلة في صربيا وحليفاتها آنذاك، تخللتها سنوات طوال في السجن، أعقبتها عودة للسياسة والعمل الحزبي وتوجت بتوليه رئاسة البوسنة والهرسك المستقلة، قلت كيف لسياسي بهذا الزخم النضالي والانخراط السياسي أن يخلف إنتاجات معرفية وفلسفية محكمة؟

وفي المقابل فإن المهتم بالفلسفة ونقاشاتها ومباحثها المتعرف على فكر الرجل وما خلفه من مؤلفات لازالت إلى اليوم تحتفظ بمكانتها في المكتبة العالمية، يصعب أن يخطر على باله أن صاحبها هو بيجوفيتش الرئيس، بل قد يظن أن الأمر لا يعدو كونه تشابه أسماء!

بيحوفيتش المفكر الفيلسوف خلف ثلاث كتب مشهورة والعشرات من المقالات، وقد أدى به نشاطه الفكري هذا إلى السجن بسبب كتابه “البيان الإسلامي” الذي كتبه ردا على “البيان الشيوعي” الذي أصدره كل من ماركس وإنجلز، فالسياسة الشمولية الإقصائية تعرف خطورة الفكر في نقض بنيانها وفي تأليب الأحرار عليها، خصوصا إن كان صادرا من رجل صادق.

لكن رجل الاجتهاد والجهاد لا يستطيع –وإن أراد- أن يكف عن العطاء والبذل والإنتاج، فكانت سنوات سجنه –لعله من حظنا نحن اليوم- ساعات وسنوات للكتابة، فقد خلف لنا وهو في محنته مغيبا في الزنزانة كتابه “هروبي إلى الحرية”. ففيلسوفنا علم أنهم يستطيعون أسر جسده، تقييد يديه، تكبيل قدميه وربما حتى عصب عينيه، لكن أنى لهم أن يسيطروا على فكره وأن يحدوا خياله الجامح الذي يتجاوز ذاك القالب المادي الذي يحتويه؟ علم كما قال هو نفسه “إذا لم أقتل الوقت فهو سيقتلني” وفعلا قتله بحثا وقراءة ومعرفة.

وهو كتاب يضم: خواطره في السجن، تأملاته في هذه الحياة، تفاعلا مع بعض الكتب التي قرأها وما أكثرها، تعليقات على الأفلام التي شاهدها… فيه كلام عن الحياة وواقع الإنسان بل فيه كلام عن الإنسان نفسه، فيه تعليقات عن الدين وتطرق للشيوعية والنازية التي استأثرت على حيز كبير من تفكيره ومن قلبه كرها، بسبب أعمال التطهير التي تقوم بها معتبرة الإنسان كأي مادة في الطبيعة وقال عنها معلقا:”لم تكن العمليات التطهيرية تنظر إلى البشر، وإنما إلى المادة البشرية، والمادة البشرية ليس لها شخصية أو روح”.

ولعل أهم إسهام فكري خلفه بيجوفيتش كتابه النفيس “الإسلام بين الشرق والغرب”، الذي أودع فيه عصارة سنوات من القراءة والتفكير والقلق المعرفي الذي يقض مضجع من خلق لكي يكون فيلسوفا يبحث في ما وراء المألوف سابرا غور الذي يظهر للسطحي عاديا مجليا أوجه الجمال للذي يظهر للأخرق نمطيا أو حتى قبيحا!

في هذا الكتاب، منافحة عن الإيمان والإنسان الذي تريد أن تغتاله المادية بفلسفاتها التي اختزلته في ثنائية المادة/الطبيعة واختار عوض ذلك ثنائية أكثر تفسيرية لتعقيد الإنسان وتركيبه الذي يمزج بين الجانب المادي فيه والجانب الروحي، فاختار ثنائية الإنسان/الرباني، وقد بين قصور الثنائية المادية في تفسير ظاهرة الإنسان ونزوعه الإلحادي من خلال جوانب عدة من بينها تأمل فريد في لوحات مايكل أنجلو، وفي ظاهرة الفن عموما واعتبرها شيئا مفارقا للجانب المادي في الإنسان، وفي التأمل في الإنسان البدائي وطرق صيده والطقوس المرتبطة بهذه العملية الحيوية في حياته آنذاك.

واهتم فيلسوفنا أيضا بمبحث مهم من مباحث الفلسفة ألا وهو مبحث “الأخلاق”، وحاول أن يبين ارتباط الأخلاق بالدين، واستحالة وجود إلحاد أخلاقي قائلا “يوجد ملحدون بلا أخلاق ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي”، ليخلص إلى “أن الأخلاق كمبدأ لا توجد بلا دين” وأن الأخلاق “ما هي إلا دين آخر”.

في هذا الكتاب وفي باقي مؤلفات الفيلسوف الراحل دليل واضح على كون الرجل أحد قامات الفكر المعاصر فقد استوعب الفلسفة الغربية من خلال قراءته العميقة والواعية والمبكرة لأمهات كتب الفكر الغربي القديم والمعاصر، خصوصا الفلسفي منه، فقد قرأ –كما يحكي على نفسه في إحدى الحوارات الصحفية- كتاب “نقد العقل المحض” لإيمانويل كانت على صعوبته وهو ابن الثامنة عشر عاما، كما قرأ في سن مبكرة كتاب شبنجلر “انهيار الغرب”… إضافة إلى اطلاعه على الفلسفة الغربية واستيعابه لها فقد فقه الفلسفة الإسلامية من خلال فهم ثاقب للإسلام يظهر في إشراقاته المنيرة في تدبر القرآن الكريم وفي طريقة تنزيله وفهمه لدوره حيث قال “يمكن للدين أن يؤثر في العالم الدنيوي إذا هو نفسه أصبح دنيويا”، فحاول أن يجعل القرآن حالا في واقع الناس يتفاعل مع إشكالاتهم و يبسط تعقيدات الحياة وينور دروبها.

هي كلمات أعلم أنها لا تعكس فكر الرجل ولا تقربه أيضا، ولا تجلي نضاله السياسي كما ينبغي، وأبتغي منها –فقط- آملا أن تسلط الضوء على هرم لا يعرفه الكثير، أو أن أذكر من سمع به لعله يعود فيمتح من فكره ويقتضي بنضاله في سبيل تحرر الإنسان من الفلسفات والسياسات التي تريد أن تخطف منه أغلى ما يملك “إنسانيته”، هو قدوة لرجل الفكر ونبراس لرجل السياسة، ومفخرة لكل شريف آثر أن يعيش عظيما رغم الشقاء على أن يعيش حقيرا أسيرا لأنانيته.