وجهة نظر

الخطيبي ناقدا ومفككا

يريد الآخر أن يؤطره داخل خانة معينة وضمن توجه ثابت لكنه ممتهن لقياس المساحات، منفلت من التنميط، يقيس دقائق الأشياء بمقياس الملاحظة العيانية والتجربة الذاتية، كما ينبش في الجزئي والمنسي والهامشي، يقيم هنا وهناك، ويرحل نحو مجالات ظلت على الهامش بالنسبة للفكر المتمركز على ذاته، تلك كانت نظرة السوسيولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي لذاته، ولمن يستفسرعن أيديولوجيته وأفكاره التي مافتئ يقدمها ويدونها في الكتب والحوارات، إنه محاور ومفكك وقارئ للرموز والعلامات، يرغب كما العادة في التصنيف والتقسيم بحكم انتمائه إلى مجال العلوم الإنسانية، وبحكم الريادة في مجال الإبداع الأدبي والشعري والسيميائي. كتب الخطيبي عن القضايا الجوهرية الخاصة بالمغرب والعالم العربي، كتب عن الآخر والذات، أعاد الاعتبار للجسد وللثقافة الشعبية، عشق الخطيبي الكتابة عن الهامشي، الحديث  عن الأمثال والوشم، وكتاب الروض العطر للنفزاوي وألف ليلة وليلة… طموحه ولوج الحداثة بالتدريج والتعلم، يقبل فكرة الديمقراطية والفصل بين الديني والدنيوي باعتبار الديمقراطية مدرسة للحكام والمحكومين، فكرة الديمقراطية يمكن بناؤها من الجزء نحو الكل أي من المجتمع المدني وفاعلية التنظيمات والمؤسسات نحو الدولة كتنظيم كلي، مسألة المجتمع المدني والحريات أساسية في عملية بناء المجتمع والفرد معا، ويمتلك المفكر المغربي القدرة على إقامة التضاد بين الثنائيات المركزية التي جعلت من الفكر الأحادي مطلقا ومهيمنا في التحليل والتفسير، ثنائيات من قبيل الماضي والحاضر،التقليد والحداثة،الاتصال والانفصال،الغرب والشرق،الأنا والآخر، التطابق والاختلاف، لا بد من النقد المزدوج، ويجب أن ينصب هذا النقد بالدرجة الأولى على الذات، إذ لا يمكن أن يكون المغربي أو العربي بشكل عام راغبا في التفاوض أو ركوب أمواج الحداثة دون أن يكون متصالحا مع ذاته، الذاكرة بوصفها منبع للصور والذكريات، وكل ما ترسخ من أفكار ومسلمات، أن تتغير الذاكرة باستمرار دون التغذي على الماضي أو إسقاطه بشكل عمودي على الحاضر، القطيعة هنا معرفية وسياسية واجتماعية، فكان الخطيبي يدعونا إلى المواكبة والاستجابة لروح العصر دون السقوط في النزعة التاريخية، وقراءة الحاضر بناء على أحداث الماضي. فكل أمة هي فسيفساء متعددة الثقافات واللغات وصيغ التفكير، الأمة المغربية كما يرغب في تحقيقها الخطيبي حداثية بالمعنى الفكري، موجودة في قلب العالم، تحيا وتنمو من كل الأطراف والمستويات، لذلك نجد الخطيبي لا يتنصل  خدمة بلده، ويرد على الأسئلة التي تعتبره غريبا أو بعيدا عن الوطن بالقول دائما إنه ساهم في أشياء متعددة، وعندما يكتب كتابات لا يعني أنه يكتب من فراغ ودون مواضيع قلقة من عالمه، هاجس التنمية وبناء الإنسان نابعة من مبادئ وتربية، النقد الموجه للعقليات نداء للتحدي والتجاوز لما هو تقليدي، يكبل الطاقات الإبداعية، ويبقي على الجمود الفكري، وترسبات التقاليد الجوفاء .

الحضارة المعاصرة مبنية على العلم والتقنية، شروق الحضارة من الشرق نحو الغرب في تحليل “هيجل” للتاريخ والحرية، الحضارة عكس ذلك عصارة منجزات الإنسانية، مستمرة باستمرار العطاء والتفكير، متطلبات الشعوب المغاربية ليست مستحيلة، ويمكن إجمالها في الديمقراطية والتنمية والهوية، حلم الخطيبي كغيره من المثقفين المغاربة والعرب، التحرر من الاضطهاد، وفك قيود الاستبداد بأنواعه، حلم يرافق المفكر في رحلته لأنه مسكون بالوطن وهاجس التقدم، مولع بالاختلاف وتفكيك الرموز، حيث يحلل المفكر عقلية المغربي وشخصيته، ويلقي اللوم على العوامل الموضوعية والذاتية معا، وينتقل صوب العقلية العربية، ويحدد الوجود والقوة بإعادة صياغة الذاكرة الفردية والجماعية، يقول في هذا الشأن “يكون عربيا كل من يؤطر ذاكرته وفضاءه المتطور في قوته الحيوية”، لعل الخطيبي يفند فكرة الأسباب الخارجية، ويولي أهمية لما هو ذاتي، فكيف تتشكل الهشاشة والتخلف الفكري والجمود إذا بقي الوعي الذاتي في سبات ؟

إننا نجهل الكثير عن ذواتنا، إننا سقطنا في الإتباع والنمطية، اعتبرنا الحاضر نسخة مشوهة للماضي، وهنا يكمن الخطأ، وقعنا فريسة أشكال متنوعة من الخطابات، وكلها قدمت رؤية أحادية اختزالية لمشاكلنا وإخفاقاتنا، الأمر ليس بالبساطة التي نضع فيها الأسباب، ونعطي الحلول السحرية للتقدم، لا بد أن يكون التقدم كميا وكيفيا، لا بد من فحص الوعي الذاتي وترسبات الأفكار القاتلة، أن نكون معاصرين في وطن يشمل الكل دون إقصاء، أن تكون الوحدة شمولية للمغاربيين، في جوهر الوحدة يتم تذويب المشكلات السياسية، وتنمو اليقظة أي أن الخطيبي يدعونا للتخلص من الماضي، وما يحمله من تهويل وتهوين، التاريخ هنا وأحداثه وقائع ولت وعلى الشعوب أن تدخل في نطاق العصر ومشاكله، التعميم والتقليل والبتر ليست من أدوات السوسيولوجي، إنه يقرأ الأحداث في صميمها ومنبعها، يحدد بعض الأسباب التي ساهمت في ذلك.

ذاكرة العرب تشتغل من خلال ثلاث حركات أساسية وهي : الانكفائية والانفجارية والتناوبية،  ذاكرة تختزن صور الماضي من خلال نموذج مثالي يجسد الوحدة بين مدينة الله ومدينة الإنسان، وهنا يتجلى الانكفاء على الذات، ذاكرة تواجه واقعا متحولا ومغايرا عن الماضي، تنفجر عندما تنحصر الآفاق، ولا يتجلى التطابق بين الحاضر والماضي، أو عندما يشتد الصراع بين القوى، وهو صراع إرادات دوافعه متعددة، الأمم محكومة بالسياقات والتنوع في مكوناتها، تتدخل السياسة لتعيد ترميم الأشياء وتصويب الذاكرة، الاستجابة للتغيرات الآنية في عالم الصور والرموز ما يجعل العرب يلجون هذا العالم ويكتشفون خيوط اللعبة. اللعبة هنا إستراتيجية، ولكل عصر ما يوازيه من تنمية وثقافة، الحداثة والليبرالية الديمقراطية وفلسفة حقوق الإنسان وثقافة الاختلاف والهويات المتعددة مفاهيم مغايرة داخل الفكر الليبرالي المشبع بالعقلانية الغربية في بعدها السياسي والاجتماعي، وعصر ما بعد الحداثة في لغة الصور والعلامات والرموز والية التفكيك والنقد، فلا بد من ذكاء اصطناعي، ومدن ذكية، أما التقنية هنا لا تكفي، لأن العالم يعرف انزياحا نحو مسارات جديدة أكثر تعقيدا وتطورا. رسالة الخطيبي صريحة وواضحة موجهة للمواطن المغربي والعربي على السواء، نابعة من هموم المثقف من أجل الفهم والتعلم أولا، ومن أجل حل المشكلات اليومية وبناء مشروع مجتمعي، لا بد من نقطة البداية، وهي العناية بالفرد أي الوعي الفردي الذي يؤسس للوعي الاجتماعي، صياغة تبدأ من الداخل لأكثر الأشياء حميمية قبل التوجه نحو الخارج، هناك بالفعل أفكار ميتة وقاتلة لم تعد تجدي نفعا في الزمن الآني، هناك تحليل وقائع لا تصلح للبناء، وهناك وعي سطحي وعقليات متحجرة شكلت “المخيال الاجتماعي”، وساهمت في التخلف واستمرارية الانحطاط الفكري .

الديمقراطية في عالمنا ممكنة، أن نمنح للنقابات والأحزاب السياسية والجمعيات جوهرا أعمق، وهامشا أوسع من الحرية للعمل، ولمجالسنا المحلية قدر من السلطة في التدبير لأمورنا مع المحاسبة والمراقبة والتحفيز كذلك، المغرب العربي أفقا للفكر، والمغرب أفقا أرحب للنماء والتطور، منطق التقدم يبدأ من الثقافة والتعليم، وللأسف في ملاحظات الخطيبي أن البورجوازية الوطنية المهيمنة على القطاع الخاص لا تهتم بالثقافة، ولا تولي أهمية بالغة للصالح العام، قطاع مسكون بالمصلحة الخاصة، والسعي نحو الأرباح . فالسبب حسب الخطيبي يكمن في غياب دولة منظمة بيروقراطيا على شاكلة الدولة الحديثة في الفكر التعاقدي، وفي النظرية الاجتماعية عند ماكس فيبر، والمنظرين للفكر الليبرالي الرأسمالي، ومن هنا يعتبر الخطيبي أن المغرب لم يطور ثقافة تاريخية مكتوبة، وشارك بشكل هامشي في تكون الثقافة العالمية، وبكل جرأة ومسؤولية يخلخل الخطيبي العقليات ويكشف عن بعض الأسباب عندما يقوم بالتحليل لمعالم الشخصية المغربية والعربية في كتابه “المغرب العربي وقضايا الحداثة” من خلال الصورة ودلالتها في الواقع المادي ومن خلال تمثلات عالم الاجتماع، يفكك دلالة الاسم” عبد الكبير”، وما يحمله من رمزية دينية وقيمية في احتفال المغاربة والطقوس المرافقة للعيد، تيمنا بالعيد والمواليد، تمنح الأسماء، لكنها تحتوي على معاني، وليست دائما عشوائية أو خالية من الدلالة والمعنى .

قراءة في الصورة لا تنم عن فكرة ثابتة لأن الشخصية عموما مجموع السمات والخصائص التي تميز فردا أو جماعة أو أمة ولأنها قابلة للتغير، وليست صورة نمطية ثابتة، صورة المغربي والمغاربي عموما، تلك العلامات التي يفصح عنها الخطيبي في عملية تفكيك وتحليل للإنسان في المجتمع الزراعي الرعوي وفي المجتمع المعاصر، المغربي كائن إشكالي وتجزيئي يعاني من انفصام في الشخصية، ومن صورة هشة عن نفسه، لكن في مجموعة بشرية يعتبر كائنا تكتيكيا ماهرا ومحنكا، وسليل محارب فتاك، خصائص أخرى تشير للولع بالطقوس والاحتفالات والولائم، ناهيك عن صفة اللباقة وحسن الضيافة، وبالمقابل فالإنسان المغربي ينتمي للجماعة ومهموس بالانتماء إليها، وبذلك يكره العزلة والتفرد، يملك مهارات عائلية، ينمحي أمام السلطة ويتآلف معها، تجتمع فيه مجموعة من الصفات والطبائع، يكون مسالما وصامتا وأحيانا كاتما غيضه، وعندما يثور يكنس ما يعترض طريقه، هنا يستند الخطيبي على آليات التحليل السوسيولوجي في الدراسة للمجتمع المغاربي بالاحتكاك والملاحظة، وبالمقابل يضع مجموعة من الأسباب العامة عن الشخصية المغاربية وما هو مشترك، منها ضعف المجتمع المدني، وطبيعة السلطة الاستبدادية، وغياب الحرية، وصعوبة فصل الدين عن الدولة، وضعف صورة المغاربي عن نفسه، ومشكلة الفساد والمحاباة، والتقليل من النساء، وأشياء جوهرية موجودة في التربية والتعليم، كامنة وظاهرة في تركيبة المجتمع، أما الحل فإنه يكمن في تحويل الضعف إلى نقطة قوة متححرة، وطاقات متجددة تحرر الوعي الفردي والجماعي من التقليد والجمود .

التنقيب في الهوية والتمزق الذي أصاب الذات، وهذا الضعف في المستوى الثقافي والتعليمي، يعود الخطيبي كذلك للتراث المكتوب والشفوي، يذكر المغاربة بالهوية المركبة، يدعو إلى تدريس اللغة العربية باعتبارها لغة رسمية، واللغة الأمازيغية باعتبارها لغة ثقافة، تراث وذاكرة، وبذلك فالثقافة المغربية غنية من حيث المكتوب والمنطوق، تراث يمد الأدب والسينما والمسرح وأشكال ثقافية أخرى بالمادة المعرفية والحكاية، هذا الغنى والتنوع مفيد للتعريف بالثقافة المغربية عالميا، للخروج من نطاق المحلية نحو العالمية، ويمنح المغرب قدرة لاستقطاب السياحة والاستثمارات والترويج لنفسه بين الأمم . الخطيبي مفككا وناقدا للفكر الأحادي المطلق لا يقدم حقائق ثابتة، ولا يدعي امتلاك المعرفة والحل السحري في تطوير المجتمع المغربي، يرسم الممكن لمغرب يتسع للجميع، مغرب حداثي وديمقراطي، مغرب التنوع والتعدد، مغرب الحداثة والإجماع، تحقيق الصورة المرغوبة رهين بتجاوز النزعة التاريخية، وتفكيك الطابع العشائري للمجتمع، ومحاربة مجتمع الزبونية العائلية والقبلية .

إن المغرب حسب الخطيبي يتحدد بناء على ثلاث اتجاهات وهي: التراثوية والسلفية والعقلانية، تقسيم ثنائي للمغربي ما قبل التقنية وما بعدها، مغربي في المجتمع الفلاحي الزراعي، مغربي في المجتمع الصناعي الحديث، نقد للصورة النمطية الثابتة، وتفكيك للعلامات والرؤى الأحادية، نقد للتراث وللغرب والذات معا ، نقد يرسي معالم الأفكار النقدية، ويهدف إلى تعرية المسكوت عنه أو “اللامفكر فيه” بلغة أركون، نقد بأدوات فلسفة ما بعد الحداثة، سلاحه التفكيك والخلخلة، وكذلك استنطاق الهامشي، وما هو ثانوي، من رموز وعلامات وأشياء جزئية في الثقافة، ذاكرة موشومة بالمكان، وسفر وترحال في أمكنة وأزمنة مختلفة، غربة قصيرة وعودة من جديد. يترك الخطيبي انطباعا عن ذاته وبلده ويمضي، وهنا يترك الفكرة لأجيال المستقبل لعلها تجد طريقا نحو التطبيق أو لعل المغاربة يستنيرون من أفكاره التي يقال عنها دائما أنها تنتمي إلى تيار ما بعد الحداثة، ما قيل عنه من قبل “جاك دريدا” وكذلك “رولان بارث” والشاعر “أدونيس” يعبر عن اعتراف صريح بالذوق وأصالة التفكير المتشعب، يأخذك بعيدا عن وطنك إلى عالمه، يجعلك تتأمل في العوالم المتعددة بلغته الخاصة، باعتراف رولان بارث عندما قال”إنني والخطيبي نهتم بأشياء واحدة، بالصور والأدلة والآثار، بالحروف والعلامات، وفي نفس الوقت يعلمني الخطيبي جديدا ، يخلخل معرفتي” .

يترك القلم أثرا من نقد وتفكيك للعلامات والصور، النقد المزدوج والذاكرة المثقلة بالماضي، ليس الخطيبي غريبا عن المكان، وليس فردا متفردا أو منعزلا عن الجماعة وقيمها، ولا يعني انحيازه للحداثة الغربية، بل المحترف الناقد والمفكك لثقاتنا وتراثنا على ضوء مستجدات العصر بعيدا عن الرؤية التاريخية والتأملات الفلسفية، يبقى عبد الكبير الخطيبي مثقفا وشعلة يمكنها أن تنير درب السياسة المغربية في ركوب أمواج الحداثة والقطع مع التقليد، الركوب هنا لا يعني التماهي مع الغرب ولا رفضه، ولا يعني التنصل من قيمنا وتاريخنا، لكننا نستحسن المفيد، ونعمل على تطويره مع ما يناسب ثقافتنا ، وأجمل الأفكار تلك التي تجد طريقها عندما يموت أصحابها . إننا في زمن الاستهلاك وعصر الصورة، زمن الذكاء الاصطناعي، أصبحت آليات الفهم معقدة وأصبحنا في حاجة للنقد والتفكيك لكل ما يتوارى ولا ينكشف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *