وجهة نظر

لنستخلص الدروس والعبر من تشريعيات 2016

بتاريخ 7 أكتوبر 2016، عرف المغرب ثاني انتخابات من نوعها في ظل دستور 2011، وهي الاستحقاقات التشريعية لانتخاب أعضاء مجلس النواب. وكما توقع بعض الخبراء والمراقبين، فقد تصدر للمرة الثانية حزب العدالة والتنمية النتائج، بحصوله على 125 مقعدا، متبوعا بغريمه اللدود حزب الأصالة والمعاصرة ب102 مقعدا، مما أفرز ثنائية قطبية حزبية لأول مرة في تاريخ المغرب المعاصر، بعد تقهقر باقي الأحزاب إلى الأسفل بفارق واسع.

ومما يبعث على الاستغراب، أن الكثير من المغاربة كانوا يراهنون على فوز حزب الأصالة والمعاصرة، وانهزام حزب العدالة والتنمية لاعتبارات عدة، منها كون الأول يتوفر على وسائل بشرية ومادية هائلة ويحظى بدعم “جهات عليا”، ولم يسبق له الإسهام في تدبير الشأن العام ضمن الحكومات المتعاقبة، فيما الثاني قاد الحكومة المنتهية ولايتها، دون أن يستطيع أمينه العام ورئيس الحكومة بنكيران الوفاء بوعوده والاستجابة لانتظارات الشعب، حيث كانت حصيلة حكومته جد هزيلة اجتماعيا واقتصاديا، واتخذ من القرارات اللاشعبية ما أنهك القدرة الشرائية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وأغرق البلاد في مستنقعات المديونية، فضلا عن الإجهاز على المكتسبات، التضييق على الحريات، إصلاح التقاعد على حساب الموظفين والعمال، الحد من فرص الشغل والسعي إلى خوصصة التعليم والصحة… فما هو يا ترى سر فوز هذا الحزب بإضافة 18 مقعدا عن انتخابات 2011؟

خلافا لأحزاب الائتلاف الحكومي (التجمع الوطني للأحرار، الحركة الشعبية والتقدم الاشتراكية)، التي عرفت تراجعا ملحوظا عقابا لها على ضعف أدائها الحكومي، ولحزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، اللذين كانا يشكلان مدرستين عريقتين في السياسة، وعرفا انتكاسة كبيرة جراء انشغالهما بمشاكل حزبية داخلية منذ مؤتمريهما الأخيرين، أدت ببعض المناضلين إلى الانسحاب أو تجميد العضوية، فإن حزب الأصالة والمعاصرة انتفع من أصوات الناخبين الساخطين على الحكومة والغاضبين من أحزابهم، بينما استفاد حزب العدالة والتنمية من ضعف المعارضة وتدني نسبة المشاركة في الانتخابات، وحقق تقدما واضحا من خلال اعتماده على خطاب الطهرانية والمظلومية والتحكم، واستغلال الدين في تواصله الدائم مع أنصاره وهفوات خصومه السياسيين، كما ظل حريصا على تعزيز وتحصين تنظيماته وهياكله، بالإضافة إلى توفره على قاعدة انتخابية متجانسة ووفية، وكتائب إلكترونية تشتغل دون كلل ولا ملل في تلميع صورة الحزب وأمينه العام واستقطاب المواطنين.

وإذا كان المغاربة سجلوا بارتياح مرور هذه الانتخابات في أجواء هادئة، ولم تعرف اصطدامات بين مناضلي وأنصار الأحزاب المشاركة، سواء في الشارع أو مراكز التصويت، اللهم إلا وقوع بعض حالات عنف معزولة. وتأكد للكثيرين أن زمن تلاعب الإدارة بالنتائج أو الانحياز لطرف ما دون غيره، قد ذهب بغير رجعة منذ دستور 2011، ولم يعد هناك مجال للمزايدات السياسوية والتشكيك في شفافية ونزاهة الانتخابات، وأن المغرب قطع أشواطا هامة في الإصلاحات الدستورية، ويسير بخطى ثابتة نحو التخلص من رواسب الماضي المظلم، احترام حقوق الإنسان وتكريس التحول الديمقراطي، فمازال هناك عمل شاق ينتظره للقطع مع بعض الممارسات الدنيئة، التي تسيء إلى سمعة البلاد وتساهم في مضاعفة أعداد العازفين عن العمل السياسي والمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، إذ لوحظ استمرار الحياد السلبي للسلطة أمام بعض الخروقات، من قبيل وضع رمز “المصباح” في غير مكانه أمام عديد مراكز التصويت، استعمال المال الحرام في شراء الذمم واستغلال المساجد والأعمال الخيرية، للتأثير على إرادة الناخبين من الضعفاء والفقراء… وقد تبين أيضا أن الكثير من المواطنين وخاصة الناخبين منهم الذين كانوا أكثر حضورا وانتقادا للعمل الحكومي والحزب الأغلبي في الشارع والمقاهي وعبر رسائل الواتساب ومواقع التواصل الاجتماعي، لم يكونوا بنفس الحضور والكثافة يوم الاقتراع، إذ امتنع معظمهم عن الإدلاء بأصواتهم وجلسوا ينتظرون حدوث “المعجزة”. فما الذي حال بينهم دون قيامهم بالواجب، للتعبير الحر عن مواطنتهم؟

مؤسف جدا أن تعلن وزارة الداخلية عن بلوغ النسبة العامة للمشاركة في الانتخابات إلى 43 %، وهو ما يفيد بأن عدد المصوتين لا يتجاوز ستة ملايين ناخبا، من بين حوالي 16 مليون مسجلا باللوائح الانتخابية. وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن عدد الذين يحق لهم التصويت (18 سنة فما فوق) يصل إلى 28 مليون. ألا تسائل مثل هذه الأرقام، زعماء الأحزاب السياسية عن مدى قيامهم بالدور المنوط بهم في تأطير المواطنين وتعبئتهم؟ وكيفما كان الحال، هناك عدة عوامل ساهمت في عزوف أزيد من نصف المغاربة البالغ عددهم حوالي 34 مليون عن التصويت وفقدانهم الثقة في العمل السياسي برمته، خصوصا أن الحقل السياسي ببلادنا، لم يعد يخلو من فساد ودهاء ومناورات وميوعة وترحال واستقطاب الأعيان والكائنات الانتخابية وتهافت على المناصب، بعيدا عن المصالح العامة للبلاد والعباد…

علينا استخلاص الدروس والعبر من هذه الانتخابات الحاسمة، التي أفرزت قطبية ثنائية واضحة، وأبانت عن اندحار باقي القوى السياسية في الأغلبية والمعارضة، واتضح جليا أن لا الممارسة الحكومية، ولا الكتابة النقدية والاحتجاجات الشعبية نالت من شعبية رئيس الحكومة أو أضرت بمصداقية حزبه، بل زادته قوة وتغلغلا في المجتمع. مما يقتضي منا جميعا وقفة تأمل حقيقية والإقرار بأخطائنا، وأن تقوم القيادات الحزبية بنقد ذاتي صارم، لتجاوز أعطابها التنظيمية والهيكلية، وتجديد خطابها السياسي، وإلا فإن العدالة والتنمية سيستمر في الزحف والقضاء على خصومه السياسيين…