وجهة نظر

الحضور الرمزي للدين في الفضاء الإعلامي

“الدين هو الاقرار بكل الواجبات الاخلاقية على أنها أوامر إلهية” ـ كانط ـ.”

هناك اتجاهات تكرس بدهية مذهب اللا أدرية، إنها تنزاح عن اعتقادات لا دينية، أو هي مساكنة لمفهوم عدم الاستقلالية الاجتماعية. هو نفس النهج الماركسي تجاه كل ما هو ديني، باعتباره غلافا أيديولوجيا تستخدمه الطبقات المهيمنة (أو الطبقات المسيطر عليها) على أساس كل حالة على حدة، لتمثل لنفسها وضعها الاجتماعي والاقتصادي أو موقعها أو ضعفها أو قوتها .
إن تكريس هذا المفهوم الفارق، في عالم يضج بفوضى المذهبيات، بالانتقال إلى تمثل الإله وعبادته، يفضح الصناعة التي يستلهمها هؤلاء من الاغتراب إزاء الدين واستبعاد روحه القصية، وتفكيك منابعه على شريعة “جوهر المسيحية”، التي ينظر لها الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ ، من منطلق أن ليس للدين والأخلاق تاريخ ولا واقع خارج الإنتاج المادي. وغير بعيد عن شكية ماركس وإنجلز اللذان يستكنهان تفاعلات “الأخلاق والدين والميتافيزيقا” ، مفقودة من “كل مظهر من مظاهر الاستقلال الذاتي”، لأنه “ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة، بل الحياة هي التي تحدد الوعي”، حسب نظرهما.
قطعا هذه المعرفة المادية لاستظهار إوالية الدين، ضمن المنظومة المجتزأة التي ترهن المعتقد وتتأول على بنياته الاجتماعية والثقافية والنفسية، تناقض نفسها، حينما تحشره في العدم، وتدعي عليه فشله في الاستقلال الوظيفي والأخلاقي، على اعتبار كونه “يتولى وظيفة تبرير نظام اجتماعي يتكون في تسلسلاته الهرمية وفي التشعبات المختلفة لقوته الاقتصادية؛ أو أنها توفر لغة سياسية احتجاجية للطبقات الاجتماعية التابعة، الطامحة إلى تحرير نفسها من حالة القمع التي تجد نفسها أو تعتقد أنها تجد نفسها فيها”، هو ادعاء ينطوي على اللا معرفة، وانتقاص الدين، من حيث كونه “نظام اجتماعي- ثقافي من السلوكيات والممارسات والأخلاق ..”.
ما يعنيني هنا، في هذه التلويحة الفكرية الدقيقة، أن يتعاطى المحدثون، على خطى سابقيهم، مع مقولات تحرف المفهوم الفكري لقضية الدين وتحولاته، بين من ينشد أثره في المجتمع، ك “ضائقة”، أو كتعبير على “احتجاج ما”، على منوال (الشهادة والاحتجاج)، أو بقراءته كأداة للكشف عن التناقضات الاجتماعية والاقتصادية.
ويشوه المتقابلون مع ذات الأفكار، التشكيك في الدين وتوريته، بل تأطيره على المستوى الفلسفي والتاريخي، واعتباره ليس مجرد “شبكة من السخافات التي صنعها المحتالون”، بل إنه يعكس التوترات السائدة في المجتمع. وهو ما يؤول اختزالية الدين للمشكلات العامة التي يطرحها العقل، دون الانحياز حتى لمنظور علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الذين يرون الدين ك ” مجموعة من الأفكار المجردة، والقيم أو التجارب القادمة من رحم الثقافة”.

الإعلام والدين: بوصلة مفقودة

يكاد يكون علم الاجتماع الإعلامي في عالمنا العربي (والمغربي) مفقودا، أو ناذرا، خصوصا على مستوى قاعدة بياناته العلمية والأكاديمية التي تقارب مشاكل وقضايا الدين وقابلية التدين في مجتمعاتنا المحافظة، على اعتبار أن المجال جديد وحيث العهد بالخصوصية الثقافية والتاريخية والدينية، سوى ما يمكن إدراجه في مجالات قريبة، كقضايا العنف أو الجنس أو الأسرة عامة، والتي تسترعي انتباه محللي البرامج الاجتماعية والثقافية في مواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا، أو على مستوى التواصل السياسي.

ولا يمكن ملء الفراغ هنا لمجرد الحديث عن قصور هيكلي للإعلام من داخل سياق حقيق بالدراسة والتمحيص، وله اقترابية عميقة لمشكلات المجتمع المعاصر والحديث، حيث تنتشر قيم وتقاطعات ثقافية خطيرة، لها علاقة مباشرة بالثقافة الدينية، ومدى انخراط المجتمع في تدبير خلافاتها وتراكماتها. حيث أصبح من الضروري تناول هذه السياقات، تحت نظر الدارسين لعلوم جديدة ومحايثة للتصورات التي أضحت في وضعية هجوم كاسح على كل العلامات المكرسة مجتمعيا وثقافيا. ولا أدل ذلك، تحليلات علماء الاجتماع في حقل الإعلام ومقارنة الأديان. حيث تتموضع وسائل الاتصال كرمز من رموز الحداثة، وآلية من آليات انخراطها في تحوير سياسات الدول المهيمنة، التي تفرض وجودها الكولونيالي، بوتيرة ممنهجة، تتقصد الفتك بالمفاهيم الدينية والاعتقادية لدى الشعوب المغلوبة، مستغلة ضعفها وانفراط عقدها الفكري والحضاري. ومن يشاهد اليوم أساطين هذه الأدوات الإعلامية والسيبرانية الفتاكة (الفضائيات، تطور الإنترنت، إلخ.)، سيدرك لا محالة مدى خطورة هذا النهج.
ويرى علماء الاجتماع بهذا الخصوص، أنه وعلى العكس من ذلك، يبدو أن الأديان بدأت تفقد زخمها، وهي في المقام الأول “ترمز إلى العالم التقليدي. ومع ذلك فإن هذه المظاهر خادعة بالتأكيد؛ ربما تكون وسائل الإعلام والأديان أقل بعدًا عن بعضها البعض مما قد يعتقده المرء تلقائيًا”.
من تمة قد يميل البعض، إلى عدم رؤية أي صلة بين الأديان ووسائل الإعلام، لجعلهما شيئان منفصلان تمامًا، أحدهما يشير إلى الحداثة والآخر إلى التقاليد. وهو أمر يتجدر يوما بعد يوم، ويصحو العالم في كل مرة على فاجعة الهوة التي تفصل الإعلام بنظام القيم وأخلاقيات النشر والتذييع، وهو ما ستكون له تبعات حارقة على جزء كبير من هويتنا وثقافتنا ومصيرهما.

مجتمع الإعلام والصحافة الدينية

يرى دينيس بيليتييه ، أن الثورة الفرنسية هي الحدث الذي “جعل من الدين عنصرًا مركزيًا في الفضاء الإعلامي”، مقتبسا ذلك من علاقة الخصوصية تاريخيا بجميع الثورات الكبرى، وإعادة صياغتها ثقافيا، كونها تشكل بؤرة “ضد الدين”، ما يجعل نتيجة التحول تراهن على “خروج الدين من مجال تسيير الدولة”.
طبعا لا يمكن سحب هذه النظرية على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فالدين يشكل مساحة روحية وأمنية واجتماعية مهمة في الفضاء الإعلامي. واعتبارا لوجود ما ينظم هذه النظرية، كونها تؤمن بالتعددية والانفتاح على الثقافات وتطوير الحوار، فإن ما أضحى يوازي زمنيا تصنيف “الصحافة الدينية” وفق هذه التعددية المذكورة، يقابله فتور مهني وأخلاقي واسع، يعرقل اندماج هذا الأفق تجاه مساحة من التعتيم على أدواره ووظائفه. وهو ما يطرح سؤال السيرورة واستقبال الوعي بأهمية التواصل والإعلام ؟.

تمة منافسة فاضلة للاستثمار في الإعلام المجتمعي، في علاقته بأنماط الحياة، بمستويات التدين العام لدى فئات مختلفة من الناس، وخصوصا ما يتصل بقطاعات شعبية واسعة، لازالت تحتفظ بطقوس دينية وعرفية منسجمة مع المحيط والبيئة، وهو الشيء الذي يدعو المؤسسات الفكرية ومختبرات الدراسات والبحوث إلى لعب أدوار مركزية في استقراء ورصد المعطيات ذات الصلة، ومقابلتها بنفس النهج، مع موقع الإعلام في بنية الحداثة والديمقراطية التي تتعاطى معها دواليب الدولة، وتؤطرها مسلكيات إقليمية ودولية.
وبنفس الفهم والاختيار يمكن وضع ميكانيزم الدين هنا، “كاختبار دائم للديمقراطية التي يتم تأسيسها”، فهو جزء قائم الذات في وجود هذه الحتمية الناجزة ، بتمظهراتها واستحقاقاتها، ضمن شبكة المجتمع ومؤسساته الاجتماعية والثقافية وغيرها.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *