منتدى العمق

التعددية ووسائل الإعلام

اندمجت وسائل الإعلام منذ ظهورها في سياق التحولات الديمقراطية والإصلاحات الحقوقية، التي خاضتها المجتمعات العربية، بغية انتزاع مطالبها، وتأطير واجبات أفرادها، فما كان لوسائل الإعلام إلا أن تواكب هذا المخاض الإنساني الذي تعاقب عبر التاريخ، والذي يشتعل فتيله في عصرنا الحالي، كلما إزداد إيمان ووعي المواطنين والمواطنات بشرعية التعبير عن آرائهم، وتقبل نقد الآخرين. مما قاد وسائل الإعلام نحو عكس طبيعة العلاقة القائمة بين المؤسسات المجتمعية والأفراد، من خلال باقة متنوعة من المواد الإعلامية التي تقدمها لجموع المتتبعين، بهدف تنوير رؤاهم، وتقريبهم من المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في بلدانهم. مما شدد ثقة الجماهير في رسائل النظام الإعلامي، وخوله سلطة التوجيه والتأثير والتشكيك في القناعات السائدة بالمجتمعات.

لقد كان لثورة تكنولوجيا المعلومات الدور البالغ في تحرير تيارات فكرية معاصرة، وكذا نزع القناع عن رؤى سياسية وثقافية واجتماعية متنوعة، تشبعت بمبادئ التعبير التعددي، وبفلسفة تقبل الإختلاف، الذي يمثل جوهرة عقد كل ثقافة إنسانية، وحصنها الحامي من رياح تنميط معتقداتها، واغتراب أفرادها. مما يفرض على وسائل الإعلام تقاسم التعدد والتنوع الثقافي الذي تزخر به الشعوب العربية، وإغنائه بما نتلقاه من الزحف العولمي للثقافة الغربية، التي نجحت وسائطها الإعلامية في تسويق مكوناتها الثقافية، بشكل يضع المتلقي أمام عالم مثالي، يستحق الأفضلية والتتويج على الثقافات الإنسانية القائمة.

ولعل هذا الحراك المجتمعي أثار تفاعل منظمة اليونسكو، وكذا المجلس الحكومي الدولي، اللذين أكدا على محورية تعزيز دور وسائل الإعلام السمعية البصرية، في تطوير الحوار الديموقراطي، وعلى التعددية والتنوع في مضامينها. فالتنوع يعني أن تكون وسائل الإعلام متنوعة الاتجاهات السياسية والفكرية، تسمح بالتعبير عن مختلف الآراء، والثقافات، واللغات، والفئات، وفي شتى المواضيع.

كما نصت اليونسكو على ضرورة تمتع وسائل الإعلام داخل المجتمع الديمقراطي ليس فقط بالاستقلالية، بل أيضا أن تتصف بالتعددية، من خلال إنتاج مضامين يتجلى فيها التنوع بين الجماعات، داخل المجتمع الواحد، بغية توفير فسحة كافية للمسائلة التي تأتي بالتغيرات الاجتماعية.

فالتعددية، تتجلى من خلال توليفة تجمع بين وسائل الإعلام العامة، والخاصة، والتجارية، والمعبّرة عن الاتجاهات السائدة، والبديلة، والوطنية، والمحلية، المتنوعة بمضامينها، والتي تمنح فرصها لإنخراط مختلف شرائح المجتمع في إنتاج برمجتها.

وقد يبدو ظاهريا أننا نعيش في زمننا هذا التعددية في مجمل أوجهها، بين ثنايا وسائل إعلامنا العربي، إلا أن الأمر يختلف جملة وتفصيلا في الواقع الفعلي، حيث عرفت وسائل الإعلام التعددية فقط في منابر وأجهزة التواصل الفوري، وكذا سبل التأثير والسيطرة على الجماهير الواسعة، خاصة في ظل الانتشار المهول للمواقع الإلكترونية الإخبارية، والمنتديات الثقافية، والشبكات التواصلية الإجتماعية، التي تضم عددا ضخما من المنخرطين العالميين، الذين يشكلون مصدر قوة لمجموعة من الإيديولوجيات المستترة وراء الشاشات الزرقاء، التي كانت سببا في تفشي الفكر المتطرف بين صفوف اليافعين والشباب، الحاملين لأحلام مزهرة، تم إقبار حظ تحققها، لحظة إستفراغ هذه الأنظمة الشرسة للشخصية من توازنها المنطقي، الذي كانت تحتكم إليه في أقوالها وأفعالها الدائمة.

إن تحكم التنظيمات السياسية، والقوى الاقتصادية في محتويات البرامج الإعلامية، يساهم يوما بعد يوم في تنميط فكر المجتمعات، واستفحال التخلف بين شبابها، فكل منبر إعلامي يشتغل تبعا لإيديولوجية معينة، تدعمها ماديا ومعنويا، بحيث تمنحها الرأسمال الثقافي، والمكانة المرموقة وسط الجماهير، وتمدها بالرأسمال المادي لتضع يدها على الأنشطة والبرامج، وتمددها وتقلصها وفق أجندة أولوياتها. مما يضعنا أمام إعلام مستلب من مبادئه وأخلاقياته المهنية، اتخذ من حاجة الأفراد للترفيه سبيلا للتأثير في نمط عيشهم، وفي تفكيرهم وسلوكياتهم، وأشع بوجدانهم أهمية تحقيق الشهوات الغريزية، وامتلاك المغريات المادية، لضمان المكانة الإجتماعية والقيمة المعنوية من طرف الآخرين.

إن خيار التعددية في وسائل الإعلام، يعد في نظرنا علاجا وقائيا لموجات التطرف الفكري، والتعصب المعتقدي، والإحتقان الإجتماعي الذي تتلاطم فيه المجتمعات العربية، لما له من فوائد في تطهير الجماهير من النزعة النرجسية، التي تمتلك الأفراد في مجمل أفكارهم، ومعتقداتهم، ومبادئهم، وطالت حتى دياناتهم، مما يجعلنا بحاجة مستعجلة لزرع ثقافة الإختلاف وتعددية الاتجاهات في المجتمع، ليجد كل فرد نصيب يمثله في المواد الإعلامية، فإلغاء التهميش الإجتماعي، سيفتح أمامنا فرصة للكشف عن مكونات المجتمع الواحد، بتعزيز الإيجابي منها، وتفكيك كل ما هو زائف.

– وثائق رسمية:
1- اليونسكو، “التعددية ووسائل الإعلام”، صدرت خلال الأسبوع السادس والأربعين من ذكرى الستين لتأسيس منظمة اليونسكو، (2006/07/30–24).

ـــــــــــــ

باحثة مغربية متخصصة في الاعلام والاتصال