وجهة نظر

من فقه المشاركة في الانتخابات

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

إن مما يختلف فيه الناس في زماننا فيما يتعلق بالانتخابات التشريعية في عالمنا الإسلامي عامة وفي بلدنا المغرب الحبيب خاصة المشاركة فيها أو مقاطعتها. وفي غالب الأحيان تجد فئة من الناس يقاطعونها ويدعون غيرهم إلى مقاطعتها تارة بسبب ما يعتريها من تزوير وشراء الذمم، واستغلال السلطة والنفوذ، وتوظيف ممتلكات الدولة في الحملة الانتخابية، والتدخلات غير القانونية لصالح جهة وضد أخرى وغيرها من الخروقات التي تفسد الانتخابات وتفرغ الديموقراطية من معناها وتحافظ على مبناها، وتارة أخرى يقاطعونها من أجل المقاطعة فحسب.

وهذه الأسباب والعلل لا يكاد يختلف فيها اثنان في كثير من البلدان، لكن المختلف فيه هو: هل الحل لهذا الإشكال والمخرج مما ذكر هو مقاطعة هذه الانتخابات وعدم المشاركة فيها وترك الفاسدين والمفسدين يفعلون ما يشاءون ويشرعون وينفذون؟ أم نشارك فيها على ما هي عليه لتقليل الفساد إن لم نقدر على القضاء عليه، وندفع ما استطعنا إلى ذلك سبيلا حتى لا تفسد الأرض وتهدم الصوامع والبيع والصلوات والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا، عملا بقوله تعالى: ( ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).

والجواب هو أن اختيار أحد الأمرين يختلف باختلاف البلدان والأنظمة والأحوال والشعوب، ويرجع في تحديد الراجح منهما إلى أهل العلم بالشرع والسياسة والعقلاء من أهل الفكر فيجتهدون ويتشاورون وما اتفقوا عليه وقرروه يؤخذ به. ولا يفوتني أن أذكر بأن الأصل هو المشاركة في الأحوال العادية رغم وجود بعض المفاسد، والمقاطعة استثناء لأن مفاسدها أكبر في غالب الأحيان من مصالحها.

والذي أراه وأرجحه فيما يتعلق بانتخابات 07 أكتوبر بمغربنا الحبيب هو المشاركة بقوة لأن خيرها سيكون ـ بإذن الله ـ أكبر من شرها، ونفعها أكبر من ضرها، فإما أن نجلب بها أكبر المصلحتين أو أصغرهما، وإما أن ندفع أكبر المفسدتين أو أصغرهما، وإما أن نقيم الحجة على مدعي الإصلاح والتغيير والنزاهة والشفافية، وتكافؤ الفرص ومحاربة الفساد، وذلك أضعف الإيمان.

وعليه فالمشارك فيها لا يعدم مصلحة، خاصة إذا كان يعلم أن درء المفسدة مصلحة، وأن التقليل من الفساد إصلاح، والتدافع مع المفسدين واجب شرعي، وفوق طاقته لا يلام ، (فاتقوا الله ما استطعتم ).

ومما يدل على عدم رجحان المقاطعة هو أنها لا تكون ناجعة ولا مفيدة إذا كان المقاطعون ـ بكسر الطاء ـ أقل عددا من المقاطعين ـ بفتح الطاء ـ لأنه لا أثر لهم ولا يلتفت إليهم، لأن الانتخابات ستجرى بهم وبدونهم، ويعلن عن النتائج ويشكل البرلمان والحكومة، ويلزمون بهذه النتيجة، ويخضعون للقانون، وينتظرون الانتخابات المقبلة إن بقوا على قيد الحياة.

ومن ذلك أيضا ما وقفت عليه في مقال لأحد الكتاب من المقاطعين وهو يرجح المقاطعة موظفا القواعد الأصولية تحت عنوان: من فقه المقاطعة، هو أنه أطنب في ذكر سلبيات المشاركة، ولم يذكر أمرا واحدا من إيجابيات المقاطعة، وذكر مآلات المشاركة ولم يذكر مآلات المقاطعة، ولم يبين للقارئ ماذا سيحصل إذا قاطع الانتخابات؟ وما العمل بعد هذه المقاطعة؟ وماذا سيستفيد المغاربة إذا ما قاطعوا؟ وما البديل المقترح؟ وكيف سمح لنفسه أن يرجح بين أمر معلوم وأمر مجهول ومسكوت عن عواقبه ونتائجه؟

ومن الأدلة على مشروعية المشاركة رغم الفساد والإفساد وكثرة المفسدين، والتزوير والتحايل ـ حتى وجدنا من يقول: ليس من المرشحين من يصلح لنا، ولم نجد من نختاره ليمثلنا. فأقول لهذا مادمت أنت صالحا أو أقل فسادا ففي الأمة أمثالك، وإن كان الجميع لا يرضيك فاعلم أن لكل زمان عدوله، ولا بد لنا من ولاة وممثلين وعدول وقضاة مهما فسد الزمان ـ ( إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ).

وهذه أقوال العلماء تشهد لما ذكرت ـ وإن كان الكلام عن الحكام والقضاة والولاة فيقاس عليهم أمثالهم من الممثلين للشعب والناطقين باسمه من المستشارين الجماعيين والبرلمانيين وغيرهم ـ حتى تعلموا أن هذا المنهج المتبع ليس ابتداعا ولا اتباعا للهوى أو رغبة في شهوة أو تحقيقا لمصلحة شخصية أو محاباة ومنها:

ما ورد عن العز بن عبد السلام: في حديثه عن قاعدة: “إذا تعذرت العدالة في الولاية العامة والخاصة بحيث لا يوجد عدل ولينا أقلهم فسوقا” ومثل لها بأمثل منها: قوله: (إذا تفاوتت رتب الفسوق في الأئمة قدمنا أقلهم فسوقا، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس، وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتعرض للأموال، قدمنا المتعرض للأموال على المتعرض للدماء والأبضاع، فإذا تعذر تقديمه قدمنا المتعرض للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها (…)

وفي هذا وقفة وإشكال من جهة أنا نعين الظالم على فساد الأموال دفعا لمفسدة الأبضاع وهي معصية، وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعا لمفسدة الدماء وهي معصية، ولكن قد يجوز الإعانة على المعصية لا لكونها معصية، بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة، وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربو على مصلحة تفويت المفسدة كما تبذل الأموال في فدى الأسرى الأحرار المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة).

وقال في ذلك أيضا بصيغة أخرى: ( إذا تعذر – العدل – في الأئمة فيقدم أقلهم فسوقا عند الإمكان، فإذا كان الأقل فسوقا يفرط في عشر المصالح العامة مثلا وغيره يفرط في خمسها لم تجز تولية من يفرط في الخمس فما زاد عليه، ويجوز تولية من يفرط في العشر، وإنما جوزنا ذلك لأن حفظ تسعة الأعشار بتضييع العشر أصلح للأيتام ولأهل الإسلام من تضييع الجميع، ومن تضييع الخمس أيضا، فكون هذا من باب دفع أشد المفسدتين بأخفهما).

ـ وقال القرافي في سياق الحديث عن الوجوه التي تشهد للقول بالتوسعة على الحكام – ولاة المظالم وأمراء الجرائم – بأنه ليس مخالفا للشرع: (… لا نشك أن قضاة زماننا وشهودهم وولاتهم وأمناءهم لو كانوا في العصر الأول ما وُلّوا ولا حرج عليهم، فولاية مثل هؤلاء في مثل ذلك العصر فسق، فإن خيار زماننا هم أراذل ذلك الزمان، وولاية الأراذل فسوق، فقد قال الحسن البصري: ” أدركت أقواما ما كانت نسبة أحدنا إليهم كنسبة البقلة إلى النخلة”، وهذا زمان الحسن فكيف بزماننا، فقد حسن ما كان قبيحا، واتسع ما كان ضيقا، واختلفت الأحكام باختلاف الأزمان) . وقال الشاطبي: (إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس، وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام، وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم، فلابد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأنا بين أمرين، إما أن يترك الناس فوضى، وهو عين الفساد والهرج، وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتَّة، ولا يبقى إلا فوت الاجتهاد).

فهلا استفاد المسلمون في العالم الإسلامي والجاليات المسلمة في الدول غير المسلمة من هذه القواعد وأمثالها وعملوا بها في اختيار من يمثلهم وينوب عنهم، سواء كان المرشحون لذلك صالحين أو فاسدين، أو مصلحين أو مفسدين، فإن خيروا بين مصلح وصالح اختاروا المصلح، وإن خيروا بين صالحين اختاروا أصلحهما، وإن خيروا بين فاسد الأخلاق ومفسد اختاروا فاسد الأخلاق، وإن خيروا بين مفسدين اختاروا أقلهما إفسادا، وهكذا.

وبالنسبة للجالية المسلمة إذا خيرت بين مسلم وكافر اختارت المسلم، و إن خيرت بين كافرين اختارت أقربهم مودة للمسلمين وأكثرهم نفعا، وإذا فقدت فيهما المودة والنفع فأقلهم ضررا وشرا وعداوة.

ومن خالف هذه القاعدة فقد أخطأ وفرط، ومن أهملها واختار ألا يختار فقد فرط وأفرط وربما ساهم في تنصيب الأشرار، وإبعاد الأقل شرا أو الأخيار.

وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه، وسدد خطانا، وألهمنا رشدنا، وحقق لنا الأمن والأمان، وقدر لنا الخير حيث كان. والحمد لله رب العالمين.