وجهة نظر

المدرسة العمومية … أولا … ودائما وأبدا…

 كشفت معركة رجال التعليم البطولية ضد “نظام المآسي” القناع عن حقائق صادمة ومرة ظلت محجوبة متوارية عن الأنظار طوال عقود عجاف شكلت العمر الحقيقي لأزمة منظومة التعليم المغربي، ولعل أهم هذه الحقاائق _في تقديري الشخصي المتواضع_ ما يلي:  

          _1انعدام الإرادة السياسية في تغيير حقيقي يجفف الفساد من منابعه، و يستأصل خلاياه السرطانية المستشرية في كل أنحاء جسد منظومة التربية والتعليم، والدليل على ذلك هذا الكم الهائل من محاولات الإصلاح، ومشاريع إصلاح الإصلاح، التي تنتهي بتقارير وطنية ودولية تعترف بالفشل وبالفشل المتكرر والمضاعف.

          _2ملفات الفساد المادي والإداري المتراكمة عبر مختلف برامج الإصلاح المتعاقبة، خاصة ما يتعلق بمشاريع البرنامج الاستعجالي 2009_2012 الذي أهدرت بين ثناياه مبالغ مالية تقدر بالملايير “44 مليار درهم”. إضافة إلى لوبيات الفساد المتنفذة في أعماق الوزارة، والمتحكمة في دواليبها، والتي يصبح الوزير معها مجرد دمية أو آلة يُتَحَكَّمُ فيها، وتكون ملزمة بتنفيذ الأوامر والتعليمات، وقد يُعْفَى أو يُعْزَلُ في أي لحظة من اللحظات.

          3_إن المستهدف الأكبر من تمرير هذا النظام المشؤوم أساسا هو “المدرسة العمومية”، ولذلك بدت للعيان _ في خضم هذه المعركة الشرسة_ طَرَفاً لا يمكن تجاهله أ و غض الطرف عنه، انطلاقا من حقيقة يستوعبها الخصم/الحكم جيدا مفادها أن تجويد معطيات ومقومات وأجواء المدرسة العمومية سيسحب البساط تلقائيا من تحت أرجل التعليم الخصوصي، وبمنطق المخالفة فإن الإساءة إلى المدرسة العمومية وتلويث أجوائها وخنق أنفاسها وتأزيمها حد الاختناق يعني بالضرورة إعطاء مزيد من الشرعية ومن الجاذبية والإشعاع لمؤسسات التعليم الخصوصي.    

          تنكشف أوراق التمويه تباعا، وتتهاوى أبراج الخداع سراعا، وتبدو الحقيقة المرة للعيان: “الصراع المحتدم بين المدرسة العمومية ولوبيات التعليم الخصوصي”، انقطع حبل الكذب، وأصبح لزاما على ذوي المروءات وكل ذوي الضمائر الحية أن يترافعوا بكل أوتوا من قوة عن “المدرسة العمومية”، لم يعد الأمر مجرد ترف لغوي أو فكري، إنها مسألة وجود، مسألة إما أن نكون أو نكون.

          “المدرسة العمومية” هي الأصل الذي لا ينبغي التنازل عنه، “المدرسة العمومية” هي الجذر الذي يقوم عليها وجودنا والذي نستمد منه كينونتنا، إنها البساتين والحقول الممتدة التي احتضنت البذور الطيبة والشتلات المباركة التي أثمرت كفاءات دافعت باستماتة عن كرامة وعزة هذا الوطن، إنها العين الثرة التي طالما تدفقت مِيَّاهً عَذْبَةً رقراقة بثت الحياة في كل شرايين هذا المجتمع، وبناء على ذلك فإن كل تهاون أو تساهل أو تجاهل لقضيتها يعني التنازل عن الحق في الوجود، وعن الحق المشروع في تحقيق الذات، وفي الانخراط الإيجابي في القيادة والسيادة وتحمل المسؤولية، وهذا ما تدعمه خمس دعامات على الأقل:

          _الدعامة الشرعية:

          تجسدها الكلمة النورانية “إقرأ” التي شكلت أول حلقة وصل بين السماء والأرض، ويجسدها الحديث النبوي الشريف الذي يحث على إلزامية التعليم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”، وغني عن التذكير أن اقتناع المغاربة بالإسلام تم بعدما تسللت أنواره إلى أعماقهم، وبعدما اطمأنت قلوبهم إلى تعاليمه السمحة البعيدة عن كل غلو وتطرف، وبعدما تشبعت أفئدتهم بأخلاقه الربانية التي تمثلها الولاة الفاتحون رفقا وتسامحا وعدلا ورحمة.

          _الدعامة الواقعية:

          ظلت المدرسة العمومية مصدرا ثرا لتكوين أطر على مستوى عال من الكفاءة والفعالية والإيجابية، أطر أعطت أروع الأمثلة في البذل والعطاء والبناء والوطنية الصادقة، تكفي العودة إلى تاريخ المغرب القريب غداة الاستقلال للتأكد من هذا المعطى، فقد استطاعت المدرسة العمومية أن تمد المجتمع بالوزراء والسفراء والعلماء العاملين، كما استطاعت أن تؤطر وتكون نخبة من الأطباء والمهندسين والقضاة والمحاميين ورجال التعليم الذين أعطوا ألف برهان على عظمة وشرف ونزاهة ورفعة التعليم العمومي، ولم يقتصر الأمر على الكفاءة العلمية فقط، بل إن المدرسة العمومية كانت فضاء للتشبع بقيم الاستقامة والجدية والنزاهة والعفة والفاعلية والإيجابية، فاستحقت بذلك أن تكون مركزا لتكوين المفكرين والزعماء السياسيين والنقابييين الذين لعبوا أدوارا طلائعية في التأطير السياسي وفي الاحتجاج النقابي…

          _الدعامة الدستورية:

          نص الدستور المغربي على دسترة الحق في التعليم من خلال مقتضيات الفصول 31 و32 و33 و168 من دستور 2011 بقوله في الفصل 31: “تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في… الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة”؛ إذ جعل هذا الحق مقرونا بالحقوق المرتبطة بالعلاج والعناية الصحية والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية.

          وإذا تصفحنا الفقرة الأخيرة من الفصل 32 من الدستور المغربي نجده يؤكد صراحة على هذا الحق بقوله: “التعليم الأساسي حق للطفل وواجب على الأسرة والدولة”.

          _الدعامة التاريحية:

          تحدثنا كتب التاريخ المغربي أن حضور مؤسسات التعليم العمومي أمر ثابت في هذه الأمة منذ أقدم العصور، فقد حاز المغرب شرف احتضان أقدم جامعة في العالم )جامعة القرويين( “245ه/859م” التي فتحت أبوابها في وجوه طلبة العلم الوافدين إليها من كل المدن ومن كل المداشر والقرى بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية أو العرقية فأعطت بذلك أجمل صور الاندماج بين الجامعة والمجتمع، هذا الاندماج على بساطته الظاهرية مكن المغرب _كما يقول الدكتور محمد الكتاني_ من الحفاظ على سيادته واستقلاله السياسي اثني عشر قرنا بموازاة مع دول الخلافة، فقد عايش المغرب دول الخلافة ولم يخضع لها، حافظ على مبادئ الإسلام بالرغم من التطورات التي عرفتها الدولة العباسية والدولة العثمانية وسقطتا في وقت واحد بفارق 12 سنة، دخلت الحماية إلى المغرب سنة 1912، وسقطت الدولة العثمانية سنة 1923.

          إن أهداف السياسة التربوية الإسلامية في المغرب خلال 12 قرنا هي التي حققت للعالم الإسلامي والمغرب على الخصوص هذه النتائج، وضمنت له كل هذا الاستقلال وخاصة ما يتعلق بجامعة القرويين.                                                                                                                                      

          _الدعامة الوطنية:

          كان تعميم التعليم على جميع الأطفال البالغين سن التمدرس (6_7 سنوات) واحدا من المبادئ التي رفعتها الحركة الوطنية بعد الاستقلال، فبالإضافة إلى المبادئ: التعريب والمغربة والتوحيد.

          وإذا كان مبدءآ “المغربة” و”التوحيد” قد عرفا طريقهما إلى التنفيذ واقعيا، فإن الجدال مازال محتدما حول مبدأي “التعريب” و”التعميم” بحكم حساسيتهما المفرطة، وبحكم ما يطرحانه من تحديات فكرية وحضارية واستراتيجية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، يرتبط مبدأ “التعريب” بحرب اللغات أو ما يعرف بالسياسة اللغوية، أما مبدأ “التعميم” فيحيل بالضرورة على ما يشكل موضوع الساعة بامتياز، فرض الرسوم على المتمدرسين الذي يعني بالضرورة وضع حد لما يعرف ب “مجانية التعليم”، وهو الأمر الذي يشكل مستجدا مثيرا لأكثر من علامة استفهام، فلم يكن ثمة من يجرؤ على التفكير –على الأقل بصوت مرتفع- في فرض رسوم في أي سلك من أسلاك التعليم خلال عقود الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات، بل بالعكس كانت المنحة معممة على جميع الحاصلين على البكالوريا، وهي المنحة التي اعتبرت في كثير من الحالات بمثابة إعانة اجتماعية، إذ كان الكثير من الطلبة يقتسمونها مع أسرهم وعائلاتهم.  

          لابد من تأكيد حقيقة أن التفكير في “التخفيف” من ميزانية الدولة من أجل وضع حد ل “مجانية التعليم” تفكير غير واقعي بالمرة، لأن الجماهير العريضة من الشعب يعيشون تحت خط الفقر، يصارعون من أجل لقمة العيش ومن أجل كسب ضرورات المعيش. ولذلك فإن المطلوب حقا هو التطبيق الفعلي والصارم لظهير إجبارية التعليم الصادر منذ أزيد من ثلاثين سنة.  

          إن التخفيف من وطأة “مجانية التعليم” على ميزانية الدولة، يمكن أن يتم بوسائل ممكنة ومتعددة، يسوقها المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري كما يلي:

          _التخفيف عن هذه الميزانية من وطأة “مجانيات” أخرى تثقل كاهلها، مثل التهرب من أداء الضريبة بألف وسيلة خصوصا من جانب “الكبار” و”كبار الكبار” .

          _التخفيف من النفقات غير المنتجة ، سواء على مستوى الدولة أو مستوى الجماعات المحلية، واعتماد سياسة التقشف فيما لا مردودية له.

          _تجهيز القطاع الخاص، خصوصا البنوك والشركات والمعامل، على النفقة في ميدان التجهيز بالتعليم مقابل نوع من الإعفاء الضريبي.

          _إحداث ضريبة تضامنية خاصة بالتعليم على الكماليات من دخان ومشروبات وعطور وسيارات فارهة.

          خلاصة القول إن معركة الشغيلة التعليمية _غير المسبوقة_ معركة من أجل إسقاط نظام يسعى مهندسوه إلى الإجهاز التام على الحقوق والمكتسبات، وإلى تحطيم رمزية رجل التعليم، وتجريده من كل رصيده القيمي والأخلاقي والفكري، بل يسعى إلى استعباده وتكبيله بالمهام المضاعفة من جهة وبالعقوبات الرادعة من جهة أخرى. إنها معركة من أجل الحفاظ على كينونة وحضور “المدرسة العمومية” التي كانت المحضن الذي تخرج منه قامات سامقة تركت بصماتها في كل مجالات حياة هذا الوطن الذي لن يتحرر من أسر التخلف والتبعية والذيلية إلا إذا تحرر أبناؤه من الجهل ومن الأمية بمختلف صورها ومشاهدها.      

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *