وجهة نظر

التعقيب على مذكرة حزب العدالة والتنمية حول مقترحات المجلس الوطني لحقوق الإنسان

أصدر حزب العدالة والتنمية مذكرة حول المقترحات والتوصيات التي تضمنتها مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بشأن مراجعة مدونة الأسرة، والمقدمة إلى الهيئة المكلفة بإعداد تعديل مدونة الأسرة، ينتقد فيها بشدة التوصيات التي تقدم بها المجلس، ويعتبرها خارجة عن الإطار والمرجعية والثوابت الوطنية والدستورية والملكية والمجتمعية لورش إصلاح مدونة الأسرة.

وقبل التعقيب على الملاحظات التفصيلية التي جاءت بها المذكرة، لا بد من التذكير بأن المجلس الوطني لحقوق الإنسان مؤسسة دستورية ووطنية، لا تحتاج لمن يذكرها باختصاصاتها ومرجعيتها الدستورية، ولها كامل الحق بل من صلب اهتمامها العناية بحقوق الإنسان، وتقديم ما ترى من المقترحات والتوصيات، متى تبين لها أنها تحقق مصلحة للمواطن والمجتمع، وتعد مكسبا لصورة المغرب محليا ودوليا على مستوى حقوق الإنسان، دون وصاية من أي جهة كانت، في إطار المقاربة التشاركية التي دعت لها الرسالة الملكية، وهو ما كرسته جلسات الاستماع التي عقدتها اللجنة، بحيث استقبلت كل الحساسيات والتوجهات والتيارات على اختلاف مشاربها وأيديولوجياتها، دون ممارسة أي إقصاء ممنهج أو انحياز لجهة دون أخرى.

ومن الواضح أن حزب العدالة والتنمية لم يعتبر من الاحتقان الذي عرفه المغرب أواخر التسعينات بسبب المواقف المتباينة من مقترح خطة إدماج المرأة في التنمية، والذي تخللته الاتهامات والاتهامات المتبادلة، ومحاولات استعراض القوة بالشارع، وغياب الحوار والنقاش الهادئ والرصين، وهو ما كان سيؤدي إلى نتائج غير مرغوبة، لولا التدخل الملكي الذي كان حاسما في الموضوع، وأعاد الأمور إلى نصابها، وصدرت مدونة الأسرة التي تضمنت عددا من المكتسبات الهامة والتعديلات الأساسية، فهل يريد حزب العدالة والتنمية استعادة مثل هذه الأجواء المشحونة تحقيقا لأغراض سياسية ورغبة في العودة إلى الواجهة بعد الهزيمة المنكرة التي تلقاها في الانتخابات الأخيرة.

لذلك كله، كان لا بد من التعقيب على أهم ما جاء في هذه المذكرة، سواء فيما يتعلق بمنهجية بلورة واعتماد المذكرة، أو ما يتعلق بموضوع المقترحات والتوصيات، أو فيما يخص المقترحات التفصيلية لتعديل مجموعة من المواد في مدونة الأسرة.

أولا: منهجية بلورة واعتماد المذكرة

انتقدت مذكرة حزب العدالة والتنمية منهجية بلوة واعتماد مذكرة المجلس في ثلاث نقاط:

• عدم مراعاة التعددية والتقيد بقواعد الديمقراطية والشفافية، وهي ملاحظة غريبة وغير مفهومة، في ظل ما تحدثت عنه مذكرة الحزب نفسها، من كون الجمعية الوطنية للمجلس قد صادقت على مشروع المذكرة بعد التداول والمناقشة والاغناء، فأي ديمقراطية بعد ذلك.

أما محاولة نفي ذلك بالادعاء بأن المذكرة قد تم تقديمها إلى الهيئة المكلفة بالتعديل يوم 20 دجنبر، وهو نفس اليوم الذي تمت فيه موافقة الجمعية العمومية على المقترح، مما يحرم الأعضاء من حق الاطلاع المسبق والمناقشة، فهي ليست إلا محاولة للتشغيب على العمل الداخلي للمؤسسة، لأن النقاش التفاعلي حول المذكرة قد كان يوم 16 يونيو 2023، أي قرابة ستة أشهر، وهي مدة أكثر من كافية لتعميق النقاش وإغنائه، والتصويت الذي كان يوم 20 لم يكن إلا تتويجا لكل التفاعل الذي كان خلال هذه المدة.

• انتقدت مذكرة الحزب عدم اعتماد المجلس في مقترحاته إلا على مرجعيتين وطنيتين، في مقابل اعتماد 18 مرجعية دولية، وهو أمر طبيعي بحكم أن هاتين المرجعيتين الوطنيتين شاملتان وعامتان في مدلولهما، فالدستور المغربي بكل ما بذل من جهد في إعداده، قد شمل كل المرجعيات الوطنية التفصيلية ونص عليها، كما أن مقاصد الشريعة الإسلامية تندرج تحتها كل الأحكام الفقهية، وهو ما يجعلنا في غنى عن الحديث عن أي مرجعية فرعية، بخلاف القوانين الدولية، فهي مختلفة ومتنوعة في مواضيعها واهتماماتها ومصدر إنشائها، فبعضها متعلق بالمرأة، وبعضها متعلق بالطفل، وبعضها متعلق بالحقوق العامة سواء منها الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، مما يجعل الحديث عنها بالتفصيل أمرا تحتمه الضرورة، وليس ترجيحا لمرجعية على أخرى.

• زعمت مذكرة الحزب أن المجلس لم يعتمد الخطابات والتوجيهات الملكية، فيما تظهر مختلف الاقتراحات التي جاء بها المجلس استنادها ليس فقط إلى الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة بخصوص تعديل مدونة الأسرة، وإنما لمختلف الخطابات والرسائل والتوجيهات الملكية.

ثانيا: موضوع ومقترحات وتوصيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان

– انتقدت مذكرة الحزب عدم مراعاة المجلس للمرجعية الإسلامية، والتجاهل التام لأحكام الشريعة الإسلامية، وبالعودة إلى مذكرة المجلس يتبين بوضوح عدم صحة هذه الدعوى، فالمجلس جعل مقاصد الشريعة الإسلامية المرجع الثاني بعد الدستور، في إشارة لأهميتها وضرورتها، كما أنه في نقاشه للقضايا التفصيلية أحال على المرجعية الفقهية في أكثر من موضع، منها مثلا:

• الاستدلال بالقاعدة الفقهية “تقييد المباح” والاستدلال بآيات سورة النساء فيما يخص تعدد الزوجات.

• الإحالة إلى القراءات المتجددة للنص الديني في مسألة اعتبار اختلاف الدين مانعا من موانع الزواج بالنسبة للمرأة.

• الاستناد على “المرجعية الإسلامية السمحاء” في قضية إثبات النسب، والاعتماد في ذلك على قاعدة “الشرع متشوف إلى إثبات النسب”.

• ارتكاز المجلس على “المرجعية الإسلامية السمحاء” و “الاجتهاد المنفتح” و “مقاصد الدين الإسلامي السمح القائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد” أثناء دعوته لتعديل بعض مقتضيات قوانين الإرث.

• اقتراح المجلس في أحكام الإرث توسيع نطاق “الرد”، وهو مفهوم إسلامي مرجعه الأدبيات الفقهية وأحكام نظام الإرث الإسلامي.

• التوصية بتعديل المادة 400 من مدونة الأسرة لفتح الباب أمام “الاجتهاد البناء” مع مراعاة “قيم الدين الإسلامي الحنيف”.

– ادعت مذكرة الحزب أن المجلس جعل أحكام مدونة الأسرة في تعارض مع الدستور، حين  أعطى الأولوية للمرجعية الدولية على المرجعية الإسلامية والقوانين الوطنية، والحال أن هذا الادعاء مبني على وجود تعارض بين المرجعية الوطنية والإسلامية ومقتضيات الاتفاقيات الدولية، فيما مذكرة المجلس تنطلق – كما يوافقها آخرون في ذلك- من عدم وجود هذا التعارض، ومن ضرورة الملاءمة بينهما، باعتماد مقاصد الشريعة الإسلامية، وإعمال الاجتهاد البناء من أجل ذلك، وهذا هو عين ما دعت له الرسالة الملكية الموجهة إلى رئيس الحكومة بخصوص مدونة الأسرة، حيث جاء فيها: “وإننا واثقون بأن إعمال فضيلة الاجتهاد البناء هو السبيل الواجب سلوكه لتحقيق الملاءمة بين المرجعية الإسلامية ومقاصدها المثلى، وبين المستجدات الحقوقية المتفق عليها عالميا”.

ومن المهم هنا الإشارة إلى أن صاحب الجلالة الملك محمد السادس -نصره الله- قد أعلن في رسالته الموجهة إلى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتاريخ 10 دجنبر 2008 عن “سحب المملكة المغربية للتحفظات المسجلة بشأن الاتفاقية الدولية للقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، التي أصبحت متجاوزة بفعل التشريعات المتقدمة التي أقرتها بلادنا”، وبناء على ذلك، وجهت الحكومة المغربية بتاريخ 8 أبريل 2011 رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة تعلمه فيها أنها قد رفعت تحفظات المغرب التي قيد بها مصادقته على اتفاقية سيداو”.

بل إن ما يثير الاستغراب، هو أن حزب العدالة والتنمية التي يتحدث عن الاتفاقيات الدولية ويراها ثقافة غربية تتصادم في بعض مقتضياتها مع الهوية الوطنية والدينية، هو من صادق حين كان يتولى رئاسة الحكومة سنة 2015 على البروتوكول الاختياري لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والمشهورة اختصاراً بـ ”سيداو“، وهو ما يعني حسب المادة 24 من البروتوكول تعهد الدولة “باتخاذ جميع ما يلزم من تدابير على الصعيد الوطني تستهدف تحقيق الإعمال الكامل للحقوق المعترف بها في هذه الاتفاقية”، فكيف يناقض الحزب نفسه بادعاء معارضته لمعاهدات واتفاقيات هو من تولى تعبئة نوابه بالبرلمان للتصويت على المصادقة عليها؟.

– زعمت مذكرة الحزب أن المجلس قد تجاوز التوجيهات الملكية السامية المؤطرة لورش مراجعة مدونة الأسرة، وأن مدونة الأسرة تعتبر نصا تأسيسيا غير قابل للمراجعة إلا فيما هو مسطري وقانوني وقضائي، ارتباطا بسوء التطبيق لأسباب سوسيولوجية.

والواقع أن هذه مغالطة واضحة وسوء فهم مقصود للرسالة الملكية، والتي نصت بشكل واضح على أن التعديلات المرجوة يجب أن تتناول جانبين مهمين، أولهما إصلاح الاختلالات التي أظهرها التطبيق القضائي، وثانيهما تعديل المقتضيات التي أصبحت متجاوزة بفعل تطور القوانين والمجتمع “وبالتالي فإن التأهيل المنشود، يجب أن يقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة، وعلى تعديل المقتضيات التي أصبحت متجاوزة بفعل تطور المجتمع المغربي والقوانين الوطنية”.

وما يؤكد أن المقصود فقط ليس فقط إصلاح الاختلالات التطبيقية، وإنما أيضا تغيير بعض الأحكام والقوانين وإن استندت على مرجعية فقهية، هو حديث الرسالة الملكية مباشرة بعد الفقرة السابقة عن الاجتهاد البناء، “وإننا واثقون بأن إعمال فضيلة الاجتهاد البناء هو السبيل الواجب سلوكه لتحقيق الملاءمة بين المرجعية الإسلامية ومقاصدها المثلى، وبين المستجدات الحقوقية المتفق عليها عالميا”، فدعا جلالته بشكل واضح إلى إعمال الاجتهاد لتحقيق الملاءمة بين المرجعية الإسلامية والمستجدات الحقوقية، وليس فقط لإصلاح الاختلالات القضائية التي لا يحتاج تعديلها لاجتهاد فقهي.

– ادعت مذكرة الحزب أن المجلس قد تجاوز بشكل سافر هوية وقناعات وخصوصيات المجتمع المغربي، ولنا أن نتساءل كيف أمكن للحزب معرفة هذه القناعات التي يرى أن كل المجتمع المغربي قد اتفق عليها، ومن منحه الحق للتحدث باسم المجتمع، علما أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان هو مؤسسة دستورية وطنية، وتركيبته تتألف من أعضاء معينين من طرف صاحب الجلالة، إضافة إلى عدد من البرلمانيين وممثلي المؤسسات الدينية والقضائية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية واللجان الجهوية، بما يعني أنها مؤسسة تعددية بها تمثيلية لمختلف التوجهات والآراء التي يطالب بها المجتمع.

ثم هل غاب عن حزب العدالة التنمية العشرات من استطلاعات الرأي حول تعديل مدونة الأسرة، والتي أجرتها مؤسسات حكومية وغير حكومية، وقد أظهرت انقساما وازنا في الآراء حول التعديلات، في ظاهرة صحية تدل على حياة المجتمع وحركيته وتعدديته، وبالعودة إلى استطلاع الرأي الذي أجراه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي خلال الفترة ما بين 18 فبراير و6 مارس2022، نجد أن عددا من الفئات المجتمعية تختلف مع ما يطرحه حزب العدالة والتنمية في بعض القضايا بنسبة وصلت أحيانا 80 في المائة، فعن أية قناعات للمجتمع تتحدث المذكرة؟، وكيف سمح الحزب لنفسه بالتعبير عن صوت المجتمع وهو الذي عوقب من طرف هذا المجتمع خلال الانتخابات الجماعية والنيابية الأخيرة؟

ثالثا: المقترحات التفصيلية التي قدمها المجلس لتعديل مجموعة من المواد في مدونة الأسرة

1- تعريف الأسرة:

دعت مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان لأن تتضمن المدونة الجديدة تعريفا للأسرة، وهو ما لم يرق لواضعي مذكرة حزب العدالة والتنمية، حيث ادعوا أن المدونة لم تهمل تعريف مفهوم الأسرة، حيث نصت المادة الرابعة على أن “الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي….”، وأن بعض المعالجات القانونية التي قامت بها المدونة لبعض الحالات كإثبات النسب في حالة الإقرار أو إثبات الزوجية لمن لم يوثق لا ترقى لدرجة اعتبارها أسرة.
كما اعتبرت المذكرة أن التعريف الذي اقترحه المجلس للأسرة، حين جعلها مكونة من أشخاص تجمع بينهم علاقة الزوجية أو القرابة أو الالتزام، يتعارض مع التعريف الإسلامي للأسرة، ويفتح الباب لقيام علاقة الزوجية بين رجلين أو امرأتين.
والرد على ذلك فيما يلي:
• خلطت المذكرة بشكل متعمد بين الأسرة والزواج، فالزواج هو شكل من أشكال الأسرة وليس الشكل الوحيد لها، ومدونة الأسرة الغرض منها حماية حقوق كل الأطراف في مختلف الأشكال، وتنظيم مختلف العلاقات القائمة في المجتمع، وإلا تعرض الكثير منهم للظلم وهضم الحقوق بسبب عدم حماية القانون.
• نصت الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة على ضرورة مواءمة التعديلات المرتقبة مع تطور المجتمع المغربي، ولا يخفى أن مفهوم الأسرة هو أحد المفاهيم المتغيرة والمتطورة عبر التاريخ سواء بالمغرب أو غيره، مما يجعل أي تعديل للمدونة ملزما بأخذ هذه التطورات بالاعتبار.
• الأسرة بالمغرب اليوم من خلال استقراء الواقع ليست هي فقط الأسرة النووية المكونة من أب وأم وأطفال، وإنما هناك أشكال وأنواع من الأسر الأخرى، كالأسر التي تأسست على زواج الفاتحة، أو الأسر الأحادية التي ليس فيها أب أو أم بفعل الطلاق أو وفاة أحد الأبوين، أو أسرة مكونة من زوج وزوجة دون أبناء، أو من عمة أو خالة مع ابن أخيها أو أختها، أو من إخوة وأخوات دون أب وأم بعد وفاتهما، أو أسرة مكونة من رجل وامرأة مع مكفولهما، أو امرأة فقط مع المكفول، أو من أم عازبة مع ابنها أو أكثر، فكل هذه الأشكال وغيرها تحتاج إلى تنظيم قانوني وحماية لحقوق كل الأطراف.
• المعالجات القانونية التي قدمتها مدونة الأسرة لبعض الحالات لا يكفي فيها إثبات النسب لصيانة الحقوق، ففي حالة وجود أبناء مثلا لا بد أيضا من ترتيب الأحكام المترتبة على إصلاح الوضع، كالحضانة والنيابة وغيرها، وهو ما يستدعي توسيع مفهوم الأسرة ليشمل كل هذه الأوضاع.
• تحدثت المذكرة عن التعريف الإسلامي للأسرة، والحال أن الإسلام لم يقدم أي تعريف للأسرة، وكل الأدبيات الفقهية لم تتعرض لهذا التعريف ولا أشارت إليه، وإنما الحديث عن الزواج وشروطه وأركانه ومقتضياته، والزواج هو شكل فقط من أشكال الأسرة.
• الادعاء بأن التعريف المقترح من قبل المجلس يفتح الباب لقيام العلاقة الزوجية بين رجلين أو امرأتين ليس إلا محاولة لتشويه مذكرة المجلس والتشويش عليها، فلو كانت مذكرة الحزب منصفة وموضوعية في طرحها لوجدت أن المجلس في نفس التوصية التي عرف فيها مفهوم الأسرة، أردف ذلك بعبارة مهمة، حيث قال: ” تخضع جميع العلاقات بين أفراد الأسرة لأحكام هذا القانون مع مراعاة مقتضيات المادة الثانية من المدونة”، وهي عبارة واضحة في أن المقصود بالعلاقات من زواج أو قرابة أو التزام ما كان في إطار هذا القانون وحدوده.
2- نطاق تطبيق مدونة الأسرة
انتقدت مذكرة الحزب إقحام المجلس لمبدأ “سلطان الإرادة” فيما يخص زواج الأجانب، ودعوته لتنصيص المدونة على حق اختيار القانون الواجب التطبيق بالنسبة لمن تسري عليهم أحكام المدونة في حالة زواج الأجانب، وهو اعتراض غريب، حيث أن الأجانب حسب القانون الحالي لا تسري عليهم أحكام المدونة، وإنما يخضعون لظهير 4 مارس 1960 المتعلق بالأنكحة بين المغاربة والأجانب، وليس من شأن هذا الاقتراح إلا منحهم خيارا آخر، وهو الاحتكام إلى مدونة الأسرة، سيما مع تحول المغرب إلى بلد مستقبل للمهاجرين، واستقرار كثير منهم فيه بطريقة شرعية أوغير شرعية، وهو ما قد يساهم في تسوية وضعيتهم القانونية.
3- نظام الإرث
قبل التطرق للانتقادات الواردة في هذا الموضوع، لا بد من التوقف هنا حول المغزى من تقديم الأحكام المتعلقة بالإرث، وجعلها أول ملاحظة بعد الحديث عن التعريف والنطاق، وهو ما لا يتفق مع ترتيب نص المدونة، والذي جعل الإرث ضمن كتابه السادس، مما يوحي بوجود سوء نية، ومحاولة تأليب المجتمع ضد هيئة وطنية، بدعوى أنها تريد نسف المرجعية الإسلامية وتنحيتها.
زعمت مذكرة حزب العدالة والتنمية أن مقترحات المجلس حول تعديل نظام الإرث مردودة ومرفوضة، لأنها تخالف النصوص الشرعية القطعية، وتعكس الجهل بنظام الإرث الإسلامي، والحال أن الرد الذي جاءت به المذكرة يتضمن جهلا واسعا بما جاء في نظام توزيع التركة في القرآن الكريم ونصوصه القطعية، وتحريفا وتشويها مقصودا لمذكرة المجلس، للإيهام بأنها تحاول تجاوز النصوص القطعية والتوجيهات الملكية، وبيان ذلك فيما يلي:
▪ خلافا لما جاء فإن مذكرة المجلس لم تتعرض نهائيا للحديث عن المساواة التامة في الإرث، مراعاة للتوجيهات الواردة في الرسالة الملكية، ولفتح الباب أمام الاجتهاد الفقهي دون الاصطدام بنصوص قطعية، فإقحام هذا الموضوع في الرد ليس إلا محاولة للتشويه والتشويش.
▪ اعتبرت مذكرة الحزب أن اقتراح المجلس بتخويل صاحب المال سلطة اختيار النظام المطبق على أمواله بين الوصية وما سموه ب “نظام الإرث الإسلامي” اعتداء على حدود الله، وإلغاء لمنظومة الإرث، وهذا عين الجهل بما جاء في نصوص القرآن، والذي كانت نصوصه واضحة في تقديم الوصية على الإرث، بل إن آيات الوصية تصل إلى عشرة، فيما لا يتعدى الحديث عن الإرث ثلاث آيات، كما أن الله تعالى في أربع مواضع من آيات الإرث يعطي الأولوية للوصية في توزيع التركة فيقول “من بعد وصية يوصى بها”.
▪ فنظام الوصية هو نظام إسلامي قرآني شأنه شأن الإرث، والتخيير بينهما مع تقديم الوصية هو تسلسل منطقي، باعتبارها مسلكا يقدم عليه صاحب المال في حياته، فالحديث هنا عن منهج قرآني غير خارج عن دائرة المنهج الإسلامي في توزيع التركات، وليس عن نظام محدث يراد به نسف أحكام الشريعة كما ادعت المذكرة.
▪ اعتبرت مذكرة الحزب اقتراح المجلس باستخراج نصيب الزوج الباقي على قيد الحياة قبل توزيع التركة واستثناء بيت الزوجية والأموال المخصصة لفائدة الأسرة من نطاق التركة معارضة واضحة للشريعة الإسلامية، وحرمانا للورثة من حقوقهم المكفولة بنص قرآني قطعي صريح، وفي ذلك جهل بنظام الإرث ومقاصده، إذ أن هذه الحقوق التي يتحدثون عنها استحقت بسبب المساهمة في تدبير شؤون الأسرة من حماية وإنفاق ومساهمة في الثروة وتحمل للتكاليف، وهو ما ليس واقعا اليوم بسبب تغير الأدوار داخل الأسرة والمجتمع.
وبالتالي فإن الأسرة النووية اليوم لها مساهمة واضحة في ثروة الزوج ومشاركة أساسية، فمما يتوافق مع مقاصد الشريعة من تحقيق العدل أن يستفيد كل طرف من مساهمته قبل تقسيم ما بقي من المال الخاص بالزوج على أقاربه ممن ليس لهم أي مساهمة، فأي مخالفة في ذلك للشريعة الإسلامية، بل إن هذا هو مقتضى الإنصاف، وعليه بنى بعض الفقهاء المجتهدين كابن عرضون فتاواهم في الكد والسعاية، وضرورة أخذ المرأة لمساهمتها قبل توزيع التركة.
▪ اعتماد مذكرة الحزب على مقولة  “المال مال الله” غير صحيح بغض النظر عن مدى صحة هذه المقولة من عدمها، فإن هذه العبارة لم تمنع الفقهاء من إثبات صحة عقود التبرعات على كثرتها، فلصاحب المال في حياته أن يوقف ماله على من يشاء، وله أن يهب من أمواله لمن يشاء بقدر ما يشاء، كما يمكنه التصدق على المحتاجين بما شاء دون تعيين أي حد لمقدار الصدقة، وله أن يوصي بأمواله رغم القيود التي وضعت على الوصية، فكلها عقود صحيحة يمكنها أن تستغرق أحيانا كل مال الرجل، ما دام قد أوقعها في حياته، باعتباره صاحب المال وله سلطات واسعة في التصرف والتدبير.
4- نظام الوصية:
عادت مذكرة الحزب لتعتبر إعطاء صاحب المال الحق في الإيصاء بماله تحللا من الأحكام الشرعية والنصوص القرآنية القطعية، والحال أن الوصية هو نظام إسلامي، ومقدم على الإرث ضمن حقوق التركة بنصوص قرآنية قطعية، كما سبق الرد على هذا الزعم.
ثم ادعت المذكرة أن مطالبة المجلس برفع القيود الموضوعة على الوصية، من تحديدها في أقل من الثلث و جعلها لغير الوارث فقط، معارضة للنصوص الشرعية المؤطرة للوصية، والمثير للاستغراب هنا أن المذكرة تحاشت الحديث عن النصوص القرآنية القطعية، لأنها تعلم أن النصوص التي تريد أن تغلق بها بابا مهما يمكن معه تحقيق العدالة في توزيع الميراث، ليست إلا أخبار آحاد وروايات حديثية لا تفيد القطع، فحديث (لا وصية لوارث) الذي تعتبره المذكرة نصا مؤطرا للوصية، هل يملك الحزب الشجاعة الكافية للتصريح بأن هذا حديث ضعيف حتى بميزان المحدثين، وحتى لو كان صحيحا فهل يقوى على تخصيص القرآن بل معارضته، حيث أن الوصية في القرآن للوالدين والأقربين، هل يستطيع واضعو المذكرة أن يوضحوا لمخاطبيهم أنهم يريدون تأطير الوصية ومنع الأفراد من التصرف في أموالهم وتوزيعها على أقاربهم كما أمرهم القرآن بنص ضعيف سندا ومتنا؟.
وكذلك تحديد الوصية في الثلث، فليس له من حجة إلا حديث سعد بن أبي وقاص “الثلث والثلث كثير”، وهذا النص وإن جاء في كتابي البخاري ومسلم، فلا يعدو أن يكون خبر آحاد، ولا يصح به تقييد مطلق القرآن “كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ‘ن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين”، وهي قضية خلافية بين الأصوليين، والقول بالتقييد هو مسلك اجتهادي لا قطعية فيه، على أن ما جاء في حديث سعد ليس فيه ما يفيد المنع فيما هو أكثر من الثلث، وإنما خرج على سبيل الإرشاد والتوجيه في قضية خاصة، فكيف يمكن اعتبار مثل هذا الاستدلال نصا مؤطرا ومتصرفا في أموال الناس، بل كيف ينسب إلى الشريعة الإسلامية وكأنه أحد قطعياتها ومسلماتها؟
والغريب بعد ذلك كله، أن حزب العدالة والتنمية الذي يرفض أي اجتهاد بناء في قضايا الوصية، قد صادق نوابه البرلمانيون جميعا على مدونة الأسرة سنة 2004، مع أنها تضمنت اجتهادا فقهيا يخالف قواعد الإرث الفقهية المعمول بها، وهو الوصية الواجبة لأبناء الابن وأبناء البنت، وهو اجتهاد مبتكر لا يعرف في أي مذهب فقهي من المذاهب المعروفة، فما المانع إذن من الاجتهاد في قضايا أخرى في نفس الباب ما دام الأمر لا يتعلق بأي نصوص قرآنية صريحة؟
5- تدبير اقتسام الأموال المكتسبة:
اعتبرت مذكرة الحزب اقتراح المجلس باعتبار العمل المنزلي مساهمة في تكوين الأموال المكتسبة توجها خطيرا يخرج الأسرة من قدسيتها ومكانتها، ويدخلها في حسابات مادية وتجارية، والغريب أن ما جاء به المجلس في هذا الباب ليس بجديد ولا مبتدع، وإنما هو محاولة لحل الإشكالات العملية التي أظهرها تطبيق ما جاءت به مدونة الأسرة التي صادق عليها حزب العدالة والتنمية في المادة 49، والتي من أهمها الاختلاف في تقييم العمل المنزلي، فاقترحت مذكرة المجلس التنصيص بشكل واضح على اعتباره مساهمة في أموال الأسرة.
ثم إن اعتبار نصيب أحد الزوجين من الأموال المكتسبة بعد الزواج من حقوق التركة والديون المستحقة على الميت هو ما تؤيده نصوص الشريعة الإسلامية، سواء من القرآن الكريم الذي نص على “أن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى”، وجاء فيه أيضا ” إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا”، وقوله تعالى ” فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض”، وهو ما قضى به عمر بن الخطاب حسب ما أوردته كتب السير في قصة حبيبة بنت زريق،  “وكانت ذات يد نساجة تعمل الحرير وترقم الثياب والعمائم، وزوجها عامر كان تاجرا قصارا، وكلا الزوجين يعملان حتى اكتسبا من عمليهما مالا، فمات زوجها ولم يخلف أولادا، وترك مزارع ودورا وأموالا وإبلا على الشياع، فأخذ ورثته من إخوته مفاتيح الخزائن، واقتسموا ذلك، فقامت عليهم حبيبة مدعية سعيها في هذه الأموال مع زوجها، فقضى عمر بينهما بالشركة في هذا المال، وأعطاها نصف جميع المال سعاية، ثم الربع نصيبا بالإرث.
6- تعدد الزوجات
ادعت مذكرة الحزب أن اقتراح المجلس بإلغاء تعدد الزوجات دعوة صريحة لتحليل ما حرم الله، وأنه يمكن فقط تقييده لا حظره ومنعه، والواقع أن نسبة إباحة التعدد مطلقا للشريعة الإسلامية ليس إلا قراءة معينة للنص القرآني المتعلق بالموضوع، فيما هناك قراءات أخرى توصي بوضع الآية في سياقها، فالتعدد في القرآن ورد مقرونا باليتامى “وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع”، أي إن خفتم أن لا تحسنوا التصرف في أموال اليتامى فانكحوا أمهاتهن الأرامل، مما يعني أن النص هنا يعالج وضعا خاصا وسياقا مختلفا عن السياق الذي نعيشه اليوم، مع التذكير بأن الإسلام جاء بالحد من تعدد الزوجات، حيث كان الرجل قبل ذلك يتزوج ما شاء من النساء دون حد أو قيد، كما في قصة غيلان بن سلمة الثقفي الذي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي “اختر منهن أربعا”.
ولو كان منع التعدد اليوم مخالفا للشريعة الإسلامية لما أفتى به عدد من فقهاء العالم الإسلامي المشهود لهم بغزارة الفقه والنظر، ومن أبرزهم الشيخ محمد عبده الذي دعا بمصر مطلع القرن العشرين إلى منع التعدد، وأصدر فتوى يقول فيها “يجوز للحاكم رعاية للمصلحة العامة أن يمنع تعدد الزوجات بشرط أو بدون شرط حسب ما يراه موافقا لمصلحة الأمة”.
وهو نفس ما تبناه أشهر تلاميذه محمد رشيد رضا صاحب تفسير المنار، حيث قال “إذا تأمل المتأمل ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد، جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي فيها أمة فشا فيها تعدد الزوجات، فإن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ولا يقوم فيه نظام بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت كأن كل واحد منهم عدو لآخر، ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ومن البيت إلى الأمة”.
وفي تونس أفتى الفقيه المقاصدي المشهور وعميد جامعة الزيتونة الطاهر بن عاشور بمنع التعدد، ووافقه في ذلك مفتي الجمهورية التونسية عبد العزيز جعيط.
وفي المغرب أيضا أفتى الفقيه والزعيم السياسي علال الفاسي بجواز منع تعدد الزوجات، حيث ذهب في كتابه “النقد الذاتي” إلى منع التعدد مطلقا، حيث يرى أن “التجربة التي لاحظناها طول التاريخ الإسلامي تدل على أنه باستثناء العصور الأولى، فإن أغلبية المسلمين استعملوا التعدد في غير موضعه الشرعي”، ولهذا فهو مع منع التعدد مطلقا “إنني أقرر الرأي بكامل الاطمئنان النفسي الذي يمليه علي إيماني بأن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان، ورجائي أن يكون في هذه الاعتبارات التي أبديتها ما يحقق تطبيق مبدأ الإصلاح الإسلامي بمنع التعدد مطلقا في هذا العصر، إقامة للعدل، وتقديرا للمرأة، وحماية للإسلام”.
فهل خالف كل هؤلاء الأعلام والفقهاء المرموقين حكما قطعيا من أحكام الشريعة، وهل غاب عنهم أنهم يحللون الحرام ويتدخلون في أحكام شرعية قطعية الدلالة كما ادعت المذكرة؟، أم أنهم يرون أنه حتى على التسليم بإباحة التعدد، فإن منعه لأسباب موضوعية هو من صلاحيات ولي الأمر في “تقييد المباح”، وهي قاعدة مقررة عند الفقهاء، تؤيدها عدد من الوقائع والأحكام في التاريخ الإسلامي.
وبنفس المنطق الذي بنى عليه الحزب اعتراضه، يمكن القول أيضا أن تقييد التعدد ووضع عدد من الشروط التي تجعل وقوعه صعبا واستثنائيا هو أيضا مخالفة للشريعة الإسلامية التي لم تضع هذه القيود، ولم تجعل التعدد مقيدا ولا مشروطا بحسب القراءة التي يتبنونها لآية التعدد.
7-حذف مانع اختلاف الدين في الزواج
ترى مذكرة الحزب أن اقتراح مانع اختلاف الدين في الزواج يعارض منصوص القرآن، والذي جاء فيه “ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم” (سورة البقرة، الآية 221)، و ” يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن” (سورة الممتحنة، الآية 10).
والواقع أنه لا يمكن فهم هذين النصين إلا بمعرفة سياقيهما وأسباب نزولهما، فبالنسبة للآية الأولى فهي تتحدث عن تحريم الزواج بالمشركين، والنهي يشمل الرجال والنساء على السواء، فلا يحل لأحد منهما الزواج بمشرك، وما يجري على الرجل يجري على المرأة، فيما نعلم أنه من المجمع عليه إباحة زواج المسلم من الكتابية، وهو ما يعني أن الكتابي لا يندرج تحت وصف “المشركين”، وإذا جاز للرجل التزوج بالكتابية، جاز للمرأة أيضا التزوج بالكتابي حسب هذا المفهوم.
كما تؤكد نصوص القرآن الأخرى أن الكتابي لا يندرج تحت لفظ “المشرك”، كما في آية البقرة ” ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين”، وآية البينة ” لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة”، وآية المائدة “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا”، فواو العطف هنا تقتضي المغايرة والمخالفة، مما يعني أن أهل الكتاب لا يدخلون ضمن المشركين.
بل من الواضح حسب استقراء كل النصوص القرآنية، أن لفظ “المشرك” لا يقصد به كل ما سوى الكتابيين، ولا يشمل كل الوثنيين، وإنما المقصود به المشركون الذين عناهم القرآن بذلك، أي مشركي قريش خاصة الذين عناهم الخطاب والنهي عن الزواج، بدليل قول الله تعالى في سورة الحج: “إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابين والنصارى والمجوس والذين أشركوا” ، والواو هنا أيضا تقتضي المغايرة، ففرق القرآن بين المشركين وبين المؤمنين والمجوس والصابئة، رغم أن المجوس والصابئة ليسوا من أهل الكتاب، مما يفيد أن “ال” في لفظ “المشركين” ليست للجنس، وإنما هي للعهد، أي لا يحل لكم الزواج من المشركين الذين تعرفونهم، وبينكم وبينهم عداوات وحروب.
وأما الآية الكريمة “يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن” ، فسبب نزولها أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمضى في الحديبية مع مشركي مكة عهدا، وكان من ضمن بنود هذا العهد أن من أتى النبي من أهل مكّة ردّه عليهم، ومن أتى أهل مكة من أصحاب النبي فهو لهم لا يردّوه عليه، وكتبوا بذلك كتابا وقعوا عليه.
وخلال هذه الفترة جاءت (سبيعة بنت الحرث الأسلمية) مسلمة، والتحقت بالمسلمين في أرض الحديبية بعد الانتهاء من توقيع العهد، فأقبل زوجها وكان كافرا، فقال: يا محمد، اُردد علي امرأتي، فإنّك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد فنزلت الآية  ” يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن” وأمرت بامتحان النسوة المهاجرات، فكن يستحلفن  أنها ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، وما خرجت إلاّ حبا لله ورسوله.
فاستحلفها النبي -عليه السلام- فحلفت بالله الذي لا إله إلاّ هو على ذلك، فأعطى رسول الله زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها عليه فكان رسول الله يرد من جاءه من الرجال، ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحنهن ويعطي أزواجهن مهورهن.
فواضح أنه يتعلق الأمر بوضع خاص، وهو سياق الحرب بين مشركي قريش ومسلمي المدينة، وصلح الحديبية الذي كان بينهما، فالحكم بمنع هذا الزواج مرتبط بهذا السياق، ومع انتفائه ينتفي الحكم.
ثم إن الحكم في الآية موجه إلى النبي عليه السلام للتعامل مع نساء في وضعية خاصة، وهن النساء المهاجرات والفارات من مكة إلى المدينة، حيث لم يكن من الممكن إرجاعهن، لما قد يتعرضن له من أذى واضطهاد من قريش ورجالها، وقد انتهى هذا الوضع الخاص للأبد، بحديث “لا هجرة بعد الفتح”، وانتهاء هذا الوضع الخاص الذي نزلت على إثره الآية.
ثم إن “الكفار” في هذا النص لا يعني عموم غير المسلم، بدليل قوله تعالى” لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهم”، فيما من المعلوم أنه يحل للمسلم زواج الكتابية بالنص والإجماع، وهذا يعني أن المقصود بالكفار هنا المشركين، بل مشركي قريش خاصة، ربطا للآية بسياقها التاريخي وسبب نزولها.
فلا يمكن مع هذا كله نسبة فهم معين وقراءة خاصة للنص إلى الشريعة الإسلامية، ودعوى أن مثل هذا الاقتراح يعارضها.

8- المنع الكلي لسماع دعوى ثبوت الزوجية
ذهبت مذكرة الحزب إلى أن اقتراح المجلس بالإلغاء الكلي دعاوى ثبوت الزوجية يشكل غلا ليد القضاء في معالجة الوضعيات الاستثنائية وحفظ الأنساب والنسل، كما أن اقتراحه بإلغاء مسطرة الإذن بتوثيق الزواج في المساطر العادية، ومنح ضباط الحالة المدنية صلاحية توثيق عقود الزواج مؤد إلى حذف كل ما يسهم في اقتران الزواج بالمرجعية الإسلامية وجعله مجرد عقد مدني على غرار الأنظمة الغربية.
وبغض النظر عن كون هذه القضية مسألة تختلف فيها الأنظار والرؤى، ولا تمس من قريب أو بعيد المرجعيات المؤطرة لتعديل مدونة الأسرة، فإن الغرض من هذا الاقتراح التصدي لظاهرة التحايل على مقتضيات التعدد وتزويج الطفلات بشكل عرفي، واعتبار وثيقة عقد الزواج الوسيلة الوحيدة المقبولة لإثبات الزواج.
وأما مقترح حذف مسطرة الاذن بتوثيق الزواج في المساطر العادية، فالهدف منه هو تبسيط إجراءات الزواج، وليس المقصود إلغاء الاختصاص الأصلي للعدول في توثيق عقود الزواج، وإنما تمديد نطاق هذا الاختصاص لضباط الحالة المدنية من أجل مواجهة حالة الاستثناء التي يتعذر فيها إيجاد العدول المختصين في توثيق عقود الزواج خاصة بالمناطق النائية، علما بأن تخويل ضباط الحالة المدنية هذا الاختصاص سبق تنظيمه في عدد من النصوص القانونية الصادرة خلال الحماية أو بعد الاستقلال، ومن بينها ظهير 4 مارس 1960 المتعلق بالأنكحة بين المغاربة والأجانب، كما أنه مقترح سبق أن تقدم به الدكتور أحمد الخمليشي في كتابه المتعلق بالتعليق على مدونة الأحوال الشخصية.
9- إثبات النسب
رأت مذكرة الحزب في اقتراح المجلس بجعل إثبات النسب عبر الخبرة الجينية، وعدم التفريق بين أطفال ناتجين عن زواج موثق وأطفال ناتجين عن علاقات خارج الزواج، مخالفة للشريعة الإسلامية التي تعتمد في إثبات النسب على حديث “الولد للفراش وللعاهر الحجر”، وأن مثل هذا الاقتراح من شأنه التشجيع على الولادة خارج الزواج.
والغريب في هذا الاعتراض أيضا أن مذكرة الحزب تنسب دائما اختياراتها وآرائها للشريعة الإسلامية، وكأنه أمر مجمع عليه لا اختلاف حوله، وتغض النظر عن الأقوال المخالفة رغم أنها تنتمي إلى نفس الحقل الفقهي، كما هو الحال في إثبات النسب للمولودين خارج الزواج، فهي قضية خلافية فقهية منذ العصر الأول للإسلام، وممن رأى أن ”ولد الزنا” يلحق بأبيه: الحسن البصري، وابن سيرين، وإسحاق ابن راهويه، وسليمان بن يسار، وإبراهيم النخعي. وهو اختيار ابن تيمية، ومال إليه ابن القيم من الحنابلة، كما نسبه ابن القاسم إلى الإمام مالك، وهو رواية ثانية عن أبي حنيفة.
وذهب إلى هذا القول جمع من المعاصرين، منهم ياسين الخطيب، ومحمد رأفت عثمان، وأحمد الخمليشي، وأحمد الريسوني المنتمي لنفس تيار الحزب، وسفيان بن عمر بورقعة وغيرهم.
وقد استدلوا على ذلك بما جاء في السنة النبوية من حديث الملاعنة الطويل، ومحل الشاهد منه قول النبي عليه السلام: “أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك ابن سحماء”، فجاءت به كذلك، فقال “لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن “. ففي هذا الحديث ألحق النبي الولد بأحد الرجلين لما لم تكن بينة، واعتمد على الشبه في إلحاقه بأبيه الزاني.
واستدلوا أيضا بما ورد عن عمر بن الخطاب أنه كان یلیط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام”.
إضافة إلى ذلك، فإن من مقاصد الشريعة رفع الضرر، والولد ليس له من ذنب أبويه شيء، وخلافا لما جاء في المذكرة، فإن ضرر عدم إلحاق الولد بأبيه ضرره عليه أعظم من الضرر الذي يلحق بأبيه “الزاني”، فهو ما زال مع الحياة حدثا، مقبلا على مخالطة أقرانه في المجتمع الذي يعيش فيه، فتحميله بما لم يذنب مخالف لمقاصد الشريعة ومبادئها العامة.
كما أنه ليس من مقاصد الشريعة وجود أولاد بلا آباء، لما يترتب على ذلك من أضرار نفسية واجتماعية وفكرية عائدة على الطفل والمجتمع، ولا دفع لذلك إلا بإلحاق الأبناء بآبائهم، مع وجود الطرق العلمية القطعية في تحديد النسبة بين الابن وأبيه البيولوجي.
ومن مقاصد الشريعة صيانة كرامة الفرد، والطفل الذي يجهل والده، يتعرض للوصم والتنمر والسخرية، مما يترتب عليه عدد من الأضرار النفسية والتربوية والخلقية، بسبب ما لا ذنب له فيه ولا وزر، ولا سبيل لعلاج ذلك إلا بإلحاقه بأبيه الذي جاء من مائه.
ومن مقاصد الشريعة أيضا العدل، وهذا الطفل هو من كسب الرجل والمرأة، فليس من العدل نسبته للأم وتسميتها ب “أمه”، وتحميلها واجب رعايته والنفقة عليه، في الوقت الذي يعفى فيه الأب من النسب ومن واجبات الأبوة.
ولقد اعتنى الفقهاء دوما بقضايا إثبات النسب، واستعانوا بكل ما لديهم من وسائل تحقق هذا الغرض، حفظا للأنساب من الاختلاط والضياع، فاعتمدوا الفراش والحمل والقيافة، واستدلوا على ثبوت النسب بأقل الأسباب، إلا أن النتائج مرتبطة بقوة الوسيلة، فكلما كانت الوسيلة قوية وسليمة كانت النتيجة أكثر نفعا وجلبا للمصلحة، فالأخذ بالخبرة الطبية مع نتائجها القوية والقطعية، أكثر تحقيقا لمقاصد الشريعة وأتبع للقواعد العامة.
وإذا كانت الشريعة قائمة على حفظ المصالح ودفع المفاسد، فقد ثبت بحكم الواقع ما في هذا الإلحاق من مصالح متعلقة بحفظ حقوق هؤلاء الأطفال، وحمايتهم من التشرد والضياع، وما في ذلك من دفع مفاسد تركهم للشارع، وتعريضهم للانحراف ومختلف الأضرار النفسية والمجتمعية، وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله.
وأما الانتقاد الموجه الى المذكرة بكون الاعتراف بالنسب غير الشرعي سيؤدي الى تشجيع الولادات خارج إطار مؤسسة الزواج، فإن الواقع يؤكد أن من أسباب تفشي هذه الظاهرة تحلل الآباء البيولوجيين من التزاماتهم تجاه الأطفال المزدادين خارج إطار مؤسسة الزواج.
10- تزويج الأطفال
ترى مذكرة الحزب أن اقتراح المجلس بالإلغاء الكلي لزواج القاصر وتجريمه وتجريم المشاركة فيه مبني على أحكام قيمة سريعة وتبسيطية غير مسنودة بأي معطيات علمية موضوعية، كما أنه يتعارض مع شرعية الزواج في الإسلام، ومع قوانين دول أخرى بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تقيد أغلب ولاياتها الحد الأدنى للزواج.
وأما القول بأن اقتراح المنع لا يستند إلى أي معطيات علمية موضوعية، فيمكن ببساطة العودة للدراسة التي أعدها المجلس الوطني لحقوق الإنسان نفسه بشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان بتاريخ نوفمبر2022 تحت عنوان “المبررات القضائية المعتمدة في تزويج الطفلات”، والدراسة التي أعدتها رئاسة النيابة العامة حول زواج القاصر بتعاون مع اليونسيف نوفمبر 2021، وتقرير المجلس الاجتماعي والاقتصادي والبيئي سنة 2019 تحت عنوان “ما العمل أمام استمرار تزويج الطفلات بالمغرب؟”، وكلها تقارير وطنية أثبتت مختلف الأضرار الناتجة عن هذا الزواج.
وأما تعارض الاقتراح مع شرعية الزواج، فإنه متى ثبت أن هذا النوع من الزواج يؤدي إلى مفاسد محققة جاز لولي الأمر منعه، من باب أن ” الحاكم يقيد المباح”، وأن تصرفاته وقرارته منوطة بمصلحة الناس وحاجتهم، فإذا رأى الحاكم أن الزواج في سن معينة يجلب الضرر فله تقييده وضبطه بما فيه تحقيق المنفعة العامة.
كما أن منع الضرر واجب شرعا، ف “الضرر يزال” كما هو مقرر في القواعد الفقهية، وقد أجمعت التقارير والدراسات الصادرة من مختلف المؤسسات، على الضرر الكبير الواقع على الطفلة القاصر حال زواجها، فلا بد للشريعة من التدخل لمنع هذا الضرر أو تخفيفه، إذ “لاضرر ولا ضرار”.
ثم إن الشريعة قد قامت على جلب المصالح ودرء المفاسد، فحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله، وقد ثبت لدينا بما لا شك فيه، أن زواج القاصر يستجلب عددا من المفاسد، وأن منعه يحقق كثيرا من المصالح، فحق للحاكم -الدولة بالمعنى الحديث- التدخل لسن القوانين التي ترعى مصالح الناس وحياتهم.
والغريب أن مذكرة الحزب التي تنتقد في كل صفحاتها المنظومة الغربية والثقافة الأجنبية، تستنجد في هذه النقطة بالتشريعات الأمريكية، متجاهلة قوانين أغلبية دول العالم الغربي التي تجرم زواج القاصر، وكذا اتفاقيات حقوق الطفل التي وافق عليها المغرب والتزم بمقتضياتها، والتي تعتبر مثل هذا الزواج جريمة، بل حتى العمل القضائي بالمغرب ذهب إلى اعتبار زواج القاصر في عدد من القضايا هتكا للعرض واتجارا بالبشر.
11- الطلاق والتطليق
اعتبرت مذكرة الحزب اقتراح المجلس بحذف التمييز بين الطلاق والتطليق والإبقاء على التطليق القضائي مخالفة صريحة للنص القرآني الذي أسند الطلاق للرجل، وأنه لا يمكن إلغاء الطلاق الرجعي الذي يوقعه الرجل وليس القضاء.
لكن ما لم تتنبه له مذكرة الحزب، هو أن الاجتهاد في تغيير نظام الطلاق قد بدأ مع مدونة الأسرة 2004 التي وافق عليها الحزب بالإجماع، وأن نظام التطليق بسبب الشقاق أو الاتفاق الذي جاءت به يتناقض أيضا مع ما فهم من النصوص المستدل بها، والتي لم تفرق بين الطلاق والتطليق، وجعلت الطلاق للرجل مطلقا، وليس ذلك للقاضي إلا في حالات خاصة جدا، وبالتالي فإن توسيع مبدأ التطليق ليس إلا استمرارا لهذا الاجتهاد الذي بدأ مع المدونة السابقة، بناء على أن الواقع العملي أثبت أن مساطر التطليق للشقاق ومساطر الطلاق الاتفاقي أصبحت الأكثر استعمالا من طرف الأزواج الرجال، عوض مسطرة الطلاق الرجعي .
إضافة إلى ذلك، فإن مدونة الأسرة الحالية جعلت كل أنواع الطلاق والتطليق خاضعة لرقابة القضاء، وبالتالي لا يمكن لأي شخص أن يوقع طلاقا دون اللجوء الى القضاء، بما في ذلك الطلاق الرجعي، على خلاف ما كان عليه الأمر سابقا، وما هو مقرر في المدونات الفقهية من كون الرجل يمكنه إيقاع الطلاق لوحده وإرجاع الزوجة إن أراد دون العودة للقاضي، أما المدونة فتشترط اليوم في الطلاق الرجعي استدعاء المحكمة للزوجين، والقيام بمحاولة الصلح، وعند تعذر ذلك تأذن للزوج بتوثيق الطلاق لدى العدلين.
12- النفقة
تعتبر مذكرة الحزب أن اقتراح المجلس بالتنصيص على تحمل الزوجين معا لواجب الإنفاق على الأسرة مخالفة لصريح النص القرآني الذي حدد القوامة وأسندها للرجال، وهذا الاعتراض إن صح يجب على الحزب توجيهه لمدونة الأسرة الحالية التي وافق عليها، والتي ألغت مفهوم القوامة الذي تضمنته مدونة الأحوال الشخصية السابقة، حيث نصت في المادة الرابعة على أن “الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة”، وفي المادة 51 على أنه من ضمن الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين “تحمل الزوجة مع الزوج مسؤولية تسيير ورعاية شؤون البيت والأطفال”، وفي المادة 54 على أن من حقوق الأطفال على الوالدين “النسب والحضانة والنفقة طبقا لأحكام الكتاب الثالث من هذه المدونة”، وبالتالي فإن هذا الاقتراح ليس إلا محاولة لتحقيق الملاءمة بين نصوص مدونة الأسرة.

13- النيابة القانونية
ادعت مذكرة الحزب أن اقتراح المجلس بجعل النيابة القانونية مشتركة بين الزوجين، سواء أثناء قيام العلاقة الزوجية أو بعد انفصالها، يمثل معارضة لمقاصد الشريعة الإسلامية بشأن الولاية الشرعية، مع عدم وجود حاجة مجتمعية لمثل هذا الاقتراح، كما أن إسناد الولاية للأب وحده في حالة الانفصال هو أهم مدخل لاستمرار العلاقة بين الأب والطفل.
ولم تحدد المذكرة هنا هذه المقاصد الشرعية التي يتحدثون عنها، فهل من مقاصد الشريعة حصر النيابة في الأب ومنع الأم من تدبير شؤون أطفالها حال غيابه ولو أثناء قيام العلاقة الزوجية، بل حتى على المستوى الاعتباري والمعنوي أي مقصد في حصرها في الرجل مع أن الزواج حسب تعريف المدونة نفسها تحت رعاية الزوجين، وعليهما معا مسؤولية رعاية شؤون البيت والأطفال؟
ومن يدعي أنه ليس هناك حاجة مجتمعية لمثل هذا الاقتراح، فلينظر إلى عدد من الشكايات التي تتلقاها المراكز الحقوقية والجمعيات المختصة حول هذا الموضوع، خصوصا في حالة الانفصال وإسناد الحضانة للأم، حيث تمنع من تدبير شؤون محضونها، سواء في الإجراءات الإدارية أو المالية، لدرجة تعرضها للابتزاز أحيانا من طرف الأب، وهو ما يتنافى مطلقا من تحقيق المصلحة الفضلى للطفل وهي التي راعاها الاقتراح وجعلها مستندا لطرحه.
ثم متى كان استمرار العلاقة بين الأب والطفل رهينا بنيابته القانونية عليه، علما أن الأب يتحمل مسؤوليات أخرى حتى بعد الانفصال، من رعاية وتربية وحرص وحماية، مع حقه في التواصل والزيارة حسب ما تنظمه مقتضيات المدونة.
14- تعديل المادة 400 من مدونة الأسرة
انتقدت مذكرة الحزب اقتراح المجلس بتعديل المادة 400 من مدونة الأسرة، والتأكيد على “إعمال آلية الاجتهاد البناء، مع مراعاة العدل والمساواة والمصلحة الفضلى للطفل وعدم التمييز، وقيم الدين الإسلامي الحنيف بما يتلاءم والمستجدات الحقوقية والقيم الكونية”، بدعوى أن محاولة الملاءمة بين قيم الإسلام والمستجدات الحقوقية هو عدم تسليم بكون الأحكام الشرعية قائمة على العدل والإنصاف دون حاجة لهذه القيم الكونية”.
والغريب أن مذكرة الحزب في مواطن مختلفة من فقراتها، تزعم أن المجلس تجاوز التوجيهات والرسائل الملكية، في الوقت الذي اعتمد فيه المجلس في هذا الاقتراح نص ما جاء في عدد من هذه الرسائل، والتي من آخرها الرسالة الملكية السامية الموجهة الى المشاركين في المناظرة الدولية المنعقدة بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة والتسعين للإعلان العالمي لحقوق الانـسان، والتي نظمها المجلس الوطني لحقوق الانسان بالرباط، بتاريخ 07 دجنبر 2023، والتي جاء فيها : “وعلاوة على ذلك، دعونا لإطلاق مشاورات مجتمعية واسعة، لمراجعة مدونة الأسرة، بعد مرور عقدين من الزمن على إقرارها، بما يصون حقوق المرأة والطفل، ويضمن مصلحة الأسرة، باعتبارها نواة للمجتمع، وذلك بناء على قيم ومبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام، النابعة من الدين الإسلامي الحنيف، مع إعمال آلية الاجتهاد البناء، لتحقيق الملاءمة مع المستجدات الحقوقية، ومع القيم الكونية ذات الصلة”، وهي نفس العبارة المستعملة في اقتراح المجلس.
ثم إن مذكرة الحزب تريد تجاهل القيم الكونية والاتفاقيات والمعاهدات الدولية بشكل كامل، وعدم اعتمادها مطلقا كأحد مرجعيات مدونة الأسرة، علما أن المغرب قد صادق رسميا على هذه الاتفاقات ، ويخضع لمراقبة دورية حول التزامه بمقتضياتها، بل منها ما وقعت عليه الحكومة التي كان يرأسها حزب العدالة والتنمية نفسه، فهل يريد الحزب من الدولة المغربية التنصل من اتفاقات التزم بتحويلها لقوانين وطنية؟
وأما ادعاء المذكرة بأن الاستناد على أحكام المذهب المالكي يمثل ضمانة لوحدة واستقرار المجتمع، ويوحد الاختيارات المؤطرة للاجتهاد، ففضلا على أن المذهب المالكي يتضمن أقوالا وآراء متعددة في مختلف القضايا، فلم لم يقدم الحزب هذا الاعتراض سنة 2004 حين وافق على مدونة الأسرة وهي تشمل عددا من القوانين التي تخالف المذهب المالكي، والتجأ فيها إلى مذاهب فقهية أخرى، فقد اعتمدت المدونة مثلا على المذهب الحنفي في إلغاء ركنية ولي المرأة في عقد الزواج، بل والخروج عن المذاهب الأربعة، واعتمدت المذهب الظاهري في تعميم المتعة في الطلاق، بل إن المدونة أحيانا خرجت حتى عن المرجعية السنية، ووافقت المذهب الشيعي في إسناد الحضانة للأب بعد الأم، وخرجت عن الموروث الفقهي بكل مذاهبه حين شرعت “الوصية الواجبة”، في مخالفة صريحة لقواعد الإرث المتفق عليها، والتي من أهمها وفاة المورث قبل الوارث، وفي الوصية الواجبة يأخذ الأحفاد نصيب والدهم المتوفى من جدهم الذي لا زالت حياته قائمة، كما يتم توريث أولاد البنت وليسوا من المستحقين حسب القواعد التقليدية للإرث، لأنهم أدلوا بأنثى، والقاعدة أن كل من أدلى بأنثى لا يرث، ويستثنى من ذلك الإخوة لأم، فهذه أمثلة كثيرة عن المرجعية الفقهية الواسعة للمدونة، ويتم إعمالها اليوم في مختلف محاكم المملكة، دون أي تهديد لوحدة المجتمع واستقراره.
15- التوصيات المتعلقة بتجويد الصياغة القانونية
انتقدت مذكرة الحزب دعوة المجلس لتجويد الصياغة القانونية، وتفادي استعمال العبارات التي تشكل مسا بوضعية المرأة أو الطفل أو الأشخاص في وضعية إعاقة، بدعوى أن هذا الاقتراح يشكل انزعاجا من المجلس من المتن والخطاب القرآني.
فيما لم تتنبه مذكرة الحزب إلى أن ديباجة مدونة الأسرة الحالية قد نصت في ديباجتها على أنها تبنت صياغة حديثة بدل المفاهيم التي تمس بكرامة المرأة والطفل، انطلاقا من التوجيهات الملكية الواضحة في الباب، ومنها قول جلالته في الخطاب الملكي السامي بتاريخ 10 أكتوبر 2003” “لقد توخينا في توجيهاتنا السامية لهذه اللجنة، وفي إبداء نظرنا في مشروع مدونة الأسرة، اعتماد الإصلاحات الجوهرية التالية: أولا: تبني صياغة حديثة بدل المفاهيم التي تمس بكرامة وإنسانية المرأة..”، فليس هذا المطلب إلا استكمالا للجهد الذي بذل في المدونة السابقة، والذي كان بأمر من صاحب الجلالة، وليس انزعاجا من المتن والخطاب القرآني، إذ  تم حذف عدة مصطلحات واستبدالها بمصطلحات أخرى، مثل النكاح الذي عوض بمصطلح الزواج، والدخول الذي عوض بمصطلح البناء.
ثم إن هذه المصطلحات، وإن ورد بعضها بالمتن القرآني، فلا يمكن تجريدها من سياقها التاريخي، حيث لم تكن يومها ماسة بكرامة المرأة أو الطفل، ومن أهم ما جاءت به الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة ضرورة مراعاة التطور الذي عرفه المجتمع المغربي، وذلك ليس فقط على مستوى المضمون، وإنما أيضا على مستوى الصياغة القانونية.
16- الاغتصاب الزوجي
انتقدت مذكرة الحزب اقتراح المجلس بإدراج الاغتصاب الزوجي في القانون المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، واعتباره شكلا من أشكال العنف الممارس ضدها، بدعوى أن هذه الاقتراح يسعى إلى تفكيك الأسرة، فضلا عن غرابته على المجتمع المغربي، علما أن عددا من المحاكم المغربية قد أصدرت عدة أحكام قضت بتجريم الاغتصاب الزوجي، كما في الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف سنة 2019، والذي قضت فيه بتجريم الاغتصاب الزوجي، وألغت حكما ابتدائيا سابقاً كان قد كيف فعل الاغتصاب الزوجي إلى الإيذاء العمدي في حق الزوجة.
وإذا كانت المحكمة الابتدائية قد قضت بعدم تجريم هذا الفعل، وكيفته بوصفه عنفا زوجيا، فإن مقترح المجلس يريد وضع حد لتفاوت المحاكم في تكييف هذا الفعل، بما يحترم مبدأ الشرعية الجنائية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *