وجهة نظر

فلسطين حرة.. إحراق المحرقة

أسس “تتش كوان دك” تجربة سياسية في الاحتجاج على الإلغاء المعنوي والمادي/الإبادة. الراهب البوذي الذي انتفض ضد فرض “دين الغرب” (المسيحية) على دين فييتنام (البوذية)، في وقت كانت الحرب بين الشمال الشيوعي والجنوبي الليبرالي تستعر، وأمريكا تضع لمساتها الأخيرة على الانخراط فيها.

لن يكون مهندس البرمجيات في سلاح الجو الأمريكي، آرون بوشنل، آخر من يختار الاحتجاج عبر إحراق الذات، طريقا لرفض أسلوب إدارة أمريكا لمظلوميات الجنوب.

لقد حاول كفرد تركيز رسائل احتجاج المسيرات الشعبية التي تصنعها الأكثرية المحكومة، وتوجهها إلى القلة الحاكمة، ومفادها “أنا عضو عامل في القوات الجوية الأميركية، ولن أكون مشاركا في الإبادة بعد الآن، سأقوم بفعل احتجاجي عنيف، لكنه لا يقارن بما يلاقيه الفلسطينيون من مستعمريهم”.

الموت حدث مليء بالرموز، ولربما ساق القدرلآرون رموزا تجعله حيا بين الناس، أولها؛ مكان الاحتجاج، وهو سفارة إسرائيل في أمريكا، ثانيها؛ استعمال النار في إحالة على “المحرقة”، وثالثها؛ ارتداء اللباس العسكري، ووضع القبعة على الرأس بعد سكب مادة سريعة الاشتعال، بما يعني قيامه بالإحراق انسجاما مع قيمه العسكرية، رابعها؛ صرخة “فلسطين حرة” بعد إضرام النار، وأخيرا؛ البث المباشر على حساباته على التواصل الاجتماعي للعملية.

غير أن الأكثر رمزية في المشهد الجنائزي الذي اختاره العسكري، هو أن مواطنا أمريكيا ينتمي للعرق الأبيض،والدين المسيحي البروتستانتي، هو صاحب هذه الفعل الاحتجاجي، وهذه التضحية.

ويمكن أن نضيف إليها،ما نشرته جريدة “نيويورك تايمز” عن حياة آرون بوشنل، نقلا عمن وصفته بصديقه، حيث تقول بأنه كان “مسيحيا متدينا جدا”.

يعكس سلوك العسكري الراحل، مع ما صاحبه من رموز، انهيارا شاملا للسردية “الشهيدية” اليهودية، وسردية العام سام الأمريكية، الذي ينقذ العالم عبر يتدخل تحقيق العدالة، وفي الخلفية يقضي على السردية الحضارية الغربية، التي قامت على ادعاء التفوق الأخلاقي على باقي الأمم.

سيكون من الظلم للإنسان الغربي الرافض للإبادة، التوقف عند حالة آرون، لأن هناك انتفاضات يقوم أفراد ومجموعات وشعوب لصالح غزة وفلسطين، نجح الإعلام في إيصال بعضها إلينا، أدناها التضييق القانوني في عدد من المؤسسات السياسية على دعم إسرائيل (البرازيل، وكولومبيا، وجنوب أفريقيا، إسبانيا، النرويج، إيرلندا..)، وأعلاها رفض التجنيد في جيش الاحتلال ولو عبر التعرض للسجن، أو تبرع سجين بـ 17 دولارا في أحد سجون كاليفورنيا.

هذه الأفعال تتجاوز هدمالسردية القديمة، بل تؤشر للشروع في بناء سردية جديدة، قائمة على رفض الشراكة الغربية في الإبادة، وقدسية المقاومة المسلحة، وتأسيس الحق الفلسطيني في الحياة والحرية والدولة كاملة السيادة.

لقد استغل اليهود الاضطهاد وبعده المحرقة التي تعرضوا لها في أوروبا، لانتزاع دعم غير مشروط من كل مؤسسات المجتمعات الحديثة للحق في فلسطين (يهودا والسامرة)، وبنوا من أجل ذلك صروحا غير قابلة للمساس، وأصبح إنكار المحرقةونتائجها السياسية، جريمة توجب العقوبة في أغلب دول العالم.

غير خاف على أحد اليوم أن ما يتعرض له الإنسان في غزة منذ 8 أكتوبر، فاق بدرجات كبيرة ما يُحتمل أن يكون تعرض له اليهود في كل تاريخهم على الأرض، بما في ذلك الادعاءات حول المحرقة النازية أثناء الحرب العالمية الثانية.

إن الجذر اللغوي “ح ر ق”، الذي سبق واستغل بشكل انتهازي من قبل اليهود وإسرائيل بعد حرب 1945، أصبح اليوم سلاحا احتجاجيا ينفذه مواطن مسيحي أبيض تعاطفا مع غزة، يصرخ أمام سفارة إسرائيل، وبلباس الجندية الأمريكي “فلسطين حرة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *