مجتمع

الطبيب المغربي زهير لهنا يروي لـ”العمق” تجربته في غزة ويكشف قصصا مؤلمة (حوار)

رشيدة أبومليك – محمد عادل التاطو

روى زهير الهنا، الطبيب المغربي المتخصص في الجراحة النسائية والتوليد، تجربته في التطوع الطبي الإنساني خلال العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، كاشفا عددا من القصص المؤلمة التي عاينتها شخصيا داخل وخارج المستشفيات.

الطبيب المغربي الذي يكرس حياته للعمل الإغاثي التطوعي في عدد من بلدان العالم التي تعرف حروبا وأزمات، أمضى زهاء شهر متطوعا في علاج الحوامل والأطفال الرضع داخل مستشفيات مدينتي خانيونس ورفح، خاصة التشفى الأوروبي ومستشفى الأم والطفل، حيث أشرف على عدد كبير من العمليات الجراحية والولادة.

وكشف الطبيب الهنا في حوار مع جريدة “العمق”، أنه بعد شهر في غزة، طُلب منه أخيرا الخروج من القطاع، مشيرا إلى أن ما عاشه في القطاع كان الأسوء طيلة 25 عاما من تجربته في مناطق الحروب النزاعات، معتبرا أن ما يقع في غزة سيبقى وصمة عار إلى الأبد.

وأشار إلى أن من بين القصص المؤلمة التي عاينتها شخصيا، وفاة سيدتين من النساء الحوامل، بسبب عدم توفر الإمكانيات الطبية اللازمة للحالات الخطيرة جدا، لافتا إلى أن عبارة “أتذهب وتتركنا؟” التي خاطبه بها زملاءه الأطباء والممرضين بغزة أثناء وداعه لحظة خروجه من القطاع، أثرت فيه بشكل كبير جدا.

والطبيب لهنا الذي درس في المغرب وعمل في فرنسا متخصصا في الجراحة النسائية، وأستاذا مساعدا بجامعة باريس، له تجربة تزيد عن 25 سنة في إنقاذ أرواح المدنيين في مناطق الحروب والكوارث والأزمات، حيث عمل طبيبا متطوعا في عدد من دول العالم، خاصة قطاع غزة وسوريا وأفغانستان واليمن والعراق.

وفيما يلي نص الحوار كاملا:

– بداية.. كيف تمكنت من الدخول إلى غزة؟

الذهاب إلى قطاع غزة كان لابد له، لأنني أعمل في الطب الإنساني منذ سنوات طويلة، خاصة مع منظمات دولية مثل “أطباء بلا حدود” و”أطباء العالم”، وقد زرت مناطق الحروب والأزمات كثيرا، وأساسا في اليمن وأفغانستان وسوريا وليبيا.

بالنسبة لقطاع غزة، سبق أن تمكنت من دخوله من قبل 4 مرات، اثنان منها في حربي 2009 و2014، ثم عدت الآن في العدوان المستمر حاليا، وقضيت شهرا هناك.

فمنذ انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر، جعلني أتوقع حدوث شيء جلل، خاصة بعد إرسال الولايات المتحدة أسطولا بحريا وحاملة الطائرات الضخمة، بالموازاة مع الزخم الأوروبي الداعم لإسرائيل، وأساسا الدعم البريطاني والفرنسي والألماني، فعلمنا أن الاعتداء سيكون قويا، في ظل التصريح بإغلاق الحدود وعدم إدخال لا مساعدات ولا وفود طبية.

لذلك، بحثنا عن طريقة للدخول إلى قطاع غزة المحاصر بشتى الوسائل، وقد تواصلت في هذا الصدد مع جمعيات أوروبية ومغربية.

بقيت أبحث عن طريقة للدخول، حتى توصلنا لبصيص أمل من طرف جمعية للمسلمين بأمريكا اسمها “رحمة”، والتي تمكنت من إدخال أول وفد طبي في أواخر دجنبر.

وبعد أن تسجلنا معها، تمكنا من الدخول يوم 20 يناير المنصرم، كان معنا أطباء أمركيين وبريطانيين وفرنسيين، وأغلبنا كان من أطباء عرب ومسلمين.

كان كل وفد يمضي 15 يوما ويغادر ليحل محله وفد طبي آخر من نفس الجمعية الأمريكية، لكني فضلت البقاء شهرا ليتسنى لي الوقت لأشتغل أكثر.

– أين كنت تعمل في غزة وكيف كانت أوضاعكم هناك؟

دخلنا في البداية للمستشفى الأوروبي في خانيونس والذي كان متاحا، لأن الحرب أصبحت طويلا جدا والشمال كان معزولا عن الجنوب، ورأينا ما وقع في مستشفيات الشفاء وكمال عدوان والمعمداني.

كنت ضمن 20 طبيبا دخلت معهم، كنا نقطن في المستشفى الأوروبي موزعين على 4 غرف فقط، لأنه كان مكتظا جدا بأزيد من 25 ألف مريض ونازح في كل مرافق المشفى، بل حتى في الدرج، ومن لم يكن يجد مكانا يضع شيئا شبيها بالخيمة ينام فيه، مع برودة شديدة في الليل.

كان فريق منا سيذهب إلى مستشفى ناصر، لكنه كان مطوقا بالدبابات والقناصة، لذلك أصبح الطريق خطيرا جدا لأن جيش الاحتلال لا يحترم أحدا، وقد قصف سيارات الإسعاف وعددا كبيرا من الأطباء والأطقم الصحية والصحفيين وغيرهم.

هذه الحرب أريد لها تعتيم إعلامي، لكن مع قوة ونجاعة الشعب الفلسطيني، فقد تمكنوا من توثيق وإرسال ما يقع إلى العالم.

– صف لنا الوضع في رفح

كطبيب نساء، كنت أذهب يوميا إلى مستشفى الأم والطفل بمدينة رفح التي تأوي كل نازحي الشمال، بعدما تحولت من مدينة 250 ألف نسمة إلى مليون و400 ألف.

كان النازحون يعيشون في بيوت صغيرة جدا، وكان كل 25 شخصا يتكدسون في غرفتين فقط، ومن لم يجد يذهب إلى المدارس التي كان كل فصل فيها يضم 4 إلى 5 عائلات، إلى جانب الخيام في الشوارع.

فعلا كان مشهدا مأسويا، بل حتى مياه الصرف الصحي طفت إلى الشوارع لأن المضخات توقفت بسبب قلة الوقود، والبلدية لم تكن تتمكن من جمع النفايات والأوساخ.

كانت رائحة كريهة في الشوارع وحالة مزرية، والسكان لا يستطيعون الاستحمام والأطفال متسخون ويحاولون جمع الأوراق والحطب لإشعال النار لطبخ ما تستطيع أسرهم جلبه من الطحين.

هذا شاهدناه في الجنوب الذي تدخله مساعدات قليلة، أما ما تصلنا من أخبار في الشمال الذي لا نستطيع الوصول إليه، فكانت مأساة حقيقية، لأن الناس صارت لم تكن تجد ما تأكله، وارتفعت حالات الوفيات بالمجاعة، ومرضى الأمراض المزمنة كالفشل الكلوي والضغط والسرطان والسكري، فقد تعرضوا لمضاعفات خطيرة ومنهم من توفي.

– ما هي أبرز القصص الإنسانية التي أثرت فيك؟

شاهدت بأم عيني وفاة سيدتين من النساء الحوامل، الأولى بسبب تمزق رحمها عقب وصولها متأخرة إلى المستشفى، ثم تعرضها لتسمم، لتفارق الحياة.

والحالة الثانية لسيدة توفيت بسبب عدم وجود الأنسولين، حيث ارتفعت نسبة السكر في دمها، وهو ما تسبب في وفاة جنينها، قبل أن تلتحق به بعد ذلك.

هذا دون الحديث عن الإصابات الخطيرة التي لم نستطع إسعافها، فكان المصابون يفارقون الحياة بعد ساعات أو أيام من وصولهم للمستشفى، كما يتم بتر أعضاء عدد من المرضى بسبب قلة الموارد الطبية.

هذا العدوان الغاشم على الناس العزل غير طبيعي في هذا الزمان، والمجتمع الدولي كله يشاهد ما يقع دون أن يفعل شيئا.

– لماذا تم إخراجكم من غزة؟ ومن طرف من؟

طُلب منا الخروج من طرف الجمعية التي دخلنا معها، لأنها كانت تأتي بوفود طبية متكررة، فكان لزاما علينا الخروج ليحل محلنا وفد جديد، لذلك لم تكن هناك وسيلة للبقاء أكثر، خاصة في ظل وجود ترتيبات للدخول والخروج من المعبر وما يتطلبه من الأمر من ضرورة الحصول على موافقات من طرف مخابرات الدول.

أنا أمضيت شهرا في مستشفى الأم والطفل، ولما كنت سأغادر ذهبت لكي أودع زملائي الأطباء والممرضين الفلسطينيين، فكانت الكلمة التي أثرت فيا هي “أتذهب وتتركنا؟”، كنت أنظر إليهم نظرة صعبة جدا، وأخبرهم عن سبب وظروف مغادرتي.

أنا أنوي العودة إذا تيسر الأمر في القريب العاجل مهما كانت الظروف، وهذا ما قلته لأصدقائي الأطباء والممرضين في قطاع غزة.

هؤلاء الناس محتاجين لمن يساعدهم ماديا ومعنويا وبالحضور والدفاع عن حقوقهم في المحافل الدولية ووسائل الإعلام.

– هل من رسالة توجهها للعرب والمسلمين

أقول إن ما يقع في غزة ليس ببعيد عنا، فهو الحلقة الأولى ويمكن أن تكون هناك فتن أخرى كبيرة في كل دول العالم العربي والإسلامي، وهذا أمر لا يخص النخب الحاكمة فقط، وإنما الشعب كذلك.

الكل يمكنه أن يبذل أقصى ما في جهده، وأضعف الإيمان هو أن يغير سلوكه، أما الدعاء فلا أحب عبارة “حنا غير كندعيو معهم”، لأن الدعاء هو أول شيء علينا فعله، ثم يغير الإنسان سلوكه.

ما يقع في غزة هو عملية لكسر كرامة الإنسان وتجريده من إنسانيته، فإذا قلبنا أن يكون الفلسطيني في غزة بدون إنسانية ولا كرامة فسنقبله على أنفسنا كذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *