وجهة نظر

يوم عادي في حياة ممرض

توقّعت مقدّمة النشرة الجوية أنّ المحرار سيسجّل خمسة و أربعين درجة مئوية ، و أعتقد أنّنا سننافس اليوم بعض مدن العالم الحارّة على الخمسين درجة ، و إن كانت بعض الاختراعات التكنولوجية مثل المكيّف و المروحة و الثلاجة تهوّن من وقع الحرارة على الإنسان ، فإنّ بعض الظواهر الاجتماعية و الانحرافات البشرية تزيد تحت المرجل جمرة أو جمرتين أو أكثر ، و بالأخص حين يكون هذا الإنسان بصدد أدائه مهامه .

قد تستطيع و أنت في الطريق إلى مقرّ عملك تجنّب الكلاب الضالّة بالسّير الهوينا دون النبس ببنت شفة و غضّ الطرف و اجتناب إظهار تعابير عدوانية ، فكيف ستتجنّب خلال أدائك مهامك استفزاز المرتفقين و المرافقين لهم ؟

و إن استطعت تحمّل العمل في حرارة تُجاوز خمس و أربعين درجة مئوية داخل البناء المفكّك و بدون مكيّف ، فكيف تستطيع و أنت تتصبّب عرقا و تتنفّس تلوّثا التظاهر بعدم سماع كلمات مهينة في حقّك و حقّ المهنة و حقّ كلّ المهنيين سواء تناهت أصداءها إلى مسمعك أو فجّرها أحدهم في وجهك ؟ و إن استطعت ذلك مرّة أو مرّتين أو ثلاث ، فهل تستطيع تحمّل أن يتكرّر ذلك مرارا خلال سنة أو سنتين أو سنوات ؟
كيف ستقنع مغسول الدماغ أنّ الدواء الذي يسأل عنه غير متوفّر مؤقّتا أو مطلقا ، و أنّ الخدمة التي يطلبها من صلاحيات مؤسّسات أخرى ؟ هل سيجديك التوسّل في سبيل ذلك بالتفسير المملّ المفعم بالخشوع و المودّة ، أو بالحلف الصادق بأغلظ الأيمان ، أو بسرد الروايات و الأساطير البيّن تهافتها ؟
و كيف تقنعه أنّ مهام المركز الصحّي يدور أغلبها حول الوقاية و ليس حول الاستشفاء كما يعتقد البعض و يسوّق البعض في وسائل الإعلام ؟ أليس من البلادة إن لم يكن من الوقاحة أن يحتجّ ذلك الزائر الذي تسلّم للتو قنينة أنسولين أو اثنتين أو خمس قنّينات يناهز ثمن كلّ واحدة منها مائتي درهم ، و يُزبد و يُرغد و هو يهمّ بمغادرة المؤسّسة الصحيّة لأنّه طلب مرهم عيون لا يتجاوز ثمنه خمسة دراهم ونصفدرهم تَعوّدَ استعماله فلم يجده نظرا لنفاد المخزون ؟

و كيف تقنعه قبل ذلك أنّه بصدد التعامل مع مهنيين في قطاع اسمه وزارة الصحّة تشتغل وفق سيّاسة معيّنة و برامج متعدّدة طوّرتها خلال سنوات تدندن كلّها حول صحّة المواطن ، مهنيّون تكوّنوا من أجل ذلك عدّة سنوات في معاهد و مدارس وجامعات و خضعوا لتدريبات و امتحانات قبل أن يباشروا عملهم ، و ليسوا مستخدمين في محلّات بقالة أو متاجر تسوّق أسمدة أو مواد فلاحية أو غير ذلك يشتغلون تحت شعار ما يطلبه المستمعون ؟

كيف ستقنع مائة أمّ تحمل كلّ واحدة منهنّ رضيعا و تجرّ صغيرا ، و ترافقها أمها أو حماتها و يلتحق بها زوجها من حين إلى آخر ليطمئنّ على الأسرة التي حضرت على بكرة أبيها من أجل تلقيح مولودها الجديد ؟ كيف ستقنع هذه الأمّة أن المجال لا يتّسع للجميع و الأكسيجين لا يكفي للجميع و أنّ الحمّام التقليدي أرحم من هذه البناية الضيّقة التي انتهت صلاحيتها منذ زمن على حدّ تعبير أحد الوزراء ، و بأن شخصين لا يمكن أن يقوما بالمهمّة إضافة إلى مهام أخرى بالسرعة التي يحلم بها المرتفقون ؟ كيف ستقنع هذه الأمّة التي تغلي من شدّة حرارة الصيف و حرارة العَجَلة أنّك و إيّاهم في المعاناة سواء ؟

كيف ستقنع من يعرقل السير العادي للمصلحة بضرورة إفساح المجال للآخرين ، و تُسابق إحساسه الكاذب بإهانة الطرد ؟ من أي قاموس ستنتقي الكلمات و العبارات من أجل ذلك إن نسج خياله الواسع نظرية المظلومية و (الحكرة) و أقنع بها نفسه غصبا ؟ كيف ستقنعه بطَرق أبواب الاحتجاج الحضارية بدل سلك قضاء الشارع ؟

و في نهاية المطاف هل تستطيع ضبط الأمن داخل المؤسّسة ، كما تعوّدت فعل ذلك مع النظافة ؟ و هل يعتبر الأمن ضمن مهامك في غياب من يخوّل له القانون ذلك ؟ و ماذا أنت فاعل حين تُترك وحدك في مواجهة ذي سوابق إجرامية أو متمارض أو مريض عقلي لم يتناول دواءه منذ مدّة عطّل المصلحة و جمّد حركة الخدمة ؟

لم أجد أبلغ من هذه الأسئلة لتوصيف بعض ممّا يعانيه الممرّض في حرب غير متكافئة ضد الزمن الرديء يدخلها كلّ يوم بعدد ضعيف و عدّة صدئة متهالكة و تغطية قانونية منعدمة أو ضعيفة، و قد تتزامن كلّ تلك الأحداث أو بعضها أو جلّها في يوم واحد ، هو يوم بدون أداة تعريف لأنّه لم يتحدّث عنه أحد أو نادرا ما تحدّث عنه غير صاحبه ، يوم أصبح عاديا من فرط التطبيع مع أحداثه ، في حياة نكرة لمهني لم يلتفت إليه أحد و لا يريد أن يعرفه أحد ، مهنيّ كلّما أصبح الملك لله أصبح لا يرجو منه تعالى سوى أن يمرّ اليوم بسلام ، و كلّما سمع القول الذي أضحى اليوم نادرا “الله يدوّز سرابسك على خير” أمّن ألف مرّة و مرّة لعلّ الله يستجيب الدعاء و تسلم الجرّة و لو في هذهالمرّة .