وجهة نظر

تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز

ضمن أبحاثنا في موضوع ترجمة القرآن الكريم من وجهة النظر الإسلامية، صادفتنا عدة إحالات تاريخية على مؤلفين ودارسين تطرقوا للمسألة من وجهة نظر علمية. لكن بسبب طبيعة الإحالات المتراكمة، يفقد الباحث كثيرا من عناصر رأي الكاتب أو المؤلف ورؤيته العامة التي لا تكون في الغالب بسيطة أو مختزلة. وعليه قمنا بالرجوع إلى عدة مؤلفين للتعرف على أفكارهم بالتفصيل ضمن سياقها الخاص والعام في المصدر. ومثال ذلك مقالنا حول فقيه اللغة ابن قتيبة الدينوري بعنوان “ابن قتيبة المفترى عليه” وخلصنا فيه أن الإحالة على مؤلفه لم تكن دقيقة ولا تصلح حجة لمن ساقها في موضع الاستشهاد.

أما هذه السطور فموضوعها مختلف إلى حد ما، ونود فيها التعليق على سطور لأحد أساطين الأدب والفكر في الحضارة العربية والإسلامية على مر العصور، أبو عثمان عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ. سطور أسالت مدادا كثيرا تحليلا وتعليقا وتمطيطا في بعض الأحيان، من باب تحميل الكلام ما لا يحتمل.

لنبدأ من البداية لمعرفة ما كتبه الجاحظ في سياق الكتاب وترتيبه، ففي الفصل بين الحيوان والإنسان تطرق لمواضيع مختلفة مرتبطة بالكتاب من الخط ونسخ الكتب والاعتناء بها وكتب المعاهدات وتخليد الأمم لمأثرها في الكتب وأمة العرب على وجه الخصوص وينتقل لموضوع الشعر ليدخل إلى موضوع الترجمة من بابه.

ثم يأتي الجاحظ على ذكر الترجمة فيقول: “ثم قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له: إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قاله الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على الجري، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها والإخبار عنها على حقها وصدقها. إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه، فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق، وابن ناعمة، وابن قرة، وابن فهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفع، مثل أرسطاطاليس؟! ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟!”

الملاحظة الأولى على كلام الجاحظ تركيزه على نوعين من الترجمة أو مجالين لها: ترجمة الشعر والفلسفة والمقارنة بينهما. على أن الحديث عن الشعر تم في سياق مثال حدي، نظري على كل حال،  يدل على الاستحالة، بينما الحديث عن ترجمة الفلسفة  أن يعتبر مثالا عمليا للتدليل على دعوى ترجمة الشعر.

وفيما يلي، يلتمس الجاحظ بابا آخر لدعواه، فيتطرق لما نسميه اليوم قضايا “الكفاءة اللغوية” التي يفترض في المترجم أن تكون ثنائية اللغة، ومسألة “التداخل اللغوي” وكذا “الكفاءة التخصصية” في معرفة الفروع العلمية الدقيقة، ويقول في ذلك:

“ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه. ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء.”

بعد أن يفرغ من تعداد القضايا، ولا أحبذ أبدا استخدام كلمة مشاكل لمدلولها السلبي، المتعلقة  باللغة والتخصص المعرفي، ينتقل إلى مجال أكثر “حساسية” يزيد من جسامة المهمة فيقول:

هذا قولنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله -عز وجل- بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه، حتى يريد أن يتكلم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقودا بالتوحيد، ويتكلم في وجوه الإخبار واحتمالاته للوجوه، ويكون ذلك متضمنا بما يجوز على الله تعالى، مما لا يجوز، وبما لا يجوز على الناس مما لا يجوز، وحتى يعلم مستقر العام والخاص، والمقابلات التي تلقى الأخبار العامية المخرج فيجعلها خاصية؛ وحتى يعرف من الخبر ما يخصه الخبر الذي هو أثر، مما يخصه الخبر الذي هو قرآن، وما يخصه العقل مما تخصه العادة أو الحال الرادة له عن العموم؛ وحتى يعرف ما يكون من الخبر صدقا أو كذبا، وما لا يجوز أن يسمى بصدق ولا كذب؛ وحتى يعرف اسم الصدق والكذب، وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أي معنى ينقلب ذلك الاسم، وكذلك معرفة المحال من الصحيح، وأي شيء تأويل المحال، وهل يسمى المحال كذبا أم لا يجوز ذلك، وأي القولين أفحش: المحال أم الكذب، وفي أي موضع يكون المحال أفضع، والكذب أشنع؛ وحتى يعرف المثل والبديع، والوحي والكناية، وفصل ما بين الخطل والهدر. والمقصور والمبسوط والاختصار؛ وحتى يعرف أبنية الكلام، وعادات القوم، وأسباب تفاهمهم، والذي ذكرنا قليل من كثير. ومتى لم يعرف ذلك المترجم أخطأ في تأويل كلام الدين. والخطأ في الدين أضر من الخطأ في الرياضة والصناعة، والفلسفة والكيمياء، وفي بعض المعيشية التي يعيش بها بنو آدم.”

لربما كانت هذه السطور الأشهر والأكثر نقلا عن الجاحظ. فهو يشدد بداية على حقيقة لا مراء فيها وهو الحساسية الشديدة  للترجمة في الكتب المؤسسة أو المتعلقة بالعقائد مقارنة بالعلوم الأخرى، فعليها يبني الناس دينهم.

ولا ندري على وجه التحديد هل كان يتحدث عن الأناجيل أو عن كتب عقائد النصارى وما تتضمنه من تصنيفات وخصائص قد تشكل مساسا بعقائد الناس. وهو ما يدل على أنه وإن لم يخصص فهو يتحدث عن الأناجيل وما يلف ترجمتها من إشكالات فلسفية كانت مثار نقاش كبير بين النخب العلمية والسياسية النصرانية شرقا وغربا وكانت أساسا لما انتقل إلى المسلمين من علم الكلام الذي انتشر وازدهرت سوقه قبل وأثناء حياة الجاحظ، وهو نفسه خاض فيه وتحزب لمذهب الاعتزال. وإن كانت العبارة عامة وتصلح لكافة المعتقدات، فمن المستبعد أن يقصد القرآن الكريم وترجمته في قوله “وهو قرآن” بل يقصد خبر السماء مقابل “العقل” على حد قوله، وذلك لكون النقاش حول ترجمة القرآن الكريم من العربية إلى لغات أخرى، على حد علمنا على الأقل، في هذه الفترة وقبلها لم يكن موضوعا يثير نقاشا واسعا حول ماهيته وفلسفته، بل اقتصر على مواضيع فرعية من قبيل القراءة بالترجمة في الصلاة بناء على سابقة الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه مع قومه في بلاد فارس.

ويواصل الجاحظ تعداد الشروط والصعوبات التي يجدها المترجم من حيث الأصل الذي يعكف على ترجمته من ناحية كونه مخطوطا:

“وإذا كان المترجم الذي قد ترجم لا يكمل لذلك، أخطأ على قدر نقصانه من الكمال. وما علم المترجم بالدليل عن شبه الدليل؟ وما علمه بالأخبار النجومية؟ وما علمه بالحدود الخفية؟ وما علمه بإصلاح سقطات الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب؟ وما علمه ببعض الخطرفة لبعض المقدمات؟ لا بد أن تكون اضطرارية، ولا بد أن تكون مرتبة، وكالخيط الممدود. وابن البطريق وابن قرة لا يفهمان هذا موصوفا منزلا، ومرتبا مفصلا، من معلم رفيق، ومن حاذق طب، فكيف بكتاب قد تداولته اللغاتواختلاف الأقلام، وأجناس خطوط الملل والأمم؟!”

يعرج الجاحظ في هذه الفقرة، والتي تليها وقد حذفناها تفاديا للتكرار والاستطراد، على مشاكل علمية متعلقة بالمخطوطات وما يشوبها من أخطاء النساخين والزلات المتراكمة في المقدمات والتي تصبح جزء من الكتاب وتعقد مهمة المترجم.

بعد الاستشهاد والتعليق، فإن المهمة التالية تتمثل في العثور على خيط ناظم لرؤية الجاحظ للترجمة ومنبع تصوره لها.

الحائك والبزاز

في واحدة من أشهر المناظرات في الشعر، دارت رحاها بين أمير حلب وفارسها وشاعرها سيف الدولة أبي فراس الحمداني وأبي الطيب المتنبي، لما أنشد المتنبي سيفَ الدولة قوله فيه (وقفت وما في الموت شك لواقف..) (والبيت) الذي بعده (تمرّ بك الأبطال..) أنكر عليه سيفُ الدولة تطبيقَ عجزي البيتين على صدريهما، وقال له: كان ينبغي أن تقول
وقفت وما في الموت شك لواقف           ووجهك وضاح وثغرك باسم.
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة              كأنك في جفن الردى وهو نائم”.

وبذلك يستعيد سيف الدولة رأياً نقدياً كان قد قيل من قبل ضد بيتين، وكانا لشاعر عربي كبير آخر هو امرؤ القيس.

والشاهد عندنا هو قول المتنبي “ومولانا يعرف أن الثوب لا يعرفه البزّاز معرفة الحائك؛ لأن البزاز يعرف جملتَه والحائكَ يعرف جملته وتفصيله. لأنه أخرجه من الغزْلية إلى الثوبية”.

وهذا مدخلنا للتعليق على أقوال الجاحظ في كتاب الحيوان ومحملها: فالجاحظ عندنا أديب عاشق للكتب والأخبار، متبحر فيها يقضي سحابة يومه وليلته بين صفحاتها حتى أنه كان يكتري حوانيت النساخين ويبيت فيها ليطالع المخطوطات، حتى أن بعض الروايات ذهبت إلى أن وفاته سببها سقوط بعض المجلدات عليه أثناء مطالعتها وعثر على جثته ومجلد على صدره. لكن صاحب كتاب الحيوان لم يكن مترجما قطعا ، ولم يعهد عنه أنه كان يعرف لغات أخرى عدا العربية وكان يقرأ ما يترجم إليها، وكانت الترجمة في ازدهار في عصره. بمعنى أنه لم يكن بتعبيرنا المعاصر ممارسا للترجمة بل مستهلكا لنتاجها.

وهذا في رأينا ملمح فاصل لتقييم آراء الجاحظ في الترجمة، فهو ينظر إليها نظرة قد تبدو “قاسية” على المترجمين المساكين لكنها مفهومة لمن ينظر إليها من الخارج، أي دون دخول معتركها. ينظر إليها نظرة قارئ خبير بذائقة أدبية مرهفة وزاد معرفي ومصطلحي متين، فيبدو له أن المترجمين لا يبلغون براعة المؤلفين في اللغة، بسبب التداخل اللغوي، ولا تبحر المؤلفين في دقائق العلوم التي يترجمون منها لعدم التفرغ لها دراسة كما صنع المؤلفون. وعلى نفس الشاكلة، يقوم الجاحظ بالرفع من سقف الصعوبة بالإشارة إلى خطورة العملية لما يخص الأمر معتقدات الناس وأديانهم لما لها من وقع كبير لا مجال لمقارنته بالترجمة في مجال عملي آخر، ثم يتطرق لمشاكل نسخ المخطوطات والمقدمات التي تختلط بالكتب.

فرأي الجاحظ في الترجمة رأي البزاز وليس الحائك، أي رأي المستخدم النهائي لمنتج الترجمة لا المنخرط في صيرورتها وإنجازها. فالممارس للترجمة يدرك أنها، شأن السياسة والحياة عموما، فن الممكن. أي أنها مسيرة من الصعوبات متعددة الأوجه وجب اتخاذ قرارات بشأنها. وهي قرارات مرتبطة بجملة إكراهات مثل الوقت والموارد المتوفرة للاستشارة وسياسة الترجمة من قبل المشرف عليها سواء كان مؤسسة أو ناشرا أو غيره… وممارسة هذه العملية تولد قطعا لدى المشتغلين عليها نوعا من النسبية للعمل بالنظر إلى أن القرارات المتخذة ليست بالضرورة بين صواب وخطأ، بل اختيارات اصطلاحية ولغوية وتاريخية وأسلوبية مع وجود خيارات أخرى يتم استبعادها لاعتبارات سياقية أو لوجستية.

وعليه، يكون رأي أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  رأيا نقديا معتبرا صادرا عن أديب ومفكر موسوعي، غير أنه غير مبني على تجربة ترجمية عملية بل تجربة قارئ نهم و”مكتبة تسير على قدمين” كما سمي الأديب الأرجنتيني الموسوعي خورخ لويس بورخيس بعد قرون. والله أعلم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *