وجهة نظر

القيامة الانتخابية.. في بعض أشراطها

على خلاف توقعات غير قليل من المتتبعين و”المحللين”، تطرق الخطاب الملكي -بمناسبة الذكرى 63 لثورة الملك والشعب-لقضايا دولية متعلقة بالتنمية والهجرة ومواجهة الإرهاب وارتباط المغرب بمحيطه المغاربي والإفريقي، في تقاطع جزئي مع محور السياسات الخارجية التي وردت في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 17 لعيد العرش؛ حيث حظي الوضع الداخلي، لاسيما الاستحقاقاتالتشريعية، بتوجيهات مهمة، اتجه أغلبها للنخبة السياسية؛ وهو ما أثار-حينها ومازال- الكثير من التأويلات بلغت درجة من الفوضى أسهمت في احتدام الصراع السياسيباعتباره أحد أمارات”القيامة” الواردة في ذات الخطاب.

ومع اقتراب السابع من أكتوبر (2016)، موعد الاستحقاقات التشريعية التي تعتبر -بإجماع- منعطفا مهما في التاريخ والنسق السياسي المغربي، مع ما تحمله من رهانات مختلف الفاعلين على كسبها والشهود على تحولاتها من موقع التدبير، لا يلمس المتتبع إلا مؤشرات النفس التصاعدي للصراع الانتخابي، الذي توظف فيه جميع الأدوات والأساليب؛ وهو ما يستدعي قراءة واقعية للأحداث المتشابكة المتسارعة، واستخلاص ما يستتبعها من المحددات والتوجهات التي ستحكم المرحلة المقبلة، خاصة في الزمن الذي يفصلنا عن إعلان نتائج الاقتراع. فما هي إذاً أشراط “القيامة الانتخابية” التي اكتملت لحد الآن؟!

أولا: اللغط المفضي للتيئيس ثم التبخيس:

يفترض أن يشكل الأداء الحكومي محور النقاش السياسي/الانتخابي خلال حملة التشريعيات، مع ما يحمله هذا النقاش من مساءلة جدية للأداء الحزبي-السياسي(موالاة ومعارضة) من طرف المواطن، وبما يعزز دورهفي العملية السياسية كمصدر للسلطة، ومن خلالها توثيق ارتباطه بمتابعة الشأن العام. لكن الواقع المغربي، في ظل “القيامة الانتخابية”، يبرز تغييبا كبيرالخطاب الأرقام وبالتالي التقييم الموضوعي لحصيلة الحكومة الحالية. فإذا كانت بعض أحزاب الأغلبية تسعى جاهدة لإبراز الأرقام الدالة في تطور أداء السلطة التنفيذية بين 2012 و2016، لاسيما الإصلاحات الهيكلية الكبرى على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتشريعي، من قبيل تراجع عجز الميزانية لحوالي 3% (مقابل 7.3% سنة 2012) وتراجع عجز الميزان التجاري دون 2% من الناتج الداخلي الخام (مقابل حوالي 9.3%) وارتفاع احتياطي العملة الصعبة لتغطية 8 أشهر (بدل 4 شهور)، وتحسين مناخ الأعمال والاستثمار وتنافسية المقاولات، وترشيد نفقات التسيير، وتحقيق عدالة مجالية في إنجاز البنيات التحتية، وإصلاح صندوق المقاصة وتوجيه الدعم والمنح المباشرة للفئات الهشة وفي وضعية صعبة (الأرامل والمطلقات، التلاميذ والطلبة، فئة من المتقاعدين، نظام “راميد”، ذووا الاحتياجات الخاصة…)، والرفع من الحد الأدنى للأجور والتعويض عن فقدان الشغل، وتوسيع التغطية الصحية والعرض الصحيمع تخفيض مهم لأثمنة أزيد من ألفي دواء، والنجاح –بمعية الأغلبية البرلمانية- في إعداد وإخراج ترسانة من القوانين التنظيمية والقوانين العادية، سواء تلك التي نص عليها دستور 2011، أو ما يهم منها تنظيم قطاعات وظيفية وضمان استدامة وفعالية المرافق العامة وتحسين خدماتها والولوج إليها،وتعزيز الشفافية وتكافؤ الفرص… الخ.

مقابل كل ذلك؛ فإن جل أحزاب المعارضة مازالت تتخبط في تصريحات وانفعالات وصفها البعض بـ”البهلوانية”، دون أن تقدم بدائل وإجراءات ملموسة في القطاعات التي تسجل فيها عجزا حكوميا، مكتفية في هذا السياق بأحلام متهافتة عن عزمها تسلم البلاد في “وضعية إفلاس” ومحاولة ترويج شعارمرحلي -عنوانه البارز “حكومة الإفلاس”- سرعان ما أصبح ذابلا أمام رغبة معلنة من أعلى سلطة سياسية بطموحالمغرب لولوج نادي الدول الصاعدة؛ وهو الطموح الذي جاءت الأرقام الأخيرة لبنك المغرب والمندوبية السامية للتخطيط لتعضده وتبرز مؤشرات سير الدولة في الاتجاه الصحيح نحوه.

وبالتالي، يظهر جليا أن التقييم الموضوعي للأداء الحكومي، لاسيما في القطاعات التي يترأسها المتحزبون، لا تصب في صالح المعارضة، وبالخصوص في صالح أجندات “التحكم” كما قد يراه حزب رئيس الحكومة؛ الشيء الذي يبرر اللغط والفوضى العارمة التي تطبع الحملة الانتخابية السابقة لأوانها، والتي قد تتجاوز التستر على منجزات الحكومة (بعد فشلتضييقها) إلى نشر خطاب التيئيس من العملية السياسية بين المواطنين، ومن خلاله تحجيم نسبة المشاركة الانتخابية يوم الاقتراع؛ وهو مبتغى لا يخفى عند العديد من الأحزاب التي تراهن على الدفع بالأعيان و”أصحاب الشكارة” (المال الانتخابي) لشراء الذمم وضمان أكبر قدر ممكن من مقاعد مجلس النواب، وبالتالي ضمان رئاسة الحكومة وأغلبية مريحة تزيح الإسلاميين من المساهمة في الحكم، وتغلق قوس الربيع الديموقراطي بالمغرب؛ أو على الأقل، خلق كتلتين متناقضتين ودفعهما -اضطرارا- للتحالف مع بعضهما (السيناريو 0) أو البحث عن خليط هجين لضمان الأغلبية (السيناريو 1). وفي جميع الأحوال،ستبقى البلاد رهينة لتدبير حكومة هشة مسيجة بتوازنات مكوناتها، ولا تقوى على النهوض بأدوارها الدستورية على الوجه الكامل، وبما يحقق “الاستقرار الديموقراطي” وينهي أمد “الانتقال الديموقراطي” الطويل !

ثانيا: هزات زلزالية في قالب التوظيف السياسي:

دائما في سياق “القيامة الانتخابية” الموسومة -في جزء منها- بفوضى التبخيس المفضي للتيئيس، لا يكتمل المشهد إلا بالتسجيل على بعض الأحزاب زلزالها، وتخرج الصحافة أثقالها، حتى يقول الناس ما لها؟!إذ لم -ويبدو أنها لن- تتوانى الكثير من الجهات الريعية (إدارية وحزبية واقتصادية) في استعمال كافة الأسلحة المتاحة، مهما كانت محرمة اجتماعيا-أخلاقيا أو قانونيا-سياسيا،لتلطيخ سمعة جزء من الفسيفساء الحزبي المغربي، دون اهتمام بضياع جمالية المشهد برمته، وحتى لو كان استثـناءً في بيئة إقليمية يكسوها بعض الرماد وكثير من السواد!

وفي هذا الخضم، لا يجد المتتبع -حاليا- إلا عناوين الزلازل التي تشق صف الأحزاب، مع استقالات هنا والتحاقات هناك، والترويج لفضائح أخلاقية في صفوف هذا المعسكر أو ذاك، وتسريب معطيات إدارية أو/وسرية ضد قيادات لصالح جهة أو أخرى، والاستعانة بخدمات أشباه “المحللين” لتغليف “تأويلات مخدومة” بمصطلحات أكاديمية فقيرة (فوضى التأويل)، ترفع فزاعة “الهيمنة السوداء” تارة وتطبّع مع “التزوير الأبيض” تارة أخرى في أفق تبرير تعددية هجينةحتى قبل الانتخابات!وقد طفت مؤخرا مؤشرات خطيرة عن بداية انخراط الإعلام العمومي المرئي في استدعاء واسترجاع صورة نمطية قديمة عن “السياسي” عبر برامج وأفلام لم ينفض عنها الغبار إلا في هذا التوقيت بالتحديد!!في مقابل ذلك، تعمل آلات دعائية مفضوحة/مكشوفة -عبر مواقع إلكترونية وصفحات اجتماعية- على تحوير المواضيع كلما اقترب النقاش العمومي من حصون الريع والفساد واحتدم حول آليات وأدوات الشطط والاستبداد، عبر افتعال لغط هامشيوإطلاق بالونات إلهاء من “بنك التمويه العام”(الدرك في الطريق السيار، زيرو كريساج، زفاف ابنة الوزير بوليف، التوشيحات… الخ).

وضمن نفس المعمعة، لابد لوزارة الداخلية أن تسجل حضورها -كما العادة- عبر بلاغات وبيانات موجهة، وإقالة أعضاء جماعيين مختارين في الزمن الانتخابي، مع غض الطرف على متحزبين يشتغلون بمنطق المافيات؛ ومنع أنشطة حزبية وفعاليات جمعوية دون سند قانوني، في استحضار مقيت للتعليمات الفوقية والتبليغ الشفوي خارج إطار القانون؛ بل إن بعض أعوان ورجال السلطة يشتغلون ضد حزب رئيس الحكومة لصالح غريمه في المعارضة، عبر دعم مرشحيه والدعاية لهم واستحضارهم في التدشينات الرسمية وإرجاع الغاضبين منقطع غياره (رغبا ورهبا) لبيت الطاعة.وقد بصمت الداخلية آخر قراراتها بمنع استطلاعات الرأي السياسية ووصفها بالمتحيزة (وهذه أكبر من أختها!)؛ علما أنها منذ مدة بعيدة كانت ومازالت تصب إيجابا لصالح منجزات الحكومة ورئيسها عبدالإله بنكيران. ما يجعل هذه الوزارة -بهكذا نشاطات- بعيدة عن الحياد ومتورطة في محاولة ترجيح نتائج حزب على آخر من جهة،ومنخرطة-بشكل إرادي أو لاإرادي- في مسلسل التبخيس والتيئيس من جهة أخرى!وإلا فهي مطالبةبإثبات العكس وتكذيب جميع هذه المؤشرات الظاهرة للعيان!!

ثالثا: شُدوه الفاعل السياسي والركون الذاتي:

وفي صورة أقرب للمرضعة التي تذهل عما أرضعت، يسجل الوضع الحزبي المغربي ترهلا لم يسبق له مثيل، خاصة في صفوف الأحزاب الوطنية؛ إذ تخلت الغالبية العظمى من الأحزاب عن أدوارها الدستورية والقانونية في تأطير المواطنين وإشراكهم في الحياة العامة، ما يفسح المجال السياسي أمام الموسمية التي تشكل “الدكاكين الانتخابية” أبرز سماتها؛ وهو نقد ذاتي لا يجب أن تقفز عليه الأحزاب في سياق التشخيص والتوصيف العام لحالة “القيامة الانتخابية”، مادام جزء كبير من هذه الأحزاب عاجزا عن تحقيق الديموقراطية الداخلية والتصالح مع الذات، ويسمح -إراديا أو تحت الضغط- بانتهاك استقلالية القرار الداخلي واستصدار الإرادة الحزبية، ويتعاطى مع الواقع السياسي بصيغة الانتظارية أو منطق التعليمات، بعيدا عن روح المبادرة التي تحترم إرادة القواعد والأنظمة والمساطر (على فرض وجودها). وأمام هذا “العجز الذاتي” وسريان مختلف “الأمراض الانتهازية” في الجسم الحزبي الشاذ الفاقد للمناعة المكتسبة؛ لا ينتظر من قيادات بعض الأحزاب إلا الوقوف المشدوه مع صف المتفرجين، وفسح المجال أمام “تغول” أساليب وأدوات التحكم من جديد، في انتظار التصفيق لمن يفوز !

إن المعركة التي يفترض أن يخوضها الفاعل السياسي في هذه المرحلة، وأكثر من أي وقت مضى، لا تتقزم في سجال انتخابي موسمي يزيد من شروخ الممارسة السياسية (حروب التزكيات، الكولسة…)، ولا أن ينغمس في الصراعات الهامشية المحشورة داخل حلبات ضيقة (اللوائح، العتبة، التقسيم الترابي…)؛ وإنما المعركة الحقيقية والمحورية تتمثل في كسب رهان التوعية المجتمعية، ومواجهة التغييب القسري للوعي السياسي تحديدا، حتى لا يبقى الناس سكارى، وماهم بسكارى !وتلك هي الفسيلة التي إن استطاع أن لا يقوم “الفاعل المدني” حتى يغرسها فليفعل ! وحينها فقط، يُتصور أن لا يحتمل الواقع -ذاتيا وآليا- كافة أشكال الفساد والاستبدادبله أن يطبع معها طمعافيالديموقراطيةوالتنمية والكرامة والعدالة الاجتماعية التيتبشربهابعض أبواقه -جهارا- عبر تقنين “الكيف/الحشيش”، وتغييب “الرأسمال البشري المغربي” -ماديا ومعنويا- عن واقعه المعيشوتطلعاته المشروعة! وما أكثر “الحشيش المعنوي” !!